}

عاموس عوز.. شرك اللغة الكولونيالية

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 20 أكتوبر 2017
استعادات عاموس عوز.. شرك اللغة الكولونيالية
لوحة للفنان الفلسطيني أسامة دياب

توطئة

دفعت ذكرى مرور نصف قرن على توسعة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ليشمل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، الصحافي الإسرائيلي الليبرالي جدعون سبيرو إلى إعادة نشر مراسلات قديمة تبودلت بينه وبين الكاتب عاموس عوز (المرشح الإسرائيلي الدائم لجائزة نوبل للأدب منذ عدة أعوام) في ربيع 1986 حول ضرورة التصدي للانتهاكات التي يقوم بها هذا الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني وخصوصًا الأطفال، وكشف خلالها الأخير عن مبلغ وقوعه في ما سماه سبيرو "شرك اللغة العبرية الكولونيالية" والتي، بموجب توصيفه، يحاول أصحابها الالتفاف على كل مظاهر البشاعة والظلم وانعدام العدالة الناجمة عن احتلال 1967 من طريق استخدام مصطلحات تجعل من الأعوج مستقيمًا ومن القبيح جميلًا.

وارتأيت تقديم ترجمة لمُعظم هذه المراسلات إلى قراء "ضفة ثالثة" لكونها تسلط الضوء على المواقف السياسية لعوز التي كان يتبناها ولا يزال مُواظبًا عليها:

المراسلات

كتب سبيرو:

قبل أكثر من 31 عامًا، وكان ذلك في 23 آذار/ مارس 1986، بعثت برسالة إلى جميع أعضاء الكنيست (البرلمان) بشأن قضية تنكيل ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الطفل الفلسطينيّ محمد أبو وردة، وهو طالب في الصف السادس الإبتدائي، عمره 12 عامًا ونصف العام، من سكان مخيم بلاطة للاجئين بالقرب من مدينة نابلس. وقد أرسلت نسخة من هذه الرسالة أيضًا إلى مجموعة من الأدباء ورجال الفكر (الإسرائيليين) ومن ضمنهم الكاتب عاموس عوز، الذي كان وقتئذ عضوًا في كيبوتس خولدا، غير أن عوز أعرب عن غضبه وإستيائه لكوني أزعجته بهذه القضية، ولم يدخر في انتقاد الرسالة ذاتها. وقد ولدت ردة فعل عوز هذه سلسلة مراسلات بيننا، طلب نشرها في صحيفة "دافار" (مُحتجبة) فاشترطت موافقتي بالنشر الكامل لهذه المراسلات، لكن عوز لم يحترم ذلك. ففي 15 حزيران/ يونيو من العام نفسه فوجئت حين طالعت في صحيفة "دافار" مقالة كتبها عاموس عوز عن المراسلات بيننا، وسط عمليات شطب جوهرية من رسائلي إليه، ولم تستجب الصحيفة من جهتها لطلبي بنشر كامل المراسلات. فضلًا عن ذلك أعاد عوز نشر مقاله ضمن كتابه "من منحدرات لبنان" (الذي صدر في عام 1987 عن دار النشر "عام عوفيد") وكذلك في الترجمة الإنكليزية للكتاب التي صدرت في عام 1990.

لكن المراسلات نشرت بأكملها في 4 تموز/ يوليو 1986 في صحيفة "جيشر" (جسر) الفلسطينية التي تولى المحامي زياد أبو زياد تحريرها وإصدارها باللغة العبرية، وبطبيعة الحال فقد كانت هذه الصحيفة  تُوزّع على نطاق محدود جدًا.

مؤخرًا عدت إلى قراءة هذه المراسلات ووجدت، بالرغم من مرور 31 عامًا على نشرها، أن ما ورد فيها ما يزال ذا صلة كما لو أنها كُتبت اليوم، لذا قررت في مناسبة مرور 50 عامًا على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة إعادة نشرها.

 

***

 

نص الرسالة إلى أعضاء الكنيست بتاريخ 25 آذار/ مارس 1986:

حضرة عضو الكنيست المحترم

أود إطلاعكم على قضية محمد أبو وردة البالغ من العمر 12 عامًا ونصف العام، وهو طالب في الصف السادس من مخيم بلاطة بالقرب من نابلس.

في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985 أجرى الجيش الإسرائيلي تفتيشًا في مخيم بلاطة، وقد بدأت عمليات التفتيش في الساعة الثالثة فجرًا، وقام الجنود باقتحام منزل عائلة أبو وردة. كان الأب والأم ينامان في إحدى الغرف، وفي غرفة ثانية كان ينام الطفل محمد مع شقيقيه ماهر (15 عامًا) وعُمر (23 عامًا).

أيقظ الجنود النائمين بالصراخ والركلات وعاثوا خرابًا أثناء التفتيش في البيت ومحتوياته، وخلال ذلك كله "عثروا" على سلاح خطر لا يعدو كونه خمسة كتب تناولت مواضيع سياسية مختلفة، واقتيد الأشقاء الثلاثة إلى معسكر الاعتقال في الفارعة، وجرت عملية الاحتجاز والتحقيق مع كل واحد منهم على انفراد.

بدأ التحقيق مع الطفل محمد في نفس اليوم ودار حول الكتب: لمن تعود ومن الذي أتى بها إلى المنزل؟ فكان جوابه: لا أعرف شيئا عن هذه الكتب.

تعرض محمد لسلسلة من أعمال الضرب والتعذيب، وضُرب في وجهه وبطنه. بعد ذلك بدأت مرحلة من التعذيب في الحمَّام (حمّامات... هل يُذكرك ذلك بشيء؟)، حيث اقتيد محمد أبو وردة كل ساعة، ابتداء من الساعة الرابعة عصرًا وحتى الحادية عشرة ليلًا، إلى حمّام بارد، وكان يخضع بين حمام وآخر للتحقيق من أجل انتزاع إفادة منه تدين شقيقيه في موضوع الكتب. فكانت التحقيقات مصحوبة بالضرب وبتقييده على كرسي وشبحه لوقت طويل وبأساليب أخرى من ابتكار الخيال الوحشي للمحققين الساديين. بكى الطفل وصرخ دون فائدة، وفقط بحلول الساعة الحادية عشرة ليلًا تركه المحققون وسمحوا له بالنوم في ظروف الاعتقال المخيفة والقاسية في الفارعة. استمر التحقيق مع الطفل محمد 12 يومًا، حيث اقتيد يوميًا لتحقيق طوال ساعتين، استجوب خلاله مرارًا حول موضوع الكتب وصلته بإلقاء حجارة، وكان التحقيق يجري معه يوميًا مصحوبًا بالضرب. بعد 12 يومًا توقف التحقيق لكن الطفل ظل مُحتجزًا في معسكر اعتقال الفارعة لستة أيام أخرى، أي أنه أمضى في الاعتقال 18 يومًا (تعرض شقيقاه أيضًا للضرب والتعذيب). منذ ذلك الوقت وحتى الآن اعتقل في مخيم بلاطة وحده قرابة 300 شخص، 80 بالمئة منهم قاصرون وقاصرات.

انظر ما الذي يفعله الاحتلال والسيطرة على شعب آخر بنا جميعًا. لقد تحول المحتلون الإسرائيليون إلى وحوش، غير مبالين تجاه معاناة وحقوق الآخر. أتوجه إليك كي تعمل من أجل تقصي الموضوع ومعرفة من هم المحققون الذين تواجدوا في معسكر الفارعة اثناء التحقيق مع محمد أبو وردة وتقديمهم جميعًا إلى المحاكمة. إن عدم القيام بذلك يجعلك شريكًا في مؤامرة الصمت والتستر، وسوف تتحمل المسؤولية عن استمرار دائرة سفك الدماء. إذا كنت ترغب بمعرفة أين ينشأ الجيل القادم للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، عليك أن تذهب إلى المعتقلات في الأراضي المحتلة فهناك ستجد الجواب.

وثمة سؤال آخر: كيف يمكنك أن تتعايش مع قوانين همجية تسمح باعتقال وحبس أطفال في السجون لفترات طويلة من دون أي إجراءات قضائية وأنت لست سياسيًا فقط، وإنما أب أيضًا؟ كيف سيكون موقفك لو كان ابنك أو ابنتك قد اعتقلا وسجنا في معسكر اعتقال وتلقيا معاملة كالتي عومل بها محمد أبو وردة؟ إن من واجبك أن تناضل دون هوادة من أجل مساواة حقوق الأطفال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بالحقوق التي يتمتع بها الأطفال في إسرائيل وأطفال الغزاة واللصوص (الذين يسمون مستوطنين)... لا يمكن محاربة العنصرية من دون اقتلاع التربة التي تنبتها. إن الاحتلال وواقع الأبارتهايد الذي نشأ برعايته هما التربة الخصبة التي تنبت وتغذي العنصرية. إن إسرائيل التي توفر الحماية لمن يقوم بتعذيب وقتل الأطفال، وتدوس بقدم فظة وثيقة حقوق الإنسان، تفقد الحق في محاكمة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم بحق الشعب اليهودي.          

جدعون سبيرو

***

 

رد عاموس عوز:

"مقاومة فلسطينية؟!" ليس هناك شيء كهذا!

6 نيسان/ أبريل 1986

إلى السيد جدعون سبيرو.. تحية طيبة

1-    أنا أؤيد إجراء تحقيق في القضية التي تحدثت عنها في رسالتك.

2- لقد تعاملت معي بعدم استقامة، فأنا لست عضو كنيست، ولست صحافيًا. ليست لديّ أي وسيلة لتفحص قضية تطرحها أمامي دون أن تكلف نفسك عناء تزويدي ولو بالتلميح بمصدر القصة ومن أين وصلتك.

3- ثمة بعض الصيغ والعبارات في رسالتك تبدو لي مخزية؛ فمن ينعت بدون تمييز المحتلين الإسرائيليين بصفة "وحوش" مثله في نظري كمثل من يطلق على الفلسطينيين "حيوانات تمشي على قدمين" أو "صراصير".

4- كمعارض لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المأهولة، فإنني أرفض التبرير، الذي تشف عنه الفقرة قبل الأخيرة، للإرهاب العربي الذي تسميه "مقاومة فلسطينية". وهذه "المقاومة الفلسطينية" لم تنشغل قطّ بضرب الأطفال، وإنما ركزت وعملت على قتلهم من دون تمييز، حتى قبل وجود الاحتلال وما إلى ذلك.

5- تشف إحدى فقرات رسالتك عن مساواة الاحتلال الإسرائيلي بالنازيين. وهذه مقارنة ديماغوجية وبائسة. فالعبارة الواردة في الفقرة (حمّامات... هل يذكرك ذلك بشيء؟) بغيضة حقًا، إلاّ إذا كنت تزعم أن الطفل أُميت بالغاز مع ملايين الأطفال من أجل صناعة الصابون الإسرائيلية.

6- على الرغم من تأييدي لإجراء تحقيق كما أسلفت، إلا أنني أزدري وأستنكر وجهة النظر الدعائية المجردة والفظة التي تُطل من كل سطر تقريبًا في رسالتك ومن ضمن ذلك التداعي النازي السفيه: إتهام الاحتلال الإسرائيلي بممارسة القمع والترهيب والتعذيب ومصادرة الحريات. إن "المقاومة" الفلسطينية هي المتهمة بتبني أيديولوجيا وأساليب إبادة جماعية. والنازيون ليسوا أناسًا وجهوا لليهود ضربات قوية في سياق مصادرة كتب. عليك أن تذهب وتراجع دروسك في البيت.  

عاموس عوز

(ملاحظة: من حقك نشر هذه الرسالة بأكملها أو حجبها. لا أسمح باجتزاء مقاطع منها فقط، أو باستعمال اسم الشخص الذي مهرها بتوقيعه وحسب)

***

سبيرو: لم تتصرف مثل إميل زولا

إلى حضرة عاموس عوز

28 أيار/ مايو 1986

إن رسالتك الموجهة إليّ تعتبر من دون أدنى شك وثيقة مهمة. لقد تصرفت بنفس الطريقة التي تصرف بها ذلك الروسي الذي أجاب في سياق ردّه على أسئلة محرجة حول الواقع الموجود في الاتحاد السوفييتي قائلًا: وماذا بشأن السود في أميركا؟!

أنت غاضب مني لأنني أزعجتك بعرض صورة بشعة مأخوذة من واقع الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أنت غاضب على المرآة بدلًا من أن تغضب حيال الصورة المنعكسة منها.

ادعيت أنني أتعامل معك بعدم استقامة وقلت: "أنا لست عضو كنيست، ولست صحافيًا. ليست لديَّ أي وسيلة لتفحص القصة التي سقتها دون أن تكلف نفسك عناء ذكر، ولو بالتلميح، مصدر القصة ومن أين وصلتك".

لقد اعتقدت ببساطة أنه سيكون واضحًا وبديهيًا لكل من يقرأ رسالتي أنني استمعت للقصة من الطفل نفسه، فإذا كنت قد أخطأت، فقد أصبح اللغز محلولًا الآن. ولكنني، فيما عدا ذلك، خاطبتك كي تقوم بتقصي وقائع الحكاية. تكهنت مسبقًا بأنك لست صحافيًا أو عضوًا في الكنيست. لقد توجهت إليك، وربما أخطأت في ذلك، لأنني اعتقدت بأنك تنتمي إلى فئة ما يسمى بـ"رجال الفكر" أو "المثقفين" وبأنك كاتب وأديب عبري يهودي ذو إحساس أخلاقي مرهف، اشتراكي وعضو كيبوتس مؤتمن على قيم إنسانية، ولذلك فإنه لن يهدأ لك بال إلاَّ إذا جرى تحقيق واف وجاد في القضية التي أُطلعت عليها.

لو كان إميل زولا قد تصرف وفق ما جاء في رسالتك إليّ، لما كانت قضية درايفوس قد كُشفت.

لم أتوقع منك أن تتصرف كإميل زولا وأن تصرخ في كل ساحات المدينة ومن فوق أسطح المباني بأن ظلما قد وقع ويجب تصحيحه. لكن ساورني أمل بأنك ستستخدم معرفتك بزعماء الدولة وتأثيرك وسمعتك من أجل إجراء تحقيق واف في القضية وتقديم المتهمين بالضلوع فيها إلى المحاكمة. هذا ليس كثيرًا بحسب مقياس الحصول على لقب "مُحب الشعب اليهودي" لكنه كثير جدًا في ضوء الواقع العنصري الذي يسمم حاليًا المجتمع الإسرائيلي. ولكن حتى هذه المساهمة المتواضعة من الصعب مع الأسف تحصيلها منك.

اسمح لي في هذه المناسبة بالرد على عدد من الجمل والعبارات في رسالتك. عبرت عن استيائك إزاء وصفي للمحتلين الإسرائيليين بأنهم "حيوانات متوحشة"، وقلت إن استخدام مثل هذه الألفاظ يماثل وصف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات تمشي على قدمين" أو "صراصير"، ولكن أين التناظر هنا؟ فالأوصاف والتسميات التي تسوقها كمثال تتسم بطابع عنصري نظرًا لأنها لا تميز بين الأفراد المكونين للشعب الفلسطيني، في حين أن استخدامي لمصطلح "حيوانات متوحشة" ورد فقط لوصف المحتل الإسرائيلي الذي يمارس القمع والسيطرة على شعب آخر، ولا يشمل جميع الأفراد المكونين للشعب الإسرائيلي. هل يتعين عليَّ تذكيرك بالحادثة التي سلط فيها مستوطنون كلابهم على قاض فلسطيني في الخليل؟ (وآمل أنك توافقني الرأي بأن المستوطنين هم ضمن قوات الاحتلال الإسرائيلي، أم أنك تختلف معي حول ذلك أيضًا؟!) ألا تتذكر الحادثة المفزعة التي رسم فيها جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي أرقامًا على أذرعِ فلسطينيين ومن ثم أرغموهم على الجلوس على أربعتهم والنباح كالكلاب؟! بما أنك لا تحب المقارنات بالنازيين (وهذا لا يريحني أيضًا) فإنه لم يبقَ لديَّ سوى طلب رأيك: من أين يستمد المستوطنون والجنود في تقديرك الإلهام في ممارساتهم وأعمالهم؟! أفلا يعكس وصف "حيوانات متوحشة" ما تحدثت عنه هنا أو في رسالتي إلى أعضاء الكنيست؟!

أنت رفضت أيضًا استخدامي لمصطلح "مقاومة فلسطينية" فيما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي وقلت إن "المقاومة الفلسطينية لم تنشغل قط بضرب الأطفال إنما ركزت على قتلهم، دونما تمييز حتى قبل دخول الاحتلال".

انظر كيف انجررت- أي عوز- إلى تعميمات عنصرية وسط شيطنة العدو. لقد تحدثت، من جهتي، عن المقاومة الفلسطينية في السياق الملموس للاحتلال الإسرائيلي، فيما بلغت أنت في وصف المقاومة الفلسطينية إلى حدّ اتهامها بممارسة "قتل الأطفال من دون تمييز". هل هذه هي الصورة الصحيحة؟ كم عدد الأطفال اليهود الذين قتلوا على أيدي المقاومة الفلسطينية في المناطق المحتلة عام 1948، وكم من الأطفال (الفلسطينيين) قتلوا على يد المحتل الإسرائيلي منذ العام ذاته؟! وفق هذا الحساب الدموي، لا تظهر إسرائيل في ضوء لطيف جدًا! وإذا ما وسعنا ميزان الأطفال القتلى إلى ما وراء المناطق المحتلة (في عام 1967) فإن وضع إسرائيل سيكون أخطر بما لا يقاس. فعدد الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الذين قتلوا وجرحوا في الغارات الإسرائيلية على بيروت وصور وصيدا ومخيمات اللاجئين في الحرب اللعينة في لبنان (1982)، يفوق الخسائر التي ألحقها الفلسطينيون باليهود منذ الهجرة اليهودية الأولى (إلى فلسطين في عام 1882). إن الصورة التي ترسمها كما لو أن العرب هم "الأشرار" واليهود هم "الأخيار" هي صورة سطحية مجردة تلائم أفلام الكاوبوي التي مثل فيها الرئيس رونالد ريغان.

لقد اتهمتني بأنني ساويت، كما يُستشف من العبارة الأخيرة من رسالتي، بين الاحتلال الإسرائيلي والنازيين، وهو اتهام مرفوض لديّ. فأنا، الذي هربت عائلتي من ألمانيا قبل خمس دقائق من اندلاع الحرب، حذر جدًا في هذا الموضوع وأعي حساسيته، وأختار بعناية شديدة الكلمات حتى لا أقع في فخ مقارنات ليست في محلها. ما زلت متمسكًا بكل ما كتبته في رسالتي إلى أعضاء الكنيست، فمن يوفر الحماية لمن يعذب ويقتل الأطفال ويدوس بفظاظة وثيقة حقوق الإنسان، يفقد الحق في محاكمة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم ضد الشعب اليهودي. أرفض الاستخدام المخادع والديماغوجي التي تقوم به فيما يتعلق بأسلوب التعذيب بالحمامات من جانب المحققين الإسرائيليين ضد الطفل الفلسطيني.

أقترح عليك توجيه مشاعر سخطك تجاه من يمارس تعذيب الفلسطينيين بصورة عامة، والأطفال بصورة خاصة، وليس تجاه من يحاول ويسعى إلى كشف ذلك من أجل وضع حدٍّ له.

يبدو أن ثمة دافعًا غير قابل للسيطرة، يجبرك على ذكر النازيين حتى في الأماكن التي لا حاجة فيها إلى مثل هذا الأمر، لا من حيث المضمون ولا من حيث الشكل أو النص. إن استخدامي لكلمات (احتلال، قمع، تخويف، مصادرة حريات، وما إلى ذلك) يأتي لكونها تصف كما يجب ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة هنا، وكما قلت سابقًا، أقترح عليك ألا تصب غضبك على استخدامي لهذه الكلمات وأن لا ترى فيها تداعيات نازية، وإنما توجيه استيائك وغضبك ضد الواقع الذي يولد ويستوجب استخدام مثل هذه الكلمات.

وإذا كنت تعتقد أنه لا تحدث في الأراضي المحتلة كل تلك الأمور والممارسات البغيضة التي تحدثت عنها في هذه الرسالة أو في رسالتي لأعضاء الكنيست، عندئذٍ لن يبقى أمامي سوى القول لك: عاموس عوز، اذهب وراجع دروسك في البيت.

جدعون سبيرو

***

عوز: لم أطلب "صليب" إميل زولا

4 حزيران/ يونيو 1986

مرحبا جدعون

سوف أنشر إذا سمحت لي قضية محمد أبو وردة وجوهر المراسلات بيننا، في صحيفة "دافار"، فلربما يساهم ذلك في إيضاح مسألتين: أولًا، قضية الطفل؛ ثانيًا؛ هل يمكن أن يكون هناك حسب تعبيرك "كاتب أو أديب عبري.. ذو حساسية أخلاقية.. مؤتمن على قيم إنسانية" إلخ.. دون أن يتعاطف مع ما تدعوه "حركة المقاومة الفلسطينية" ودون تبرير أساليبها وأهدافها؟

أرجو أن تعلمني في أسرع وقت إذا كنت تعارض نشر المراسلات في صحيفة "دافار".

عاموس عوز

ملاحظة: أنت مخطئ في مسألة واحدة، فأنا لا أريد الحصول منك على لقب "مُحب الشعب اليهودي"، ولا أيضا على "صليب إميل زولا". لنعد إلى المصطلحات معناها.

***

سبيرو: وقائع الوقوع في شرك اللغة العبرية الكولونيالية

القدس (داخل الخط الأخضر)

8 حزيران/ يونيو 1986

إلى حضرة عاموس عوز

تلقيت اليوم رسالتك وهأنذا أسارع إلى الرد. لا أمانع في أن تنشر المراسلات بيننا في صحيفة "دافار". لكنني أريد منك أن تضّمنها هذه الرسالة أيضًا.

كتبت في رسالتك أنك تريد التطرّق في مقالك أيضًا إلى كل الموضوع المتعلق بتأييد المقاومة الفلسطينية، ولأن هذا الموضوع بتسم بالحساسية يهمني أن أوضحه لك جيدًا. لا أريد تقديمي في صورة من "يؤيد المقاومة الفلسطينية"، لا سيما وأن هذه المقاومة تتخذ أحيانا أشكالًا وأساليب غير مقبولة لديَّ في قسم منها، ولذا أفضل تقديم نفسي في هذا السياق كمن يقر بحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.

لقد أدى الاحتلال الإسرائيلي الواقع على الشعب الفلسطيني منذ 19 عامًا إلى إفساد غالبية المجتمع الإسرائيلي، ومؤسسة الحكم الإسرائيلية، أخلاقيًا وقيميًا وسياسيًا. العنصرية الإسرائيلية لم تنمُ في فراغ، ومائير كهانا هو المعبرّ الوحشي عنها، لكنه ليس الوحيد قطعًا، فالعنصرية مغروسة عميقًا بين ضلوع الجسم السياسي الإسرائيلي ابتداء من حزب "هتحيا" مرورًا بحزب الليكود والأحزاب الدينية، وانتهاء بقطاعات واسعة مما يسمى حركة العمل الإسرائيلية. إذا كانت العنصرية لم تنم في فراغ، فما هي إذن الأرضية التي نمت فيها؟ في اعتقادي كل ذلك يكمن في الاحتلال المسخ الذي ربّى وكبّر العنصرية وكل ما يرافقها إلى المستويات المفزعة التي بلغتها حاليًا. هذا لا يعني أن كل شيء هنا قبل احتلال 1967 كان على ما يرام. فقد كانت هناك مشاكل وشوائب، لكن حجمها كان مختلفًا. وفي هذا الشأن فإنني أخالف عددًا من أصدقائي  المنتمين للجناح اليساري المناهض للصهيونية، والذين يرون خطأ متصلًا واحدًا من المؤتمر الصهيوني الأول وحتى أحداث الفترة الحالية.

إن اللغة الجديدة التي نشأت في إسرائيل في أعقاب الاحتلال (1967) هي جزء لا يتجزأ من عملية الإفساد التي تحدثت عنها آنفًا، ويمكن تسمية هذه اللغة باسم العبرية الكولونيالية. كما يمكن القول إن إسرائيل تبنت طريقة المصطلحات السوفييتية، والتي بموجبها يمثل الجيش الأميركي في فيتنام تعبيرًا عن عدوانية إمبريالية، في حين أن الجيش السوفييتي في أفغانستان يمثّل تعبيرًا عن مساندة أشقاء. لقد حاول صانعو العبرية الكولونيالية الالتفاف على كل البشاعة والظلم وانعدام العدالة من طريق استخدام مصطلحات تجعل من الأعوج مستقيمًا ومن القبيح جميلًا. وبناء عليه فإن اللغة العبرية الرسمية لا تعترف بمصطلح مناطق محتلة، وإنما تستخدم المصطلح التناخي "يهودا والسامرة"، في إشارة إلى أن هذه مناطق قديمة تعود إلى اليهود منذ الوعد الإلهي. وبما أنه لا توجد مناطق محتلة، فلا وجود أيضا لجيش احتلال، وهكذا ما زال الجيش على الرغم من كونه جيشًا محتلًا يسمى "جيش الدفاع الإسرائيلي". وطالما أن الجيش الإسرائيلي ليس جيش احتلال، فمن الطبيعي إذن أنه لا يمارس قمع سكان مدنيين ومصادرة حقوق الإنسان، وإنما يقوم فقط بـ"فرض" وتطبيق القانون ومنع الإخلال بـ"النظام". ومن هنا أيضا، طالما أنه لا يوجد احتلال، فلا يمكن أن تكون هناك مقاومة لاحتلال. وأنت، يا عاموس عوز، وقعت في هذا الشرك.

 في موازاة هذه اللغة الملتفة على القبح والبشاعة والمتحايلة عليهما، نشأت لغة تهدف إلى زرع البغضاء والتحقير والكراهية تجاه السكان الخاضعين للاحتلال. وبناء عليه فإن اللغة الرسمية للحكم العسكري الإسرائيلي تستخدم دائما مصطلح "محليين"، وتمتنع نهائيًا عن استخدام مصطلح "شعب فلسطيني". وهؤلاء "المحليون" لا يتظاهرون أو يحتجون أبدًا وإنما هم دائمًا إما "جمهور مُحرّض" أو "مشاغبون". وعندما يقوم جندي بإطلاق النار على هؤلاء المشاغبين ويقتل طفلًا في الخامسة من عمره أو امرأة، يعقب ذلك بصورة دائمة تقريبًا بيان مقتضب للناطق بلسان الجيش الإسرائيلي يقول: "اتضح من الفحص الذي أجرته سلطات جيش الدفاع الإسرائيلي أن الجندي لم يخرج عن تعليمات إطلاق النار المتبعة في الجيش". هكذا ببساطة. وهناك مواطنون قلائل جدًا يسألون أنفسهم: كيف تسمح أوامر ثابتة بإطلاق النار بقتل وجرح نساء وأطفال دون عقوبة؟

وبطبيعة الحال، طالما لا يوجد احتلال ولا توجد مقاومة لاحتلال، فلا يعقل أن يكون لدى الشعب الواقع تحت الاحتلال مقاتلون. فهؤلاء هم دائمًا إما إرهابيون أو مخربون أو قتلة. كذلك لا يعقل أن تكون لشعب غير محتل حركة تحرر وطنية، وإنما على الأكثر منظمات قتل وتخريب. هناك الكثير من الأمثلة التي يمكن عرضها بشأن لغة الاحتلال الكولونيالية التي ترسخت في إسرائيل، كالقول مثلًا إنه لا يوجد لدى الفلسطينيين مثقفون وإنما "وجهاء" و"متعلمون". وهكذا دواليك.

ما أسعى إليه هو إعادة المعنى الحقيقي للمصطلحات، فإذا كان شعبي يسيطر على شعب آخر، فلا بدّ من تسمية الولد باسمه، والولد هو احتلال وقمع. وإذا كان شعبي ينسف بيوت أُناس لم يقترفوا ذنبًا أو جرمًا، فيجب تسمية الولد باسمه: عقوبة جماعية آثمة. وإذا كان شعبي يقصف بالقنابل سكانًا مدنيين في بيروت وصور وصيدا، ويقتل آلاف المدنيين، ومن ضمن ذلك أطفال ونساء، فيجب تسمية ذلك باسمه: جرائم حرب، وإن من أصدر مثل هذه الأوامر هو مجرم حرب. وإذا كان شعبي يحرم شعبًا آخر من حقوق إنسان أساسية، فيجب تسمية ذلك باسمه: قمع ومصادرة حريات الإنسان. إن من يحاول تطهير شعبه من الإثم والخطيئة وإضفاء الشرعية على جرائمه يدخل في عداد فئة المنحطين الأوغاد الذين يجدون في الوطنية ملاذهم الأخير.

إن ما أسعى إليه هو محاولة إخضاع الصراع الشرق أوسطي إلى تلك المعايير المبدئية التي توجهني في تعاملي مع النزاعات والمشاكل في بقاع وأماكن أخرى من العالم. ومثلما أنني لا أقبل منظومة مصطلحات أنظمة كولونيالية في أماكن أُخرى من العالم، فإنني لا أقبلها في إسرائيل أيضًا. ومثلما أنني لا أقبل منظومة المصطلحات التي أوجدها نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، فإنني لا أقبل أيضًا مصطلحات مشابهة أوجدها نظام الأبارتهايد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولا يعقل أن يكون هناك خلاف أو جدل حول حقيقة أنه نشأ في هذه المناطق واقع أبارتهايد يوجد بموجبه قانون مجحف وقامع تجاه الفلسطينيين، وفي المقابل يوجد قانون آخر يعطي حقوقا زائدة للمستوطنين المحتلين.

ثمة حالات تقوم فيها المقاومة الفلسطينية بتنفيذ عمليات يولد طابعها لديَّ معارضة جديدة، وفي مثل هذه الحالات فإنني لا أُخفي رأيي أمام الفلسطينيين الذين أتحدث معهم، لكن لا أغفل أبدًا أن مصدر ذلك هو الاحتلال الإسرائيلي في المقام الأول. إنه الدُمل الذي يجب إزالته والمستنقع الذي يجب تجفيفه، وذلك هو التزامي الأولي.

إن المبدأ اليهودي القائل: "لا تفعل لصديقك ما تكرهه لنفسك"، لن يأخذ معناه الساميّ إلا إذا طبق بصورة عالمية. هذا ما أُحاول وأحرص على القيام به.

جدعون سبيرو

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.