Print
سناء عبد العزيز

توني موريسون.. لحم الحياة ودمها

8 أغسطس 2019
تغطيات
ليلة الاثنين 5 آب/ أغسطس الحاليّ، في مركز مونتيفيوري الطبي في نيويورك، لفظت توني موريسون، الأدبية المتوجة بجائزة نوبل، أنفاسها الأخيرة، عن عمر يناهز 88 عاماً بعد معاناة قصيرة مع الالتهاب الرئوي. ولم تكن موريسون فقط أول امرأة سوداء تحصل على نوبل عن مجمل أعمالها، التي أرخت من خلالها على مدار خمسة عقود للتجربة الأميركية الأفريقية، وكشفت عن حقبة مظلمة لماضي بلدها، ولكن كانت وستظل التجسيد الرائع للحم الحياة ودمها.

بذرة التحدي الأولى
يقع المنزل الذي وُلدت فيه موريسون عام 1931 على بعد حوالي ميل واحد من أبواب مصنع لورين للحديد في أوهايو؛ منزل الأسرة الذي كلف والدها مضاعفة فترات عمله في المصنع من أجل دفع الإيجار. ووفقا لما ذكرته صحيفة الغارديان البريطانية، كي يتمكن من إرسال ابنته إلى الجامعة تحدى مشرفه بتولي وظيفة نقابية.
التحقت موريسون بجامعة هاوارد لتحصل على بكالوريوس في الأدب الإنكليزي 1953، ثم الماجستير من جامعة كورنيل 1955، وبدأت رحلتها المهنية في جامعة تكساس الجنوبية ما

بين سنتي 1955 و1957، ثم العودة مرة أخرى للعمل في جامعة هاوارد، وهي أول سوداء تحصل على مقعد في جامعة برينستون المقصور حصرا على أساتذتها من الرجال البيض.
تزوجت موريسون من الجامايكي المعماري، هوارد موريسون، وأنجبت طفلين، وفي عام 1965، بعد طلاقها، انتقلت إلى سيراكيوز بولاية نيويورك وبدأت العمل كمحررة. وهناك أدركت موريسون أن الرواية التي أرادت قراءتها لم تكتب بعد، وكان عليها أن تشرع في كتابتها بنفسها.
في عام 1979 قالت لصحيفة نيويورك تايمز: "كان معي طفلان في مكان صغير، وكنت أشعر بوحدة شديدة. في المساء بعد أن يناما كنت أزاول الكتابة".

"العين الأكثر زرقة"
تفاجأت موريسون في سن الطفولة بأمنية صديقتها في المدرسة بأن تصبح عيناها زرقاوين مثل مورين وجوانا وميشلينا، زميلاتها من البيض في المدرسة. وظلت تلك الأمنية عالقة كبندول ساعة على رأس موريسون. وكانت بمثابة تلخيص لمفهوم الجمال العنصري وتجذره مبكراً في

كيانٍ هشٍ؛ طفلة سوداء تفتقر لأي لمحة من جمال، ساقتها المقارنة بينها وبين صديقاتها إلى إزدراء الذات، ثم التستر خلف حجاب كمصدر للراحة.
لم تبدأ موريسون الكتابة في سنٍ متأخرة، لكنها أخذت وقتا أطول من معظم الكتّاب لتنشر أول أعمالها، إذ صدرت "العين الأكثر زرقة" عام 1970 وهي في سن التاسعة والثلاثين، وفيها ظهر الحس الفكاهي المفعم بلحم الحياة ودمها. وحين لم تبع سوى 700 نسخة، قالت موريسون: "لم يكن لديّ سوى مخيّلتي وحسّ كبير من السخرية ومعاملة جليلة للكلمات".
اقتحمت موريسون عالم الأدب في وقت كان بحاجة ملحة إلى تلك الرؤية والمنظور المنسوج ببراعة، ولم تكن بأي حال من الأحوال أول كاتبة سوداء تتمتع بمثل هذا الوجود القوي على الساحة الأدبية في أميركا. ولكن "العين الأكثر زرقة" كانت حقا إعادة لترتيب المشهد الأدبي الأميركي على وجه الفور، هذا الصوت الذي لم يكن موجوداً من قبل، تلك الإيقاعات التي تخترق الشرائح المتشابكة لنمو العنصرية الأميركية.

الكهوف السرية لحيوات مجهولة
هكذا، ومع كل رواية جديدة، كانت موريسون تطلق الصدمات واحدة تلو الأخرى، تفجر الكهوف السرية لحيوات مجهولة، في نثر مترابط، مستنبط، لماح، قاس ووحشي.
في عام 1977، مع صدور روايتها "نشيد سليمان"، انضمت موريسون إلى كتاب بلدها

الأكثر شهرة مثل ريتشارد رايت، وسول بيلو، ورالف إليسون، وفيليب روث، وجيمس بالدوين، وهم الكتاب الذين تحدوا انعطاف الحلم الأميركي وتحويره.
ولكن مع روايتها "المحبوبة" في عام 1987، وهي العمل الذي اعتبرته صحيفة نيويورك تايمز سنة 2006 أفضل رواية في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، مُهرت مكانتها في الأدب الأميركي بشكل قاطع. "المحبوبة" تلك الرواية التي تفضي بك إلى معرفة كيف ينتهي بنا التدريب المتواصل على القسوة، العمل الذي عده المشهد الأدبي عملا غير مسبوقٍ بكل ما تحمله الكلمة من معان، سواء في سرده التلقائي أو في زاوية رصده لشابة من المستعبدين تقتل ابنتها لتجنبها سوء المصير. لذا ثارت كوكبة من أهم الكتاب في عصرها حين لم يحصل على أعلى تكريم في بلدها وتقدموا بعريضة يطالبون فيها بتكريم الرواية بشكل صحيح. لكن "المحبوبة" رواية تحوم فوق الجوائز وفق وصف الغارديان. لقد كانت ملحمة وطنية، اخترقت الحجاب بين الأحياء والأموات، وسمفونية للأصوات المتعددة، وجسداً ليس شاسعاً، لكن ينطوي على تكثيف رائع ونار لحيوية لا لبس فيها.

صائدة الجوائز
عندما فازت بجائزة نوبل للآداب في عام 1993، كانت قد نشرت ست روايات فقط، لكنها كانت كافية لافساح مساحة كافية على رفوف أدب العالم. وعلى مدار حياتها المهنية حازت على عدة جوائز، منها: جائزة بوليتزر، ووسام الشرف، وميدالية الحرية الرئاسية، التي قدمها لها صديقها باراك أوباما في عام 2012، وأصبحت أعمالها جزءاً من نسيج الحياة الأميركية كما تم إدراجها في مناهج المدارس الثانوية في البلاد.
الاستماع إلى موريسون وهي تقرأ أعمالها يمنح بعدا سريا آخر لجاذبيتها. لقد كانت مقاتلة أدبية في أعمالها التي انعكست فيها بوضوح الولايات المتحدة بحقائقها المسكوت عنها في المرآة السوداء.

شهادات عن موريسون
تقول الناقدة الزيمبابوية إيلا واكاتاما ألفري: في عام 2009 توليت التحرير في جوناثان كيب، راندوم هاوس. كنت أحب عملي وكتبي ومؤلفيَّ. واستهلكتني الرغبة في نشر كتب تحكي

قصص السود في بريطانيا أو نشر قصص من أفريقيا أو من شتاتها الواسع والمتنوع. كان الأمر صعباً، فلم أجد أحدا يشبهني في نفس الرغبة في ذلك الوقت. وأرسل لي صديق من نيويورك كتاباً يضم كتاباً أميركيين من أصل أفريقي؛ جيمس بالدوين، وريتشارد رايت، ونتوزاكي شانج، وتوني موريسون. في الصورة، كانت موريسون تجلس إلى مكتبها بتموجات لطيفة في خصلات شعرها، تفرد ذراعيها واسعا كما لو كانت في عجب وفرح، حيث كانت رئيسة تحرير في دار راندوم هاوس. لقد انتقلت الصورة معي من مكتب إلى مكتب.
تكمل ألفري: وصفت أختي مشاعرها بعد أن انتهت من قراءة "العين الأكثر زرقة": لقد استشطت غضبا لأن هذا الرجل الأبيض "توني" يعرف أدق أسرارنا. كان ذلك قبل وجود جوجل وكانت أصغر من أن تنتبه لأهمية قراءة سيرة المؤلف لتدرك أن موريسون امرأة سوداء. ظلت أختي على هذا الغضب حتى أرسلت لها (من كليتي في الولايات المتحدة) رواية موريسون "المحبوبة" عام 1987، إلى جانب خطاب أخبرها فيه بما كان ينقصها من معلومات. اليوم، نحن نهمس بالدموع عبر الهاتف عبر المحيط ونتذكر كاتبة قدمت لنا لغة غنية بما يكفي لوصف الحب والصداقة، علمتنا أن ننظر من أسفل عارضة السلم حيث واقع الأنوثة السوداء وأن نرى من أصعب هذه المنظورات وأعقدها الأكثر جمالا ورعبا من كل الحقائق التي تشكل الحالة الإنسانية.
وقالت الروائية أليس ووكر للغارديان: "لقد فقدنا كاتبة عظيمة تركت رواياتها الاستثنائية بصمة لا تمحى على وعي كل من يقرأها. يا لقوة أفكارها ومدى امتناننا لما قدمته لنا في هذا العصر الصعب للغاية".
أما إليف شفق فتحدثت عن مدى معاناة الكاتب في الاحتفاظ بمكتبته، حين تضطره الظروف للعيش في بلدان مختلفة ومدن عديدة طوال حياته: "شيء واحد سوف تجده صعباً ككاتب هو الاحتفاظ بمكتبة، ولكن أينما ذهبت، لا بد أن اصطحب معي رواية لها. العين الأكثر زرقة،

نشيد سليمان، المحبوبة، طفل القطران. إن كلمات موريسون تشعرني بالهدوء، حضورها مشجع، رؤيتها ملهمة. لقد كان لموريسون تأثير كبير علي. لا أخفي سرا، حلمت أن يكون بوسعي إخبارها بذلك في يوم من الأيام".
تكمل شفق: إن موريسون غيرت المشهد الأدبي ليس فقط في أميركا ولكن أيضاً من خلال الترجمات العديدة عبر العالم. ولا يعود الأمر فقط إلى رواياتها المنسوجة ببراعة. لقد كانت مقاتلة ولم تهب المجازفة. في حياتها الشخصية كان عليها التغلب على العديد من الحواجز - الجنس والعنصرية والطبقية. وكانت كروائية، ومحررة، واحدة من أهم مفكرينا البارزين.
في الآونة الأخيرة، في فعالية في دونت بوكس في لندن، رفعت أم شابة من السودان يدها وقالت إنها رغبت كثيرا في الاستمرار في كتابة الأدب لكنها وجدت صعوبة في ذلك مع تربية ثلاثة أطفال. قلت لها: "فكري في توني موريسون. تذكري ما قالته. ففي بعض الأيام، صحيح لا نتمكن من الكتابة، ولكن لا بأس في هذا. في أيام أخرى سنكون أكثر خصوبة وإنتاجا. في بعض الأحيان نعمل في الليل، وأحيانا خلال صخب النهار. نقوم بشق جيوب صغيرة من المساحات لأنفسنا، مثلما فعلت الكثير من النساء".
لقد حملت أعمال موريسون أصداء عن حياتها الخاصة، لكنها أصرت على ضرورة أن يكون الأدب حراً، وليس بالضرورة سيرة ذاتية. وعلى الرغم من أن أعمالها كانت متعددة الطبقات، متنوعة الموضوعات، إلا أنها كانت دائماً تكتب عن الحب - وجوده القوي أو غيابه المؤلم.
وكتب المرشح الديمقراطي للرئاسة بيرني ساندرز على موقع تويتر: "اليوم فقدنا أسطورة أميركية. أتمنى أن ترقد في سلام".
ووصفت مارجريت أتوود موريسون بأنها "عملاقة عصرها وعصرنا... وفي الظرف الراهن الملح الذي يتجدد فيه استهداف الأقليات في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى، فإن فقدنا لصوتها القوي هو مأساة لبقيتنا".
وكانت موريسون قالت عن نفسها تلك المقولة التي لا تموت بموت قائلها: "إن شخصي الأسود وهويتي كامرأة جعلا قلبي يجيش بمشاعر لا ينعم بها أحد.. فالإطار العالمي لم يتقلص لكوني كاتبة سوداء وامرأة، بل بالعكس اتسعت آفاقه".