Print
رفيق شامي

قدّيس الجبل

13 أغسطس 2019
ترجمات
كان المطر يهطل بشكل خجول تارة، وتارة بشكلٍ فضوليّ على زجاج النوافذ. نظر المفوّض "بارودي" قليلاً من مكان عمله، وهو جالس في مطبخه، عندما صارت القطرات شديدة مثل قرع الطبول.  كانت أوراق ومقص وقلم تخطيط وأنبوب من الصمغ تستلقي بجانب اللابتوب، على طاولة المطبخ، الذي يكون فيه فقط خلال عطلة الأسبوع. "طقس سيء"، تمتمَ، ولكنّه كان ممتنّاً لأنّه في شقّته الدافئة. فيما عدا الغناء النشاز والكارثيّ لجاره الذي يسكن فوق شقّته، مع آلة البوق، لكان الجو، مع الرغبات التي تسكنُه، تأمليّاً كما يتمناه. فكّر بارودي. حالما يُحال إلى التقاعد في شهر شباط/ فبراير القادم سينتقل للعيش في شقّة أخرى. هذه الشقة رخيصة، لكنّ الجدران يجب أن ترشح منها الروائحُ فقط، وليس الضوضاء.
المفوّض بارودي كان في منتصف الستينات من عمره، ولكن بنيته القويّة ونعومته، على الرغم من وجهه الجاد، تُبديه أصغرَ سنّاً. كان متوسّط الحجم ويميلُ إلى الامتلاء، وشعره الرماديّ كان خفيفاً. جبرهُ أجبرهُ حسر البصر الحاد على تحمّل ارتداء نظارات سميكة دائماً، ومنعه من استعمال عدسات لاصقة، لدرجة أنّ عينيه تبدوان كحبّتي بازلاء وقعتا في فطيرة من الزجاج!
ألصق للتو أوراق شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر من عام 2010 الجاري، وكذلك شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير من العام القادم، من أوراق التقويم الخاصة به، بالإضافة إلى ذلك كتب بقلم التخطيط: الأيام التي تسبق الإعفاء.
ثلاثة عشر يوماً في تشرين الأول/ أكتوبر كان قد تمّ شطبها، وفوق شباط/ فبراير تظهر كتابة صفراء مُشرقة: "أنا حر".
أخذ رشفة من "الموكا" التي تعبق برائحة الهيل، وعلّق التقويم على الحائط بجانب طاولة الطعام. من المسمار أعلى التقويم تدلّى قلم حبر مربوط بخيط.
انتبه بارودي، في تلك اللحظة، أنّ ما شطبه كان يوم أمس، يوم السبت، ليس يوم الأحد. وهكذا أخذ قلم الحبر وكتب حرف إكس كبير في الحقل المناسب.
"من هذا اليوم الأحد، الموافق 14 تشرين الأول، حتى الأول من شباط من عام 2011 يكون المجموع بالضبط 79 يوماً. هذا يعني بعد كلّ هذا..."، همهم وهو ينقر بعض الأرقام على الآلة الحاسبة في لابتوبه: 79*24*60*60= 6825600 ثانية. صفّرَ من خلال أسنانه. "حوالي سبعة ملايين خفقة قلب حتى أصل إلى التقاعد".
بعد أن نظّف الطاولة ممّا عليها، طلب البارودي من محل لبيع الوجبات وجبة كفتة مع الرز
والسلطة. وتساءل، كيف أنّ الوجبة أحضرها الرسول (عامل توصيل الوجبات) بسرعة. "هل تملكُ سجادة طائرة؟"، سأل بارودي الرجل وأعطاه بخشيشاً كبيراً.
"شكراً يا سيدي. لا. لا أملك سجادة. ولكن درّاجة ناريّة جيّدة".
السلطة كانت غير طازجة نوعاً ما، بالمقابل طاب له الطعام الذي كان يغلي بسخونته. واختتم ذلك بشرب كأس من النبيذ الأحمر المُعتّق. سكب لنفسه ما تبقى من النبيذ الأحمر في الزجاجة، ورماها فارغة في سلّة القمامة. ملأ وعاء صغيراً بالفستق المملّح، ثم وضع كلّ شيء على صينيّة صغيرة، وحملها إلى غرفة المعيشة، حيث جلس على الصوفا المقابلة للتلفاز. تنقّلَ من قناة إلى أخرى. فجأة توقّف، ثم رجعَ يتنقّل، لأنّه لاحظ، في الثانية الأخيرة، العنوان المعروض: "علاج ما لا شفاء منه".
كان من البرامج الحواريّة الجادة القليلة التي شاهدها بين الحين والآخر. أُعجب بالمُحاور، وهو صحافيّ قديم وشهير. ولأنّه يقوم بتحضير برنامجه بشكل ممتاز، ويتعاطى معهم بكلّ جدّية، يأتي الخبراء إلى برنامجه بكل سرور. يُعرض برنامجه "تحت العدسة المكبّرة" مرّة واحدة في الشهر على التلفزيون الحكومي.
كان بارودي محظوظاً؛ لأنّ العرض كان قد بدأ للتو، وهو عن "قديس الجبل" الشهير ونجاحاته. من خلال وضع يده لا يُعالج فقط الأمراض "العاديّة". هذا يعني أنّه يُساعد، مع استخدامه سائلاً سحريّاً، في علاج حتى الأمراض السرطانيّة. مُقدّم البرنامج كان قد دعا مريضين وكذلك بروفيسورين شهيرين في الطب، كانا قد فشلا في علاج هذين المريضين، قبل أن يدفعهما يأسهما الكبيرين للبحث عن قديس الجبل في شمال البلاد.
"لقد دعونا اليوم شاباً أصيب بشلل نصفي بعد حادث سير، وسيّدة كانت مصابة بسرطان شديد. ماذا عن السائل الذي يستطيع علاج المشاكل الصحيّة، والتي عجز الطب الحديث في علاجها؟"، سأل المُقدّم قبل أن يُجيب بنفسه "يُقيم قديس الجبل في كنيسة قديمة تقع في "ديركاس"، وهي مدينة صغيرة تقع جنوب غربي مدينة حلب. وراء المذبح يوجد كهف صخريّ، والذي آوى إليه في الماضي القدّيس بولس. في ذلك الزمن كانا (الكنيسة والكهف) ضمن غابة. كان القديس بولس، خلال أحد أسفاره، قد هوجم من قبل عصابة وجُرح. بأنفاسه الأخيرة استطاع أن يلجأ إلى الكهف. سال الماء من شقّ وشفى جراحه، كما تقول الأسطورة. وشفى بعدها الآلاف من المرضى. فيما بعد بنى أحدهم كنيسة حول الكهف، والتي هُدمت من قبل البرابرة. قبل عشر سنوات قام أتباع قدّيس الجبل ببناء الكنيسة مجدداً، والآن صار الينبوع في المتناول".
"ولكن الشيء المُدهش، سيّداتي وسادتي، أنّ قديس الجبل هو مسلم! الكثير من المسلمين المتشدّدين لا يعترفون به، ولكنّهم يُرسلون إليه سرّاً أقاربهم المرضى". قال المُقدّم مع ابتسامة تُبرزُ عينيه الذكيّتين.
لم يكن الشاب كثير الكلام، واستطاع أن يُعبّر عن سعادته بالشفاء بتأتأة واضحة. لقد مشى خلال الاستديو دون أيّة مساعدة، وأعطى انطباعاً راسخاً بأنّ قدّيس الجبل يملك قوّة إلهيّة!
أظهرَت صور بالأبيض والأسود، اُحتفظَ بها في الكاميرا، حالة المريض بعد الحادث؛ صورة له وهو في المشفى، وصورة أخرى وهو على الكرسيّ ذي العجلات. بعدها صورة ملوّنة له بعد لقائه قديس الجبل. لقد عاودَ لعبَ كرة القدم. أكّد طبيب العظام الشهير هذا التطوّر الإعجازيّ.
المريضة التي إلى جواره كانت سيّدة جذّابة في الأربعين من عمرها، وتُعاني من سرطان الأمعاء. بعد الجراحة والعلاج الكيميائيّ حصل عندها تحسّن طفيف، ولكن سرعان ما انتشر الورم بعد ذلك. أكّد طبيبُها، الذي جلس بقربها، التشخيص الميؤوس منه في ذلك الوقت، وأشادَ بشجاعة مريضته. قال، صراحة، بأنّه تردّد كثيراً في قبول الدعوة لهذه الحلقة. هذا النوع من
العلاج، الذي يُسعده بالطبع، يطرح تساؤلات كثيرة حول العلاج التقليدي.
في ربيع هذا العام نبّهتها صديقتها إلى قدّيس الجبل، قالت السيّدة: "ممَّ عليّ أن أخاف. ما عاد عندي شي لأخسره". ثمّ ذكرت كيف كان لقاؤها مع قديس الجبل، وكيف حدّثَها طويلاً عن رغبتِها في العيش وخططها المستقبليّة. "سأعطيكِ الحب والقوّة، وأنتِ ستهزمين السرطان". قال لها وعانقها. وضعَ يديه اللطيفتين على رأسهَا وظهرها وبطنها، ورتّلَ صلاة بلغة غريبة.
كان لها الكثير من اللقاءات مع قدّيس الجبل خلال الأسابيع الثلاثة التالية. وخلال هذا الوقت كان عليها أن تصوم بانتظام، وسُمح لها أن تتواجد معه في الكهف، وأن ترتشف فقط رشفة قويّة من ذلك الإكسير.
قصّت السيّدة، بشيء من الدعابة، كيف كانت تجتاز محلات الكباب والشاورما والفلافل، وكيف كانت تلتهم روائحها بنهم. تحدّثت عن رغبتها العارمة في الأطعمة الشهيّة وعن الجوع الذي كان ينهشُهَا.
"عندما لا تحصل معدتي على أيّ شيء، فينبغي، على الأقل، على أنفي ورئتيّ أن يتمتّعوا بالرائحة".  قالت السيّدة. فضحك الجمهور الحاضر في استوديو التلفزيون، وكذلك بارودي.
في الأسبوع الرابع كانت قد شُفيَتْ!
أكّدَ البروفيسور كلام السيّدة. لقد فُحصت بالكامل مرّتين من قبله ومن قبل ثلاثة من زملائه، وكلّهم من الأطباء المشهود لهم بالكفاءة في معالجة الأورام السرطانيّة، ولم يعثروا على أيّ ورم عندها!
"وهكذا تمكّنتُ من الضحك من جديد، وبلا قلق، مع زوجي وأولادي الثلاثة". أردفَت السيّدة وبدأت تبكي بهدوء. جارُها، الشاب الذي شُفي، ربّتَ على كتفها بحنان.
بدأ بارودي أيضاً بالبكاء. ربّما حدث ذلك بسبب النبيذ، وربّما بسبب وحدتهِ.
"كان ينبغي عليكِ أن تُنصتي لي"، قال بارودي بصوته الخشن. "بسمة". زوجته الحبيبة. كانت شابة عندما أصيبت بسرطان الأمعاء. بمجرّد أن استسلمَ الأطباء، اقترح أن يذهبوا إلى مُعالج شهير في لبنان. كان ذلك قبل ستة عشر عاماً. في ذلك الوقت لم يكن قدّيس الجبل معروفاً بعد.
لكنّها رفضت ذلك. ثمّ قالت: "حبيبي، أفضّل الموتَ في سريري على الذهاب إلى دجّال. أعطني يدكَ. يدُكَ بالنسبة لي هي أكبر مساعدة".
أطفأ بارودي جهاز التلفزيون. ثمّ همسَ بشوق: "بسمة".


* "قديس الجبل" هو الفصل الأول من رواية "سر بعثة الكاردينال" الصادرة حديثاً عن دار "هانزر" الألمانيّة للروائي الألماني/ السوري رفيق شامي.
** رفيق شامي (اسمه الحقيقي سهيل فاضل) ولد في دمشق في 23 حزيران/ يونيو 1946، ووصل إلى ألمانيا في عام 1971 التي أكمل فيها تعليمه (1971 – 1979) حتى نيله درجة الدكتوراة في الكيمياء العضويّة المعدنيّة. تفرّغ للكتابة باللغة الألمانيّة، منذ عام 1982. ومنذ ذلك الوقت كتب شامي أكثر من ستين كتاباً، بين رواية وقصص للكبار والفتيان. ونال عنها أكثر من ثلاثين جائزة أدبيّة، وترجمت بعض أعماله إلى أكثر من 24 لغة في العالم.


الترجمة عن الألمانيّة: عارف حمزة.