Print
إمره كونغار

شوق الركض في ميدان بايزيد

30 أبريل 2019
ترجمات
يمقت الظالمون الميادين.
لأن ميادين مدينة ما هي الأماكن التي يتنفس فيها الشعب، ويبقى طليقاً، ويعبر عن نفسه فيها بحرية.
الأحواض، والفسقيات، والأزهار، والتماثيل، والمطاعم، والمقاهي المرصوصة على الأرصفة، هي من علامات الجمال الذي يعيشه الإنسان والطبيعة سوية بتناغم.
تُذكر المدن العصرية بميادينها. عندما يقال إسطنبول، يستدعى إلى الأذهان كل من ميدان بايزيد وتقسيم قديماً (فلا يؤاخذني كل من إمينونو وكاراكوي(1)، ففي نيتي أن أذكرهما في مقال آخر عن الجسور).

* * *

إن قُراء جريدة "بافول" يعرفون أنني ولدت وكبرت في بيت مجاور لميدان بايزيد في تشارشي كابي (2).
كنا نذهب إلى ميدان بايزيد ليلاً في الأعياد الوطنية مثل 23 أبريل، 19 مايو، 29 أكتوبر. وهناك كانت تبدو لي المياه المتدفقة من فسقيات الحوض، ومهرجان الأنوار المرئي الذي يضيئها، كرقص ساحر يُذكر بحركة الكون اللامتناهية.
(آه، يا قارئي العزيز، لا تجعل الجملة الأخيرة هذه: "الرقص الساحر الذي يُذكر بحركة الكون اللامتناهية "تبدو لكَ منمقة للغاية بالنسبة لطفل في ذلك العمر وكأنها جزء متخيل تمت منتجته من وعيي اليوم. فأنا في ذلك الوقت بدأت أقرأ كتب علم الخيال المكونة من 10 مجلدات

(واسمها الدارج الخيال العلمي)، والتي كانت تنشرها دار نشر "تشاغلایان" التي أسسها رفيق إردوران، بين الكتب التي كانت تصدرها بليرة واحدة، وكذلك بدأت أتناقش مع اخي الأكبر، وأكتشف أن تركيب الذرة هو نفس تركيب النظام الشمسي، وأتأمل "الكون الأصغر"، و"الكون الأكبر").
لم ألعب كثيراً في الأزقة وكذلك لم يكن لدي أصدقاء كثيرون في الحي؛ لأن في الأصل كان بيتنا في الشارع الرئيسي، وأيضاً لأنني بداية من الصف الثالث ذهبت إلى مدرسة داخلية.  لا أتذكر سوى تاج الدين الذي كنت ألعب معه لعبة النَحلة في شارع "مدرسة سنيكلي" المجاور لبيتنا. كنا نتراهن على نحلة مَن ستستمر في الدوران لوقت أطول. (بعد سنوات، وبينما كنت أشاهد فيلم Inception، عدت إلى طفولتي مجدداً، مع تلك النَحلة التي تلف بلا توقف والتي كانت شعاراً للفيلم؛ وربما لهذا السبب أيضاً وقعت في غرامه. قام بتأليف هذا الفيلم وإخراجه كرستوفر نولان، ومثله ليناردو دي كابريو، وجوزيف غوردون- ليفيت، وألين بيج).
كانت تجربتي في الشارع الموجود بتشارشي كابي مرتبطة أكثر بميدان بايزيد، الذي كنت أذهب إليه بصحبة عائلتي، وكذلك بالركض حول الحوض الموجود بالميدان، مطلقاً صيحات، وممسكاً بألعاب نارية صغيرة بيدي.
وبهذا المعنى كان ميدان بايزيد والحوض الموجود به بمثابة بهجة العيد، وكذلك الركض صائحاً في الشارع، كان رمزاً للحرية بالنسبة إلي.

* * *

قطعاً إن ميدان بايزيد ليس مجرد ميدان. فإلى جانب ذلك، كان مقهى ثقافيا، يتواجد به أبي، حيث كان يجتمع فيه مثقفو العصر، يلعبون الورق، ويدردشون.  كان ميدان بايزيد بالنسبة لوالدي مقهى ثقافيا، أما بالنسبة لي، فكان له معنى أعمق وأكثر غموضاً من كونه مجرد بهجة

الركض مشعلاً الألعاب النارية في الأعياد أو حتى ميدان به حوض يرمز إلى الحرية:
من هنا يكون الدخول إلى الصحافلر(3)، حيث توجد المكتبات القديمة، ومن الصحافلر إلى ممرات السوق المغطى التي كانت تبدو لي في ذلك الوقت أشبه بمتاهة سرية. لو قلت إن الممرات تؤدي إلى بوابة الشارع الرئيسي للسوق، وكذلك البوابة تُفتح على شارع مواز تمام لـ"بيت بكيت"، فأعتقد أنه يمكن استيعاب العلاقة الكلية الغامضة التي تربط بين عالم طفولتي وميدان بايزيد بشكل أفضل.
كنت أجمع الروايات المصورة لكابتن مارفل، ذات أغلفة بالية والتي كانت تخرجها وتتخلص منها المكتبة الأميركية على رفوف الصحافلر المغبرة، وبفضلها تفوقت جداً على أصدقائي عندما بدأت دروس اللغة الإنكليزية في الصف الثالث.
لم أكن أشبع من اللف في الممرات المعقدة للسوق المغطى ممسكاً بيد والدتي.
أضيف قبل أن أنسى أن "ساريكو" (4) التي أشرت إليه في مقالاتي سابقاً، موجود في منحدر محمود باشا الشهير والذي يفضي إليه أحد أبواب  السوق المغطى. 

* * *
عندما نجحت في امتحان كلية العلوم السياسية وذهبت إلى أنقرة، كان ميدان بايزيد مكاناً لتظاهر طلبة وأساتذة جامعة إسطنبول، الذين أتوا بمندريس(5) إلى سلطة الحكم. ولكنه بقصر بصيرته الشديدة أبطل وألقى في القمامة أن يكون صاحب تجربة ديمقراطية الأحزاب المتعددة.
أما فيما بعد فقد صار الميدان مكانا من الأماكن التي تعبر عن السياسة المحافظة.
بالمناسبة فإن الحرية التي جلبها دستور 1961 حَولت ميدان تقسيم إلى ساحة تظاهر للعمال، وكذلك أدت مؤخراً إلى دخول اعتصام حديقة غازي الشهير إلى التاريخ.

* * *
انتَزع الساسة الظالمون الذين يهابون الشعب مياديننا من أيدينا:
الآن يحتاج ميدان بايزيد إلى ألف شاهد ليطلق عليه اسم ميدان. كما ميدان تقسيم لا يزال في مرحلة تدمير، والتي هي جزء من تخريب ممتلكات منطقة بيوغلو.
أنا أشتاق إلى الميادين التي تنبعث مياه مضيئة من فسقياتها، والتي بها أحواض يجري الأطفال حولها حاملين بأيديهم ألعاباً نارية مهللين، وإلى المقاهي التي يدردش فيها المثقفون، والميادين المزينة بالأزهار والتماثيل، والتي تهتز بصرخات الحرية والديمقراطية!

هوامش:

1 - إمينونو وكاراكوي: اسما منطقتين بإسطنبول.
2 - تشارشي كابي: اسم حي بإسطنبول.
3- الصحافلر: سوق قديم للكتب المستعملة.
4 - ساريكو: اسم دكان.
5 - عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا من 1950 حتى 1960.

***
إمره كونغار: ولد عام 1941، عالم اجتماع وكاتب تركي. تخرج في جامعة أنقرة عام 1963 من كلية العلوم السياسية، قسم الاقتصاد. وحصل على الدكتوراة عام 1969 في علم الاجتماع من جامعة حاجة تبة. عمل في المجال الأكاديمي لوقت طويل، له عدة مؤلفات ومقالات، وقام بتقديم العديد من البرامج الحوارية.

ترجمتها عن التركية: مي عاشور.