Print
آلايد تراينس

بنيامين موسر: سونتاج أرادت تطهير اللّغة من شوائبها

17 نوفمبر 2019
ترجمات
عاشت الكاتبة والنّاقدة الأميركيّة سوزان سونتاج (1933-2004) مشوارها الأدبيّ والفكريّ الطّويل بوصفها شخصيّة قويّة، يصعب على أيٍّ كان السّيطرة عليها. لكنّها، إلى جوار هذه القوّة التي كانت تحرص على إظهارها في الفضاء العام، عاشت خوفاً غير نهائيّ من ميولها الجنسيّة المثليّة. وفي هذا الحوار (نشرته صحيفة "فولكس كرانت" الهولنديّة في 13 أيلول/سبتمبر الماضي) يشرح الكاتب الأميركيّ بنيامين موسر حكايته مع سيرتها التي عكف على الاشتغال عليها سبع سنوات كاملة، حتى صدرت في نيويورك مؤخّراً تحت عنوان "سونتاج.. حياتها وأعمالها".

يقول موسر: "إن أعظم عمل فنّي أنجزته سوزان سونتاج في مشوارها الأدبيّ هو شخصيتها الأيقونيّة الفريدة، لقد نجحت في تحويل نفسها إلى شخصية روائيّة بامتياز".
"كان بإمكاننا إجراء هذه المقابلة بالهولنديّة"، قال بنيامين موسر ثمّ أردف: "لكنّي خفت ألا أتمكّن من التّعبير عمّا أريد قوله بصورة واضحة". وجدتُ خوفه غير مبرّرٍ على الإطلاق، فالرّجل يتحدّث الهولنديّة بطلاقة، لولا مخارج بعض الحروف التي تكشف أنّها ليست لغته الأم.
يعيش بنيامين موسر في هولندا منذ العام 2002. ويتحدّث لغات عدّة بطلاقة، من بينها البرتغاليّة والفرنسيّة، لكن الإنكليزيّة هي اللغة "التي يعيش فيها"، لغة مقالاته ومراجعاته الصّحافية، واللغة التي كتب بها سيرتين، كانت الأولى عن الكاتبة البرازيليّة الشّهيرة كلاريس ليسبكتور (1920-1977)، وها هي الثّانية تصدر قبل أسابيع في نيويورك عن سوزان سونتاج (1933-2004)، وهي أوّل سيرة معتمدة لهذه الأيقونة الأدبيّة الفريدة.

 

النّسوية غيّرت من تفكيرنا
(*) قضيت جزءاً كبيراً من حياتك مع هاتين الكاتبتين. لماذا هما دون غيرهما من الكُتّاب والكاتبات؟
- تعرّفت أوّل مرّة على أعمال الكاتبة البرازيليّة كلاريس ليسبكتور خلال دراستي الجامعيّة، وأحببت رواياتها لدرجة أنّني أصبحت مهووساً بشخصيتها؛ حينها تمنّيت أن أفعل شيئاً لتخليدها خارج بلدها وفي غير لغتها. كان عمري آنذاك 25 عاماً فقط، ولم تكن لديّ أية فكرة عن كيفية كتابة سيرة كُتّاب رحلوا، إذ لم أكن قد كتبت مثل هذا النّوع من قبل، الآن أدرك أنّني لو لم أكتب سيرة ليسبكتور لما خرجت سيرة سونتاج اليوم. التي أعتبرها كتاباً مهمّاً عن شخصيّة نادرة لعبت دوراً رائداً في الحياة الفكريّة الأميركيّة لسنوات. كان عملي على سيرة سونتاج أكثر تعقيداً بكثير من اشتغالي على سيرة ليسبكتور، على الرّغم من أني أكتب سيرة كاتبة من لغتي وثقافتي، إلا أنّني اشتغلت عليها لسبع سنوات كاملة حتى تخرج بهذا الشّكل.

 

(*) كلاريس ليسبكتور وسوزان سونتاج يهوديّتان أيضاً، وعلى الرّغم من ذلك فهما مختلفتان. إلا أنّني لاحظت أنّهما كتبتا في وقت كانت فيه الكاتبات مُغيّبات تماماً عن المشاهد الثّقافية في بلديهما، حيث الغلبة والشّهرة للكُتَّاب الرّجال على الدّوام.
- ولذلك علينا أن نفهم كيف غيّرت النّسوية من تفكيرنا. من العادي اليوم أن نجد من النّساء من يتبوأن مناصب كبيرة في جميع المجالات، السّياسيّة والثّقافيّة والتّعليميّة والصّحافيّة وغيرها، لكن كلاريس ليسبكتور كانت أوّل صحافيّة في تاريخ البرازيل. في هولندا أيضاً، وحتى وقت قريب، كان يمنع أن تفتح امرأة حساباً بنكيّاً حتى تحصل على إذن زوجها. إذاً علينا أن نعجب أكثر بما حقّقته هاتان المرأتان الفارقتان.

(*) من خلال السّيرة التي قدّمتها عن حياتها، يبدو واضحاً تعاطفك الكبير مع سونتاج الإنسانة قبل الكاتبة، لكنّك تنتقدها كذلك أيضاً. كما لو كنتَ لا تصف حياتها بقدر ما تشتبك معها فكريّاً وثقافيّاً.
- أعتقد أنّني حاولت فقط إظهار الكثير من التّناقضات بين سلوكها وأفكارها الطليعيّة، فأنا كشخص مهتم بقياس المسافة بين المثل العليا وطرق ممارستها. لقد تحدّثت إلى ما يقرب من 500 شخص أثناء اشتغالي على سيرة سونتاج، ولم تقتصر مقابلاتي على أصدقائها وأحبّائها فقط، بل على آخرين ممّن اختلفوا ودخلوا معها معارك فكريّة طاحنة، بدءاً من جزيرة هاواي وصولاً إلى مخابئ البوسنة والهرسك. وأثارت هذه المقابلات ردود أفعال قوّية سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة بداخلي وأنا أشتغل على هذه السّيرة، التي أدرك أنّها هي الأخرى ستثير ردود الفعل ذاتها على اختلافها.

(*) سونتاج من مواليد 1933 وأنت من مواليد 1976. كيف اقتربت من حياتها وأنت من جيل مختلف تماماً عنها؟
- كان عليّ أن أغوص بروحي كلّها في زمن آخر. وكأنّني كنت أحاول التّآلف مع بيئة من زمن بعيد. أعرف نيويورك جيّداً، لقد عشت وعملت فيها، فالشّوارع والمباني ومحطّات المترو متشابهة، ومع ذلك فهي عالم مختلف من خلال ما ترصده عين سونتاج. شعرت في أحيان كثيرة أنّ عليّ شرح الكثير عن نيويورك خلال النّصف الثّاني من القرن الماضي. في ذلك الوقت كانت قضايا عديدة واضحة وساخنة، مثل: ما هي المرأة، ما هو الشّذوذ الجنسيّ، ما هو الفن، وغيرها، لكن الآراء السّائدة حول هذه المفاهيم كانت مختلفة ومتصادمة. على سبيل المثال، ظننتُ أنّني قادر على تخيّل ظروف امرأة مثليّة الجنس في نيويورك في نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي، لكنّني كنت مُخطئاً. كانت حياة أيّ امرأة مثليّة آنذاك مختلفة تماماً عمّا نراه اليوم. وصدّقيني إنّه لوضع يصعب تصوّره في نيويورك خاصّة، حيث يدور كلّ شيء فيها حول المال، ولكن في الستينيّات كانت المدينة تؤسّس لنوع مختلف من الحياة غير الاجتماعيّة. ليست الحياة العائليّة أو حتّى الوظيفيّة، بل حياة العقل. لقد كانت نيويورك آنذاك مدينة منازل قبيحة ورخيصة، حيث الخطر كامن على الدّوام في الشّوارع. الآن، للأسف، لا يستطيع الجيل الشّاب العيش فيها بسبب توحشّها المدينيّ. ولهذا كان اشتغالي على هذه السّيرة أشبه ما يكون برحلة سفر جديدة عليّ، كانت رحلة رائعة عبر الزمن، عبر ثقافة أميركا. وما أستطيع قوله الآن هو أن رحلتي من خلال سيرة سونتاج إلى نيويورك في ستينيات القرن الماضي كانت أشبه برحلة لي إلى السّودان، حيث بلد لا أعرف عنه شيئاً.



(*) وهل وجدت أوجه تشابه بينك وبين سونتاج خلال عملك على كتابة سيرة حياتها؟
- كنت أعي معنى أن تنشأ في مكان مثل ضواحي نيويورك، لكن سونتاج نشأت في لوس أنجلوس، وأنا كبرت في هيوستن، وجميعها مدن ضخمة، ومع ذلك، عندما تكون شاباً في واحدة من هذه المدن، فأنت تحلم بالمكان الذي يحدث فيه "كل شيء"، حيث لا يهتمّ النّاس فقط بالرّياضة والسّيارات، بل مدينة تتمركز فيها جماعات ثقافيّة ذات ثقل. وقد كانت نيويورك مركزاً ثقافياً له ثقله في العالم قبل خمسين عاماً. كان هناك أشخاص مؤثّرون في الفنّ والصّحافة والسّياسة. أعتقد أن "المراكز" أقلّ أهمية في وقتنا الحاضر. فنحن لسنا مضّطرين للعيش إلى جوار قامات فنيّة وأدبيّة كما كان يحدث في السّابق بفضل ثورة الإنترنت. من ناحية أخرى، شكّلت الخلفيّة اليهوديّة لسونتاج أهمّية كبيرة بالنّسبة لي، على الرّغم من أنّها ربّما كانت أقلّ أهمّية بالنّسبة لها. وأتصوّر أنّه من الصّعب اليوم أن أشرح للقارئ الهولنديّ معنى أن تكون يهوديّاً في أميركا آنذاك. في نيويورك لا يبدو أنّ اليهود أقليّة، لكنّهم كذلك. في سنّ مبكرة قرأتْ سونتاج أعمال توماس مان، وكانت ماري كوري مثالها الكبير، في هذه السنّ كان جلّ تركيزها مُنصبّاً على الثّقافة الأوروبيّة وحدها. وهو ما أتفهّمه الآن جيّداً.

 

وجهات نظر متعدّدة
(*) ما هو أفضل عمل لسونتاج في رأيك الشّخصي؟
- من الرّائع أنّني خلال اشتغالي الطّويل على هذه السّيرة عرفت كيف كانت سوزان سونتاج تفكّر، فقد كان لديها على الدّوام الكثير لتقوله عن عالمنا. من المثير للاهتمام أيضاً أن نرى ما الذي لم تكن تجيده، ومن ثم يبدأ تفكيرها في البحث رغبة في التّعلّم، كانت رحلتي مع حياة سونتاج على مدى 7 سنوات عبارة عن مشاهدة ولادة وصعود نجم أدبيّ وفكريّ استثنائيّ، في لحظة معادية تماماً لظهور مثل هذا النّجم، أتأمّل في شهرتها التي اندلعت في الستينيّات حتى أصبحت مفكّرة وناقدة وناشطة سياسيّة ومناضلة، وكاتبة صحافيّة لها جمهور واسع ينتظر مقالاتها اللاذعة والجريئة والمختلفة، صارت وجهاً إعلامياً مشهوراً ومثيراً للجدل في نيويورك. هذه الشّهرة جزء آخر من قصّة نجاح سونتاج. عندما بدأتُ بقراءة أعمالها ومقالاتها فكّرتُ: كم هو مثير للاهتمام ما كتبته عن الفوتوغرافيا. أحبّ كتب سونتاج لي هو كتابها عن التّصوير الفوتوغرافيّ. روحها الرّائعة تضيء في كلّ جملة من جمله، واكتشفت حسّها الفريد واللاذع في الدّعابة. إذا قرأنا اليوم كلّ شيء عن حياة سونتاج، سنكتشف مدى اتّساع التّضاريس التي كانت تغطّيها. نظرتْ إلى كلّ شيء من وجهات نظر متعدّدة، لذلك لا يزال عملها وثيق الصّلة بما نحياه اليوم. بفضل مقالاتها التي تناولت فيها الحروب والمجازر والموضة والسّينما والرّقص والغناء والتمثيل، أصبحتُ مهتماً بعديد من المجالات التي لم أكن لأظنّ أنها قد تبهرني يوماً ما.

(*) أشارت سونتاج أكثر من مرّة إلى ثنائيّة الحقائق والاستعارات، كيف تفهّمتَ هذه الثنائيّة خلال اشتغالك على كتابة سيرتها الفكريّة والحياتيّة؟
- يجب علينا استخدام الاستعارات، وإلا فإنّنا لا نستطيع أن نفهم بعضنا البعض. اللغة نفسها استعارة. وسونتاج توضّح في أكثر من موضع من مقالاتها كيف يمكن أن تكون الاستعارات مدمّرة ومكلّفة أحياناً. يمكن باللغة أن تنقذ أو تقتل النّاس. ويمكن أن تقدّم الاستعارات نظرة ثاقبة، كما يمكن للنّاس أيضاً المشاركة في الشرّ، وخذي مثالاً على ذلك استعارات النّازيين الدّعائية. الصّور هي أيضاً استعارات؛ حيث شخص في الصّورة وشخص يشاهده من الخارج، شيء ما يقابل شيئاً آخر. في عام 1945، وكانت سونتاج لا تزال في عمر الـ 12 عاماً، شاهدتْ صوراً للمحرقة. كانت لحظة حاسمة في حياتها. إنّ النّظر إلى آلام الآخرين سيصبح موضوعاً أساسيّاً لديها منذ هذه اللحظة: التّماهي بين النّاظر وبين المنظور إليه، الممثل والمُشاهِد، العمل ومُتلقّيه، ظلّت هذه الثنائيات تظهر في أعمال سونتاج اللاحقة، لكنّها شعرت أمام الصّورة أيضاً بعجزها عن فعل أيّ شيء، كانت مثل الأشخاص الذين تصوّرهم الفوتوغرافيّة الأميركية ديان آربوس (*)، أشخاص بعيون مفتوحة يراقبون من يشاهدون صورهم.



(*) أعتقد أن مقالتها "المرض بوصفه استعارة" والتي كتبتها سنة 1978 حول مرض السرطان باعتباره استعارة للشرّ، كانت طفرة جديدة في مسيرة سونتاج الأدبية والتحليلية
.
- بالطبع، تحلّل سونتاج في هذه المقالة المقولات الافتراضيّة التي كانت شائعة وقتذاك عن مرض السّرطان، وكيف أنّ النّاس كانوا يظنّون أنّ من يصاب بهذا المرض هم من عاشوا بطريقة خاطئة، أو لأنّهم قمعوا حياتهم الجنسيّة على سبيل المثال، أو لأنّ لديهم عواطف أو أفكار سلبيّة، باختصار كان السرطان وقتها عقاباً وليس مرضاً. أصيبت سونتاج بالسّرطان لأوّل مرّة في عام 1975. وكافحت أيضاً مع السؤال الذي طرحه فرويد: هل العقل يخلق الجسم أم العكس؟ لقد تعذّبت أيضاً بسبب اعتقادها أنّها تسبّبت في مرضها بنفسها. في الوقت نفسه وجدتْ أنّ كلّ هذه الأفكار ما هي إلّا هراء كبير، وبكتابتها لهذه المقالة الفريدة تخلّصت من هذه الأفكار تجاه مرض السّرطان، أو قولي إنّها تقبّلته بوصفه مرضاً وليس عقاباً.

 

(*) أصيبت سونتاج بمرض سرطان الثّدي، إلا أنّها ظلّت لسنوات تتكتّم الإعلان عن مرضها هذا للمقرّبين منها، كيف تبرّر ذلك؟
- من السّهل اليوم أن نحاسب سونتاج بمعتقداتنا الرّاهنة تجاه هذه الأمراض، لأنّنا بتنا نعرفها الآن جيّداً، أما في زمن سونتاج فلم يكن الأمر بهذه السّهولة، لم تكن الميديا مشغولة بمن تغلّبوا وحاربوا السّرطان، هذا المرض "الخبيث" كما نصفه في أدبيّاتنا الحاليّة، أعتقد أنّها بصمتها عن إعلان مرضها لمن هم مقربون منها آنذاك كانت أكثر قوّة وشجاعة، وأكثر صلابة أيضاً على المستوى العاطفي. ولكن، يمكننا الشّعور بهذا الدّافع الشّخصي من جانبها في مساندة مرضى السّرطان في مقالتها السابق ذكرها. بل إنّها ساعدت الكثير من المرضى على تفهّم هذا المرض ومن ثمّ الشّفاء منه.


(*) أوضحت خلال السّيرة التي قدمتها لسونتاج مفارقة أحبّ التّوقّف عندها، قلت إنّها كانت تحرص في أحاديثها عن السّرطان على استخدام استعارات بطوليّة، مثل: "محاربة السّرطان" و"التّغلّب عليه"، وغيرها من هذه النّوعية من المصطلحات العسكريّة المعتادة. ولكن في الوقت نفسه قلت إن سونتاج اعتقدت أنّها شُفيت من السّرطان لأنّها بحثت عن أفضل الأطباء وبسبب استعدادها للمعاناة. في حين أنّها كانت تحرص كذلك على القول إن السّرطان هو سوء حظّ، والشّفاء منه هو السّعادة النّقية.
- وهذا يوضّح لنا المعضلة التي عاشتها سونتاج مع مرض السرطان، فقد كان بإمكانها تحليل كيف تسير الأمور مع الألم، لكنّها لم تستطع تقبّل الألم. أعتقد أنّها كانت بحاجة إلى خطاب النّصر هذا. لا أحد يستطيع الاستغناء عن الاستعارات، لكنّها خطيرة. انظري إلى السّياسيّين: ترامب أو بوتين أو غيرهما، إن إساءة استخدام اللغة هي أقوى أدواتهم. حتى البريطانيون المتحضّرون الذين ننظر إليهم نحن الأميركيين بإكبار دائماً، انتهى بهم المطاف إلى كارثة بسبب سوء استخدامهم للّغة. أرادت سونتاج تطهير اللّغة من شوائبها بإعادتها إلى مباشرتها، ربّما كان مسعاها متشدّداً، لكنّها كانت أميركيّة ويهوديّة ولم تعرف التّشدد، قالت: من الآن فصاعداً سنستخدم لغة مباشرة، لا استعارات، ولا تفسير، ولا حيرة. لكنّها عرفت أنّ مطلبها مستحيل. أرادت أيضاً إلغاء الفصل بين الجسد والرّوح، بين العقل والقلب: فكان الرّقص، وبداية استكشافها لإمكانات الجسد البشريّ في قدرته على التّعبير عن نفسه، وكلّفها هذا الاكتشاف الكثير من الجهد، لأنّها كانت شديدة العقلانيّة. لكن طموحها للتّخلص من هذه العقلانيّة كان يبرز في أحيان كثيرة خلال مشوارها الأدبيّ.


(*) كانت "سو روزنبلات"، كما كانت تُدعى قبل أن تُعرف باسم سوزان سونتاج، طفلة لأسرة مفكّكة وأمّ مدمنة على الكحول، كيف كافحت لتعلّم نفسها وترعى شقيقتها؟
- لم تكن أمّها مدمنة فقط على الكحول، بل كانت تتصرّف بشكل غير متوّقع. وكان على سو الطفلة أن تتسوّل الحب من أمّها، وإن حدثت مشكلة ما كانت الأم تنسحب إلى غرفة نومها مع زجاجة الخمر. بل إنها لم تهد بناتها مرآة لزينتهنّ، وكان على سوزان وشقيقتها تحمّل المسؤولية مبكّراً. فبدأت الطفلة الصغيرة تتعلّم مما كانت تشاهده في الأفلام آنذاك: كيف تدخن وكيف ترتدي ملابسها وكيف تتفاعل مع الآخرين. ثم بدأت مرحلتها مع ما يمكن لنا أن نسمّيه "التّميّز الفكريّ"، فقرأت في المدرسة الثانوية أفلاطون وكانط وجميع كلاسيكيات الأدب العالمي. كانت تتوق إلى صديق تتحدّث معه، لكنّه لم يكن هناك. فتفوّقها العقليّ تسبب في وحدتها الدائمة. أرى أنها بذلت قصارى جهدها لإظهار الحب في وقت لاحق لأحبائها ولابنها دافيد. لكنها لم تكن تعرف كيف تفعل ذلك. ولم تفهم أبداً لماذا كانت علاقاتها العاطفية والاجتماعية تتحطّم على الدوام.


(*) تزوّجت سونتاج في سنّ السّابعة عشرة من فيليب ريف، أستاذها في علم الاجتماع.  وفي سنّ الـ 19 أنجبت منه ابنها ديفيد، ورغم ذلك كانت تعرف منذ صغرها أن ميولها مثليّة.
- اكتشفت سونتاج ميولها المثليّة مبكّراً، ولكن في ذلك الوقت لم تكن الحرية الجنسية كما نشهدها اليوم، لذا عرفت أنّ عليها أن تكون "طبيعيّة"، ولذلك أتفهّم زواجها من فيليب ريف باعتباره زواجاً تقليديّاً، وكانت العلاقة سيّئة جداً ومن ثم فشل الزّواج. في عام 1959 طُلِّقت سونتاج من فيليب ريف. لقد شعرت بالرّعب حينها من حقيقة أن لديها علاقات مثليّة. ثمّ واجهت أزمة حرمانها من طفلها بناء على أوامر القاضي بسبب اتهامها بالمثليّة الجنسيّة. إنّه أمر لا يصدّق، لكنّه حدث في الولايات المتحدة الأميركية حتى تسعينيّات القرن الماضي. كان مثليو الجنس يحرمون من أطفالهم، وهذا ما أقصده بأن اشتغالي على سيرة حياة سونتاج كان أشبه ما يكون برحلة في الزّمن، لأنّنا ننسى اليوم معاناة هؤلاء في أميركا الستينيّات، حيث يحرم كل شخص مثليّ الجنس من الاحتفاظ بأطفاله، وهو ما حدث مع سونتاج بحرمانها من طفلها دافيد.



(*) أنت تثبت أن كتاب "فرويد: عقل الأخلاق –
Freud: The Mind of the Moralist" الذي نسب إلى عالم الاجتماع فيليب ريف (1922- 2006) وجعله مشهوراً، هو من تأليف زوجته سوزان سونتاج حين كان عمرها 26 عاماً. كيف تفسّر أن تكتب سونتاج بحثاً بهذه الأهمّية ثمّ تتخلّى عنه بسهولة هكذا لزوجها دون أن يذكر اسمها على غلاف الكتاب؟
- لم تطالب سونتاج بحقّها الأدبيّ في هذا الكتاب بشكل قانوني أبداً، والسرّ في ذلك أنّ الأمر كان مجرد مقايضة وصفقة طلاق، وكان الاتفاق على أن تتخلّى سونتاج عن الكتاب لينشره زوجها فيليب ريف باسمه، في مقابل أن تحصل هي على حقّها في رعاية ابنها كي لا تُحرم منه مدى الحياة، لكنّها كثيراً ما كانت تتحدّث عن الظّلم. وهي تقصد في قرارة نفسها الغبن الذي أصابها جرّاء هذه المقايضة الرّخيصة، وشخصيّاً تحدّثتُ إلى نساء عديدات ممّن كنّ زوجات لأساتذة وكُتّاب في ذلك الوقت، واتفقن في أغلبهنّ على أنّ: "هذا كان أمراً شائعاً. كانت العديد من الزّوجات في كثير من الأحيان يساعدن أزواجهنّ في التّأليف وإعداد دراساتهم، ونادراً ما كان يتم ذكر أسمائهنّ كمساعدات في هذه المؤلّفات أو الدّراسات والأبحاث الفلسفيّة".



(*) صحيح أن سونتاج دخلت العديد من العلاقات مع النّساء، لكنّها طالما أطلقت على هذه العلاقات مصطلح "صداقات"، حتى علاقتها الطّويلة مع المصوّرة الأميركيّة الشّهيرة آني ليبوفيتز تكتّمت عليها لسنوات طويلة، كيف تفسر هذا التّكتّم؟
- لم تكن سونتاج منفتحة أبداً بشأن ميولها الجنسيّة. بل كانت تكافح دائماً لتقبّل هذه الفكرة. لو كنّا حينها في هولندا لسمعنا من يقول لها مشجّعاً: هيّا يا سوزان، افعلي ما تشائين! ولكن الحال في أميركا آنذاك لم يكن على هذا النّحو، بل كان هناك دائماً تدفّق قوي ومحافظ ضد المثليّين.



امرأة القوّة المطلقة
(*) كيف في رأيك استطاعت سونتاج أن تجمع كلّ هذه التّناقضات في شخصيّة واحدة: مثقّفة من طراز رفيع، صحافية مشاغبة، نجمة مجتمع، مقرّبة من نجوم السّينما والمشاهير، مناضلة ضدّ الحروب، وفي الآن نفسه أيقونة، أو كما سمّيتها أنت "ديفا"؟
- بالنّسبة للعالم الخارجيّ كانت هي امرأة القوّة المطلقة. وحرصت طوال حياتها على تثبيت هذه النّظرة عنها، عرف الجميع أنها امرأة ليست سهلة، والكثيرون من سكّان نيويورك لا يزالون يتذكّرون أوّل مرّة رأوها فيها. كانت تعرف كيف تحرك عينيها في جميع الجهات وبالصّلابة ذاتها، وهو ما مكّنها من البقاء تحت الأضواء الثّقافية والإعلامية الدّولية على مدى 40 عاماً كاملة. كانت سونتاج مهووسة بشخصية الديفا؛ فقد كتبت عن ميديا وسارة برنارد وغريتا غاربو وماريا كالاس وجان دارك، وصنعت من شخصيتها "ديفا" في الوسط الثّقافي والأدبيّ العالميّ. ويخيّل إليّ أن شخصية الديفا هذه كان استعارة سونتاج الأخيرة، بعدما جرّبت كلّ شيء؛ ممثلة ومخرجة وموديل للصّور الفوتوغرافيّة وروائيّة، وكلّ أدوارها التي لعبتها أو جرّبتها في غير هذه المجالات. سونتاج كانت في حاجة دائمة للاستعارة كي تتقبّل كونها مثليّة.



(*) كيف تفسّر هذه التّناقضات كلّها، أو كيف استطاعت سونتاج أن تجمع في شخصيتها بين كلّ هذا التّردّد حيال ميولها العاطفيّة، وبين حضورها كامرأة قويّة ومناضلة سياسيّة في مجتمع لا يرحم مثل أميركا؟
- لم يكتمل هذا الحضور الكبير لشخصية سوزان سونتاج كمناضلة سياسيّة إلا في عام 1993، حين سافرت إلى البوسنة وكتبت عن الحرب المدمّرة التي شاهدتها هناك، بعدها سافرت إلى سراييفو المحاصرة لتشجيع السّكان على تخطّي الحصار. وفي خضم أعمال العنف هناك، أخرجت سونتاج مسرحيّة "انتظار غودو" لصمويل بيكيت. وهنا بدأ كلّ شيء ليُكمل الصّورة الأيقونيّة لسونتاج، حيث صورها تحتلّ الصّفحات الأولى للجرائد العالميّة كلّ صباح وهي وسط ضحايا الحرب، حتى أنّهم أطلقوا اسمها على أشهر ساحة أمام المسرح الوطني في سراييفو تكريماً لها.

*****

بنيامين موسر: صحافي أميركي من مواليد1976  في هيوستن بولاية تكساس، درس التّاريخ بجامعة براون، وحصل على درجة الدكتوراه في أعمال الكاتبة البرازيليّة كلاريس ليسبكتور من جامعة أوتريخت الهولنديّة سنة 2009، وفي العام نفسه صدرت السّيرة التي كتبها عن حياة ليسبكتور تحت عنوان: "لماذا هذا العالم - سيرة كلاريس ليسبكتور".
يكتب بنيامين موسر مراجعاته الأدبيّة لصالح عدّة صحف أميركية من أهمهاThe New York Review of Books ، أمّا التّرجمة الهولنديّة لسيرة موسر عن سونتاج فقد صدرت بالتزامن مع صدورها بالإنكليزية عن دار نشر "De Arbeiderspers" بأمستردام في 742 صفحة.

 
(*) "ديان آربوس - Diane Arbus": مصوّرة فوتوغرافيّة أميركيّة (1923 – 1971)، اشتهرت بأسلوبها الجريء والصّادم في تصوير الهامشيين والفقراء، رغم أنها ولدت لأسرة شديدة الثّراء، وماتت منتحرة في عمر الثّامنة والأربعين.

 

الترجمة عن الهولندية: عماد فؤاد