Print

التراجيديا الإغريقية.. أصول التأمل في الإنسان

7 أكتوبر 2019
ترجمات
أعادت المنشورات الجامعية المعروفة "بيف" (فرنسا) نشر كتاب "التراجيديا الإغريقية". وهو كتاب مرجعي هام للدّارسة الفرنسية المتخصصة في الأدب الإغريقي جاكلين دي روميلّي (1913-2010). لتعميم الفائدة والاقتراب من مضمون الكتاب نترجم للقراء العرب مقدّمته:


التراجيديا والإغريق
إن اختراع التراجيديا هو عنوان جيّد للنّصر؛ وعنوان النّصر هذا ينتمي إلى الإغريق.
هناك، في الواقع، شيء آسرٌ في النجاح الذي عرفه هذا النوع. لأننا ما زلنا، اليوم، نؤلّف تراجيديات، بعد خمسة وعشرين قرناً، ونؤلّفها إلى حدّ ما في كل مكان من العالم؛ ونستمرّ، من وقت إلى آخر، في استعارة الموضوعات والشخصيات الإغريقية: نكتب تراجيديات إلكترا وأنتيغوني.
لا يوجد أبداً هنا وفاء لماضٍ لامع فقط. إنه لمن البديهي، في الواقع، أن شيوع التراجيديا الإغريقية يعود إلى سعة الدلالة، وإلى غِنى الفكر الذي عرف المؤلفون الارتباط به: لقد قدّمت التراجيديا الإغريقية تأملاً في الإنسان، في لغة عاطفية مباشرة يسهل الوصول إليها. ولهذا السبب بدون شك، في مرحلة الأزمة والتجدّد، التي هي مرحلتنا، نشعر بالحاجة إلى الشكل الأولي لهذا النوع. نهاجم الدراسات الإغريقية، لكننا نؤدّي، في كل مكان من العالم تقريباً، تراجيديات إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، لأن في هذه التراجيديات تلمع هذه التأملات في الإنسان بكلّ قوتها الأولية.
إذا كان الإغريق قد أبدعوا التراجيديا، فإن الاختلافات بين تراجيديا لإسخيلوس وتراجيديا لراسين تبقى عميقة. إن إطار التمثيل لم يعد هو نفسه، ولا بنية المسرحيات بقيت هي نفسها. كما لم يعد ممكناً مقارنة الجمهور. والروح الداخلية تغيّرت أكثر من أي شيء آخر. ومن تصميم التراجيديا الأصلية، فإن كل مرحلة وكل بلد يعطي تأويلا مختلفاً. لكنه داخل الأعمال الإغريقية يجد ترجمته بقوة أكبر، لأنه يظهر في عُريه الأول.
في اليونان، كان البزوغ المفاجئ، المختصر، المبهر.

دامت التراجيديا الإغريقية، بحصاد أعمالها الكبرى، في المجمل أربعاً وعشرين سنة. وبفضل علاقة لم تكن عشوائية، صادفت هذه السنوات الأربع والعشرون ازدهار أثينا السياسي.
إن أول تقديم تراجيدي مُنح لديونيزوس الأثيني كان، كما قيل لنا، في حوالي سنة 534 ق.م تحت حكم بيزسترات. لكن أول تراجيديا تمّ الاحتفاظ بها (أي التي اعتبرها القدماء جديرة بالدراسة) كانت غداة النصر الكبير الذي حقّقته أثينا على الغزاة الفرس. بالإضافة إلى ذلك، فقد خلّدت الذكرى: إن نصر سالاميس، الذي أسّس لقوّة أثينا، كان في سنة 480، وأول تراجيديا تمّ الاحتفاظ بها كانت في سنة 472؛ والأمر يتعلق بمسرحية "الفرس" لإسخيلوس. ثم تتالت الأعمال العظيمة. وبدأ المسرح يعرف كلّ سنة مسرحيات جديدة تُقدّم للمسابقة من طرف إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس. تواريخ ميلاد هؤلاء المؤلفين متقاربة؛ وحيواتهم فيها قواسم مشتركة. وُلد إسخيلوس سنة 525، وسوفوكليس سنة 495، ويوربيديس حوالي سنة 485 أو 480. العديد من أعمال سوفوكليس وتقريباً جلّ أعمال يوربيديس قُدّمت بعد استشهاد بيريقليس، في معركة "بيلوبونيس"، حيث رضخت أثينا، التي كانت سجينة إمبراطورية لم تعد تستطيع الحفاظ عليها في الأخير، تحت ضربات إسبارطة. بعد خمس وعشرين سنة من الحرب، في سنة 404، فقدت أثينا كل القوة التي اكتسبتها بعد حروب الفرس. في ذلك التاريخ، كان يوربيديس قد مات منذ ثلاث سنوات، وسوفوكليس منذ سنتين، كما كان يتم تقديم بعض مسرحياتهم غير المكتملة أو التي لم تُقدّم بعد. وبعد ذلك تمّ كل شيء. وإذا ما استثنينا مسرحية "ريزوس"، التي وصلتنا على أساس أنها ليوربيديس لكن صحّة ذلك مشكوك فيها، فإننا لا نعرف أبداً، بعد سنة 404، سوى أسماء مؤلفين ومسرحيات، وأجزاء، وأحياناً بعض الكتابات الصارمة. ومنذ سنة 405، لم يجد أرسطوفان، في مسرحية "الضفادع"، وسائل أخرى للحفاظ على النوع التراجيدي سوى إعادة البحث في الجحيم عن بعض الشعراء الميّتين. وحين شُيّد مسرح "ديونيزوس" بالحجارة، في النصف الثاني من القرن الرابع، تمّ تزيينه بتماثيل إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس. ومنذ سنة 386 (على الأقل هذه هي السنة المحتملة)، شُرِع في تسجيل ضمن برنامج "ديونيزيس" استعادة التراجيديا القديمة. وحياة التراجيديا نفسها توقفت في الوقت نفسه الذي توقّفت فيه عظمة أثينا.


الأعمال المحتفظ بها
بمعنى آخر، حين نتحدث اليوم عن التراجيديا الإغريقية، فإننا نرتكز أساساً وتقريباً بشكل كلّي على الأعمال المحتفظ بها من التراجيديات الثلاث العظمى وهي: سبع تراجيديات لإسخيلوس، وسبع لسوفوكليس، وثماني عشرة ليوربيديس (إذا ما أحصينا مسرحية "ريزوس"). ويعود اختيار هذه التراجيديات الثلاث والثلاثون، عموماً، إلى مملكة هادريان (1).

إنه أمر بسيط حين نفكّر في كل المؤلّفين الذي لا نعرفهم إلا بطريقة غير مباشرة، والذي نكوّن عنهم فكرة بصعوبة- خصوصاً كبار الأسلاف، ثيسبيس، براتيناس، ولا سيما فرينيكوس. إنه أمر بسيط إذا فكّرنا في تنافس الثلاثة الكبار- مثل أبناء براتيناس وفرينيكوس، إيون دي كيوس، نايفرون، نيكومارك وآخرين كثر، من ضمنهم ابنا إسخيلوس، أوفوريون وإيفايون، وابن أخته فيلوكليس القديم. وأخيراً، إنه أمر بسيط حين نفكر في مكمّلي مشروع يوربيديس، ومن ضمنهم إيوفون وأرسطون، ابنا سوفوكليس، وخصوصاً في مؤلفين آخرين مثل كريتياس وأغاثون، أو كارسينوس بعد ذلك. وأخيراً، إنه أمر بسيط أيضاً حين نفكّر في إنتاج الثلاثة الكبار أنفسهم، ما دام إسخيلوس كان، كما يبدو، قد ألّف تسعين تراجيديا، وسوفوكليس كتب في نفس النوع ما يزيد عن مئة (يعرف أرسطوفان مئة وثلاثين، سبع منها اعتُبِرت زائفة) ويوربيديس، أخيراً، ألّف اثنتين وتسعين، سبع وستون منها كانت معروفة في تلك الفترة التي كُتبت فيها سيرته. الخسارة كانت إذاً كبيرة؛ وحين نتحدّث عن التراجيديات الإغريقية، يجب، مع الأسف، أن نضع في أذهاننا أننا نتحدث عن حوالي ثلاثين تراجيديا من بين ما يناهز الألف. بعضها تظهر لنا أيضاً، دون أدنى شكّ، أكثر جمالاً من التي بين أيدينا. ومن جهة أخرى، منذ البدايات لم يكن إسخيلوس وسوفوكليس أو يوربيديس من الفائزين في المباريات السنوية.
لكن، مهما كانت غرابة هذا الأمر، فإن هذه الثلاثين مسرحية الموزعة على أقلّ من ثمانين سنة تشهد ليس فقط على ما كانته التراجيديا الإغريقية بل على تاريخها وتطورها. ستبقى هناك حاشية من الظلال، في هذا الجانب أو ذاك من الحدّين وبينهما تبقى حياة هذا النوع سجينة في أقصى الدرجات: تشكّل حدودها ما يشبه عتبة لا نستطيع تجاوزها دون السقوط في ما ليس بعد، أو لن يكون أبداً، تراجيديا جديرة بهذا الاسم. بين الاثنين، بين "ليس بعد" و"لن يكون أبداً" و"تماماً"، توجد فورة قوية تذهب بالتراجيديا نحو تجديد سيتحدّد سنة بعد أخرى. ومن عدّة اعتبارات، الاختلاف أكثر اتساعاً وعُمقاً بين إسخيلوس ويوربيديس، أكثر مما هو بين يوربيديس وراسين.



تقدّم عقليّ

يقدّم هذا التجدّد الداخلي مظهران متكاملان. وفي الواقع، كلما تطوّر هذا النوع، اغتنت أدواته، وتنوّعت أشكاله التعبيرية. إنه من الممكن كتابة تاريخ للتراجيديا كلما قدّمت نفسها كاستمرار وبدت مستقلّة عن حياة المدينة وأمزجة المؤلّفين. لكن، من جهة أخرى، حدث أن هذه الثمانين سنة، التي بدأت من النصر الذي حقّقته "سالاميس"(2) إلى هزيمة 404، سجّلت في كل المجالات انطلاقة ثقافية وتقدّماً عقلياً لا شبيه له على الإطلاق.
لقد تحقّق نصر "سالاميس" بواسطة ديمقراطية جديدة، ومن طرف رجال نافذين في مجال التعليم الديني الفاضل من أتباع "سولون"(3). بعد ذلك تطوّرت الديمقراطية بسرعة. وشهدت أثينا قدوم بعض الصوفيين، وهم معلمو الفكر الذين كانوا قبل كل شيء يعلّمون البلاغة، وكانوا يخضعون كلّ شيء للسؤال، فأطلقوا، مكان المذاهب القديمة، ألف فكرة جديدة. وفي الأخير حفظت أثينا، بعد فخرها وإعلانها باعتزاز عن بطولتها، لآلام حرب طويلة وقعت بين الإغريق. المناخ الثقافي والأخلاقي للسنوات الأخيرة من القرن كان خصباً بالأعمال والتأملات كما في بداية القرن، بل غير مختلف عليه تماماً. وقد عكست التراجيديا هذا التحول، سنة بعد سنة. عاشت فيه. تغذّت منه. فتفتّح في أعمال خالدة كثيرة.
توجد، بكل تأكيد، بين التطور الخارجي المطلق للآداب وبين تجديد الأفكار والمشاعر علاقة وطيدة. إن ليونة وسائل التعبير تُفسّر بالرغبة في قول شيء مختلف؛ والتحوّل المستمرّ في المصالح قاد إلى تطور مستمر أيضاً في إجراءات العبارة. بمعنى آخر، إن المغامرة التي يعكسها تاريخ التراجيديا في أثينا هي نفسها التي نلاحظها على مستوى البنيات الأدبية أو الدلالات والاستلهام الفلسفي.
وفقط عبر تتبّع هذا التطور المزدوج، في اندفاعه الداخلي، يمكن أن نطمح إلى فهم ماهية المبدأ المشترك والإحاطة بهذا الشكل - بغض النظر عن النوع التراجيدي وعن مؤلفي التراجيديات- بما يشكّل فكر أعمالهم نفسه، أي حسب وجهة نظرهم ما لم نكفّ عن تسميته التراجيدي. 

هوامش:

(1)  اختيار مرحلة هادريان يضم سبع مسرحيات لإسخيلوس، وسبعاً لسوفوكليس، وعشراً ليوربيديس. المسرحيات الأخرى ليوربيديس أحتُفظ بها فيما بعد.
(2)  معركة وقعت بين اليونانيين والفرس سنة 480 قبل الميلاد. (م)
(3)  رجل دولة ومشرّع وشاعر إغريقي ولد حوالي سنة 640 ق.م، وتوفي سنة 558.

ترجمها عن الفرنسية: محمود عبد الغني