Print
عماد فؤاد

هولندا تعيد الاعتبار إلى فرانك كونجراخت باعتراف متأخّر

18 أكتوبر 2019
تغطيات
شكّل صدور الأعمال الشّعرية الكاملة للشَّاعر الهولندي، فرانك كونجراخت (74 عاماً)، حدثاً لافتاً على ساحة الأدب المكتوب بالهولنديّة مؤخّراً، فهو الشّاعر المُقلّ والمختفي على الدّوام، لا يحضر الفعاليّات الثّقافيّة، ولا يُدلي بحوارات صحافيّة، أو تلفزيونيّة، إلا في ما ندر، هو القائل ذات مرّة: "على الشّعراء أحياناً التزام الصّمت لفترات طويلة"، كتبرير لتأخّره سنوات عن إصدار أعماله الشّعرية أولاً، وكاعتذار منه لقرّائه عن "بطئه" في الكتابة ثانياً. ولكن ها هي دار نشر "ده بازيخه باي" الهولنديّة تعلن عن إصدار الأعمال الشّعريّة الكاملة لكونجراخت في طبعة إلكترونية، لتعيد الشّاعر المُختفي من جديد إلى بقعة الضّوء التي طالما هرب منها.
ولد فرانك كونجراخت في مدينة روتردام الهولندية في العام 1945، وبدأ دراسته لعلم النّفس في جامعة لايدن سنة 1963، ليعمل منذ ذلك الحين، وحتى تقاعده عام 2009، كطبيب نفسيّ في المدينة ذاتها. ويمكننا أن نلمح في سيرته الذّاتية تلك المنعطفات الرّئيسية التي قادته سريعاً إلى عالم الشِّعر والكتابة، ففي سنة 1965 غامر كونجراخت بغناء عدد من القصائد التي كتبها ولحنّها بنفسه، حيث كان الشّاب مغرماً بموسيقى البوب، والروك آند رول، والحركات الشّبابيّة المتمرّدة التي اجتاحت العالم كلّه آنذاك. ومن عالم الأغاني العاطفيّة ذات المشاعر السّاخنة حطّ الشّاعر الشّاب رحاله على ضفّة كتابة قصائده الأولى، والتي تجلّت فيها طريقته السّاخرة التي تحمل في طيّاتها الإقبال على الحياة، ولذّة المشاعر البكر، وهي تُكتشف للمرَّة الأولى:

"في قطارنا الخاص نجلس
نجلس.. وننتظر وصول قطار "أوستنده"
حاملاً اثنتين أو ثلاثاً من بنات عمومتنا
بقبَّعاتهنّ العريضة المصنوعة من الخوص
ننتظر في زاوية مقصورة القطار
فيما تتقلّب القطط في كتاب "القوائم الأماميّة للحيوانات"
(......)
وبعد برهة نبدأ في الاهتزاز من ضحكنا
وصدقنا في الكلام
ورويداً رويداً
تصبح ضحكاتنا مدوّية
فبنات عمومتنا لم يظهر لهنَّ أثر
في قطار "أوستنده"!

في العام 1971، تجرّأ كونجراخت ونشر أولى مجموعاته الشّعريّة تحت عنوان "دبّور مزدوج مجنون"، والتي ظهرت في قصائدها بوادر تأثّر الشّاعر بعمله كطبيب نفسيّ، حيث

نلمح في المجموعة فضاء عاماً لأجوائها عبارة عن مركز مخصّص لعلاج الأمراض النّفسيّة، عمل به كونجراخت في بداية مشواره المهني، لكن سرعان ما تجلّت في مجموعاته الشّعرية اللاحقة، والتي تميّزت بلغتها المكثّفة والمشغولة بعناية لاعب ماهر، ظواهر فنّية مناقضة لإقباله الأوّل على الحياة، من أهمّها السّوداوية والحزن والتّأمّل الفلسفي العدمي ذي النّظرة السّلبية إلى العالم:

"سنذهب، يا أمُّ
سنذهب لو سقطت الثّلوج
وسنذهب لو لم تسقط الثّلوج..
سنذهب في كلّ الأحوال
العتمة واطئة، والنّور مستطيل
الشّرفات تقفز هي الأخرى دون حرب من البيوت:
لكنّنا.. سنذهب، هذا مؤكّد
فها هو قد مات
كنملةٍ على سجّادة السُّلم
لذا أصبحنا بطيئين
بطيئين جداً ككلاب أُسيء تسمينها
ونحن نرقب تأرجح كريستال الثّلوج
على زجاج النّوافذ في الخارج".

يبقى فرانك كونجراخت أحد شعراء اللغة الهولندية القلائل الذين أخلصوا للشِّعر وحده، فلم يكتبوا غيره، وبسبب من ابتعاده عن الأضواء الثّقافية والأدبية الهولندية لسنوات طوال، لم تُقرأ تجربته كما يجب لها أن تُقرأ، ومن ثمّ لم تحظ أعماله بالاهتمام الذي يليق بها، حتى أنّ العديد من الكتابات النّقدية التي تناولت أعماله الشّعرية أشارت أكثر من مرّة إلى اندهاش أصحابها من عدم حصول كونجراخت حتى اللحظة على ما يستحقّه من تقدير ومكانة، وهو ما دفع الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة "ده ستاندارد" الفلمنكيّة العريقة إلى اعتبار صدور الأعمال الشّعرية الكاملة لكونجراخت: "حدثاً هامّاً يمنحنا الفرصة لاكتشاف شاعر كبير عاش طويلاً في الظّل متعفّفاً عن الظّهور".
حمل الغلاف الخلفي للأعمال الشّعرية الكاملة لكونجراخت، والتي ظهرت بعنوان "جميع

القصائد"، كلمة للشّاعر الهولندي الكبير، ريمكو كامبرت، قال فيها: "في الشِّعر ما من ساحة للتّنافس، حتى لو تمكّن الشّعراء أحياناً من التّنافس على جوائز هنا أو هناك، فليس معنى هذا أنّ الفائز منهم هو الأفضل، هذا المفهوم المتدنّى من المنافسة لا وجود له في عالم الشّعر". ويستطرد كامبرت فيقول: "ربّما يمكنك أن تسمّي هرمان جورتر كأفضل شعراء اللغة الهولندية قاطبة، ولكنّها المكانة ذاتها التي سأضع فيها كلّاً من خيريت كوينار، وباول فان أوستين، وهوغو كلاوس، وإلى جوار هؤلاء جميعاً سأضع أيضاً فرانك كونجراخت، وسأكون على كامل الاستعداد لاعتبار هذا الأخير "الأفضل" حالياً، وأقول "حالياً" رغبة منّي في عدم تقييده بمقولة "الأفضل" على الدّوام، هذه هي القناعة التي خرجت بها بعد انتهائي من قراءة دقيقة لمجموعاته الشّعرية كاملة".
اشتهر كونجراخت وسط أصوات الشّعر الهولندي العديدة بطريقته المرصّعة بقالب دراماتيكي فلسفي آسر. وتميّز في قصائده التي غلبت عليها صفتا القصر والكثافة، ببراعته في كتابة المشهد الشعريّ مستخلصاً منه دائماً حكمة، أو مفارقة، أو سخرية ما، حتى أنّه برع في العديد من قصائده في رسم بورتريهات لوالده الذي رعاه طويلاً خلال فترة مرضه الأخيرة، ومن هذه المقاطع نقرأ:

"يُحدِّث عُمَّاله وطيوره بالطّريقة ذاتها
بنعومة شديدة لا تتناسب مع رجل؛
الزّرازير، الدّجاجات العتيقة، الجرذان
تتحوّل أمامه إلى أبناء
قال لشحرور في البستان: "وماذا بعد يا بُني"
وحين انتبهتُ
وجدته يُحدّثني"!

أصدر فرانك كونجراخت أكثر من خمس عشرة مجموعة شعرية، من أهمّها: "معسكر الحرية" 1976، و"أكياس قمامة"، و"بريء"، و"خمس قصائد"، وجميعها صدرت عام 1984، و"براغ" 1985، و"إبجرامات" 1986، كما أصدر مختارات شعريّة تحت عنوان "اختفاء لايدن" سنة 1989، تضمّنت قصائده المكتوبة في الفترة بين (1971 - 1981)، ثمّ مجموعته "سموكنج" 1994، والتي صمت شاعرنا بعدها طويلاً حتى عاد بمجموعته اللافتة "ثلوج مبكِّرة" سنة 2003. وكانت آخر مجموعاته الشّعرية قد صدرت في العام 2011، وحملت عنوان "موت لذيذ في أرض الوطن"، وتضمّنت عدداً من رسومات الشّاعر التي اعتاد أن يرسمها "أثناء بحثه عن الشّعر" بحسب تعبيره، ومن هذه الرّسومات تم اختيار إحداها على غلاف الأعمال الكاملة التي صدرت مؤخراً، لتعيد الشّاعر المختفي إلى الأضواء مجدداً، ولكن هذه المرّة مع اهتمام نقدي كبير يليق بمنجز كونجراخت الشّعري الفريد.