Print
عارف حمزة

البوسني الفائز بجائزة الرواية الألمانيّة: هاندكه أفسد فرحتي

17 أكتوبر 2019
تغطيات

في حادثة ربما تُعتبر الأولى من نوعها، قام الروائي الألماني (من أصول بوسنية) ساشا ستانيزتش من على منصة تتويجه بأهم جائزة أدبيّة في ألمانيا بمهاجمة الروائي النمساوي بيتر هاندكه الفائز بجائز نوبل لعام 2019، حيث قال في خطاب فوزه بجائزة الرواية الألمانية لعام 2019: "هاندكه أفسد عليّ الجائزة".
واستغلّ ساشا فرصة تواجده أمام عشرات وكالات الأنباء لينتقد جائزة نوبل للآداب ومنحها هذا العام لهاندكه الذي على حدّ قوله نالها "فقط من خلال الأكاذيب"، ومن خلال إنكاره للفظائع التي طالت مسلمي البوسنة على يد اليمين الصربي المتطرّف. 
وكانت لجنة تحكيم جائزة الرواية الألمانية لعام 2019 أعلنت يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، خلال معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، عن فوز رواية "الأصل" للكاتب الذي ولد في السابع من شهر مارس/ آذار لعام 1978 في مدينة فيشيغراد في يوغسلافيا السابقة. وبدا التأثّر الشديد على ساشا خلال إلقائه خطاب الجائزة عندما خاطب الجمهور: "إنّ السماح بوقوفي أمامكم اليوم يعودُ الفضل فيه إلى امتلاكي الحقيقة، تلك التي لم يكتسبها هذا الشخص" ويقصد هاندكه. ثم أضاف: "هو لا يستطيع فهم ذلك، أن يُساعدَ أحداً ما ادعى، وفق حقائق راسخة عنده، ليصل إلى العدالة. لذلك بدا الأمرُ مرتّباً؛ في أن تفوز هناك (في السويد) فقط الأكاذيب".
وكتبت مجلة "دير شبيغل" الألمانية الشهيرة على موقعها الإلكتروني: "عندما صعد ساشا ستانيزتش، حائز جائزة الرواية لهذا العام، ليُلقي خطاب الجائزة في صالة القيصر في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وجد صعوبة في الكلام. ربّما يعود ذلك لإصابته بوعكة صحية قبل أيام، ولكن أيضاً بسبب غضبه الشديد من القرار الذي جاء من ستوكهولم الأسبوع الماضي، وهو قرار منح جائزة نوبل للأدب للكاتب النمساوي بيتر هاندكه. قرار المنح هذا أفسد عليه نيله الجائزة، كما قال ابن الـ41 عاماً".



"هاندكه لا يأتي على ذكر الضحايا"

تابع الروائي ساشا، الذي قدم من البوسنة، مرافعته في وجه هاندكه الذي كان قد وقف في التسعينات إلى صف الحزب الصربي المتطرف، قائلاً: "كنتُ محظوظاً بما فيه الكفاية في الهروب من ذلك الذي لم يصفه هاندكه في نصوصه". وكان ساشا فرّ في عام 1992 من البوسنة باتجاه ألمانيا. 
أثارت نصوص هاندكه غضب ذلك الشاب الذي نجا من المجازر المروّعة بحق أبناء جلدته.
أثارته "تلك الأكاذيب، أو إدارة ظهره للحقائق حين الكتابة، وكأنّه يجهل الحقائق، ثمّ يقوم بنشر تلك الأكاذيب وكأنّها هي الحقيقة"، بحسب ما كتب ساشا في تغريدة له على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي تويتر. وأضاف أن هاندكه "يتوارى خلف حرّية الكاتب في أن يكون حراً كلّما سنحت له الفرصة في سرد الأشياء، لأن كل ذلك هو شعر وتجلّ وازدواجيّة وكما يرغب المؤلف" وليست جرائم واقعية واقعة ضد الإنسانيّة.
ومما لا يعرفه القارئ ربما، وهو ما قد يُبرر الغضب الشديد لستانيزتش، أنّ الميليشيات الصربيّة قامت، خلال حرب البوسنة، بقتل المدنيين في مدينة فيشيغراد، مسقط رأس ساشا نفسه، حيث جرت هناك عمليات تطهير عرقيّ وتهجير واغتصابات، تلك الفظائع التي روى ساشا الكثير منها في عمله الروائيّ الأول "كيف أصلح الجنديّ الغرامافون"، والذي صدر في عام 2006.
وبعد هذه الرواية الأولى أصدر ساشا روايته الثانية "قبل الحفلة" في عام 2014، ثم أصدر بعدها بعامين مجموعة قصصية بعنوان "فالّينشتيلر"، قبل أن يُصدر روايته "الأصل" لتفوز بجائزة الرواية الألمانيّة للعام الحالي.
وكانت لجنة التحكيم قد قالت عن هذه الرواية عندما وصلت إلى القائمة القصيرة: "رواية الأصل هي سيرة تدور حول سؤال عصرنا، واستجواب شخصيّ متشظّ عن الهدية (هدية أن يولد أحدنا في هذا العالم) وعبء الأصل، وعن إيجاد لغة جديدة مع جوهر "قاسٍ مثل بذرة الخوخ"، وعن كيف تصبح كاتباً. تقودنا (رواية) الأصل في دروب مدن كثيرة، من البوسنة إلى هايدلبيرغ الألمانيّة، حيث يصل المراهق كلاجئ حرب. يبحث الراوي عن نفسه بذكاء وخفة دم، دون الشعور بالانتماء أو كضحية. سعادته الكبيرة في رواية القصص تجعل المواضيع الثقيلة والقاتلة خفيفة. يمكن القول بأنّها (الرواية) تعالج الجروح من خلال الأدب".



ازدياد حدّة الانتقادات

خلال الأيام الماضية شهدت الصحافة الثقافية الألمانية تزايداً في حدة الانتقادات لقرار الأكاديميّة السويديّة منح جائزة نوبل للكاتب الشهير بيتر هاندكه؛ حيث كتب النقاد في العديد من الصحف والمجلات نقداً لاذعاً لـ "مُنكر الجرائم ضد الإنسانيّة"، وهذا العنوان بدا مثل تهمة قضائيّة لهاندكه. أو مثل المقال الذي كتبه الناقد وأستاذ الأدب المقارن في جامعتي فرانكفورت وكولونيا كريستوف شرودر بعنوان "العمى مقابل العاطفة" في صحيفة دي تسايت. ولكنّ ما وجهه ساشا ستانيزتش بنفسه يعتبر أقسى ما وُجّه لهاندكه لحدّ الآن، خاصة بوجود التعاطف الكبير من الجمهور الذي صفّق مراراً خلال خطاب الجائزة. ولكن ساشا أوقف التصفيق ليقول جملته الأخيرة في مرافعته كضحيةـ أو حتى كضحايا: "أيضاً كتبَ بيتر هاندكه نصاً عن فيشيغراد"؛ ذكر ساشا اسم مدينته متألماً، ثم أضاف في لهجة لا تخلو من السخريّة الفنية "في نصّه ذاك كتب هاندكه عن تلك الميليشيات بأنّه لا يمكن لأفرادها الحفاة أن يرتكبوا تلك الجرائم التي وقعت. هو لا يذكر هذه الميليشيات وزعيمها ميلان لوكيتش (زعيم ميليشيا النسور البيضاء) الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد؛ لارتكابه جرائم ضد الإنسانيّة. إنّه لا يذكر الضحايا. لقد قال فقط إنّه من المستحيل وقوع هذه الجرائم. لا يمكن تصور حدوثها. ولكن تلك الجرائم وقعت بالفعل. هذا ما زلزلَ كياني؛ أن شيئاً كهذا يحصل على جائزة".


لا تسألني هكذا أسئلة
كيف حدثت هذه الصدفة الغريبة خلال أسبوع، في أن يفوز روائيّان بجائزتين كبيرتين ويمثلان طرفيّ حرب أهليّة؛ أحدهما كان ضحيّة والآخر كان مع الجزّار القاتل؟
يبدو أن هجوم ستانيزتش، الذي اعتبره بعض النقاد غير مبرّر من منصة تسلم جائزة أدبيّة، وكذلك النقد المتزايد في الصحافة الألمانيّة، قد ألحقَا أضراراً نفسيّة سلبيّة بالغة بهاندكه؛ فقد نشر موقع دي تسايت أمس الأربعاء أن هاندكه "ثار في وجه أحد الصحافييّن الذين سألوه مجدداً عن موقفه من دور صربيا في الحرب اليوغسلافيّة. وقال لذلك الصحافي ساخطاً: لا تسألني هكذا سؤال". 
وبحسب ما ورد فإن هاندكه حضر حفلاً غير رسمي، في مسقط رأسه "غريفين" النمساويّة، لممثلي المجتمع المحلي ومحافظ المدينة بيتر قيصر. وعندما قام صحافي بسؤال هاندكه عن رده على الانتقادات التي وجهها له ساشا ستانيزتش بشأن مواقفه خلال الحرب اليوغسلافيّة، كان ردّ هاندكه ساخطاً بشدّة.
لم يقم هاندكه بقطع المؤتمر الصحافيّ المرتجل مع الصحافيين والصحافيّات فقط، ليغادر بعدها ساخطاً، بل إنه ألغى موعد الحوار معه من قبل التلفزيون النمساوي ORF وكذلك مع القناة الأولى لراديو النمسا!
فقدان هاندكه لأعصابه أمام الجمهور والصحافيين، وازدياد الانتقادات التي يُطالعها في كلّ الجرائد المهمة وكذلك في الإعلامين المرئي والمسموع، يُضيّق المساحات حول حرية هاندكه وأنفاسه، ويُقلّل فرحته بنيله أهم جائزة أدبيّة في العالم، كما لو أنّ هاندكه يُحاكم حراً طليقاً، من قبل جمهور متزايد، بتهم مثل تشويه الحقائق، أو محاولة تبرئة أشخاص ومنظمات ارتكبوا جرائم ضد الإنسانيّة. كما لو أنّ الأكاديميّة السويديّة تبرّعت بمُتهم غيرها، من أجل نسيان فضائحها التي أدّت، على الأقل، لتأجيل الجائزة في عام 2018. بل يبدو الأمر كما لو أنّ لعنة حلّت على هاندكه وليس على أهم جائزة أدبيّة في العالم.