Print
صدام الزيدي

من طوكيو إلى الدار البيضاء: اعتراف دولي بالهايكو العربي

12 أكتوبر 2019
تغطيات
احتضنت العاصمة اليابانية "طوكيو" خلال أيام (13 – 14 – 15) من سبتمبر/ أيلول 2019، ندوة "هايكو العالم"، التظاهرة الثقافية والشعرية الدولية، التي تُنظّمها كل سنتين "جمعية هايكو العالم" بقيادة الشاعر الياباني "بانيا ناتسويشي"، ومقرها في طوكيو.
وأهم ما ميزّ "ندوة هايكو العالم" في دورتها العاشرة 2019، هو أنها اتّسمت بالانفتاح على جغرافيات شعرية عالمية جديدة، حيث وُجِّهت الدعوة لنحو (50) من شعراء الهايكو حول العالم (من آسيا وأميركا وأوروبا وشمال أفريقيا)، معظمهم من أصحاب التجارب العريقة في الهايكو، ومن بينهم نقاد معروفون في الساحة الأدبية العالمية.
قصيدة الهايكو العربية، التي ما زالت تثير جدلاً في الوسط الشعري (والنقدي) حولها (ما اشتراطاتها تحديداً)، والمُحاصَرة بأعباء الأشكال العتيقة (كالعمود والتفعيلة) من أشكال الكتابة الشعرية العربية، كانت هذه المرةّ عنواناً لافتاً في قراءات ومحاور ومخرجات "ندوة طوكيو"، حيث من بين أهم قرارات الندوة، إعلان التئام الدورة (11) لجمعية الهايكو العالمية في المغرب في العام 2021، تحت الإشراف التنظيمي لـ"نادي هايكو موركو"، الذي تأسس حديثاً في فبراير/ شباط 2019 في مدينة الدار البيضاء.
شهدت تظاهرة "الهايكو الدولية" هذا العام، في حضرة "باشو" معلم الهايكو الأول، مشاركة اثنين من كُتّاب الهايكو العربي، هما الشاعر المغربي سامح درويش، والشاعر والمترجم العراقي المقيم في إنكلترا عبدالكريم كاصد، بينما تعذرت مشاركة الشاعر والمترجم السوري
محمد عضيمة، الذي يقيم في اليابان، لأسباب خاصة.
وأقرّ شعراء الهايكو في ختام تظاهرتهم بطوكيو التفكير في صيغ ترجمة الهايكو العالمي، والبحث في أفق انفتاحه على جغرافيات شعرية عالمية جديدة، كما اتفقوا على تنظيم دورة الندوة الحادية عشرة لأول مرة في بلد عربي هو المغرب.
وتعليقاً على إعلان استضافة المغرب (كأول بلد عربي) لأعمال "ندوة هايكو العالم" في دورتها القادمة، قال الشاعر المغربي سامح درويش إن اختيار المغرب يأتي اعترافاً بقصيدة الهايكو العربية، وتكريماً لها. كما أن ندوة المغرب ستشكل انفتاحاً أوسع على أفريقيا، وعلى الوطن العربي، من أجل تفاعل شعري أوسع عالمياً.
واعتبر سامح درويش (المؤسس الرئيس لأول نادٍ عربي لشعر الهايكو بالمغرب) هذا الاختيار، وإن كان يتناغم مع حركية الهايكو بالمغرب، اختياراً للخريطة العربية كلها، في الأول والأخير. مشيراً إلى أن دورة 2021 ستمثل "تظاهرة لتوسيع دائرة تفاعل الهايكو العربي مع نظرائه عبر العالم، وهي فرصة للتعبير عن حضور شعرية عريقة ضمن شعريات العالم".
وتابع سامح درويش في تصريح خاص لـ"ضفة ثالثة": "بإعلان احتضان المغرب لهذه التظاهرة الدولية، يمكننا القول إن الهايكو العربي قد استطاع أن يلفت إليه الانتباه، ويستطيع (الهايكو العربي) في المستقبل أن يشكل مدخلاً للتعريف بالشعرية العربية برمتها، خاصة وأن الهايكو لا يدّعي أنه بديل لأي نوع شعري آخر بقدر ما هو إضافة نوعية يمكن أن تثري الشعرية العربية، وتساهم في تحديثها وفتح آفاق جمالية جديدة أمامها".

المشاركون في "ندوة هايكو العالم" في طوكيو، التظاهرة الثقافية والشعرية الدولية، التي تُنظّمها كل سنتين "جمعية هايكو العالم"

 محطات وأسماء
تدارست ندوة طوكيو العاشرة، التي تم الاحتفاء فيها بالذكرى العشرين لتأسيس "جمعية هايكو العالم"، عدة محاور نقاشية تتعلق بالهايكو، وخصائصه الجهوية والعالمية، وقد كانت مناسبة ليقدم ممثلا الوطن العربي الوحيدين في الندوة (عبدالكريم كاصد، وسامح درويش)، مداخلات

وأوراق أدبية (نظرة بانورامية عامة) سلطا الضوء فيها على مسيرة الهايكو العربي (مراحل وأسماء ومحطات التجربة الهايكوية العربية)، بدءاً من ستينيات القرن الماضي حتى الآن.
وكانت مدينة بارما الإيطالية احتضنت في العام 2017 الدورة التاسعة لـ"هايكو العالم"، بمشاركة الشعراء سامح درويش (المغرب)؛ عبدالكريم كاصد (العراق)؛ محمد عضيمة (سورية)، لتأتي الدورة العاشرة في طوكيو تتويجاً لمشاركات عربية باتت أكثر قرباً من جغرافيات شعر الهايكو وتجاربه التي تتمايز فيما بينها من بلد إلى بلد ومن منطقة إلى أخرى.
عن المشاركة العربية في ندوة دولية ببلد الهايكو الأم (اليابان)، ينوه الشاعر سامح درويش، بدءاً، أن حضوره في ندوة الهايكو العالمية بطوكيو إلى جانب الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد (في حين تعذر حضور الشاعر والمترجم السوري محمد عضيمة، الذي كان مدعّواً للفعالية) لا يعني "أننا نمثل شعراء وشاعرات الهايكو العرب، أو أننا الأفضل من بينهم، بقدر ما كان حضورنا رمزياً لإعطاء صورة عن تجربة الهايكو العربي والالتحام بتجارب الهايكو عبر العالم، خاصة أننا سبق وحضرنا معاً سنة 2017 الدورة التاسعة للندوة في مدينة بارما الإيطالية".

 

نظرة بانورامية
قدّم الشاعران سامح درويش، وعبدالكريم كاصد، ضمن أشغال ندوة طوكيو "نظرة بانورامية عن الهايكو العربي"؛ مراحله ومحطاته، وأسماء أهم تجاربه منذ ستينيات القرن الماضي، بدءاً بتوقيعات الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، وبرقيات الشاعر السوري نزار قباني، وتأملات الشاعر وعالم الاجتماع المغربي عبدالكبير الخطيبي، مروراً بتجارب الكتابة على نمط الهايكو، أو على أنماط أخرى قريبة منه ومستلهمة له، مثل تجارب عدنان بغجاتي، وشاكر مطلقن وعاشور فني، وعز الدين الوافي، وعذاب الركابي، وغيرهم.
كما استعرضا ما تم تقديمه من ترجمات للهايكو الياباني والعالمي إلى اللغة العربية من طرف عدد من المترجمين العرب (أمثال عبدالكريم كاصد، ومحمد عضيمة، ومحمد الأسعد، وجمال مصطفى)، وصولاً إلى التجارب الجديدة منذ بداية الألفية الثالثة (نماذج منها) غطّت مختلف الأقطار العربية تقريباً، وهي أسماء كثيرة. كما أشارا إلى أهم الأنشطة والفعاليات والأندية والصفحات الإلكترونية التي تعنى بالهايكو (في المنطقة العربية)، وأهم حضور له في المحافل والمجلات العالمية، وظهور أنتولوجياته.
 

خصوصية عربية
يلفت الشاعر سامح درويش الانتباه إلى أنه "بالرغم من الخصائص المشتركة للهايكو على الصعيد العالمي، فإن أي تجربة هايكو تصطبغ بصبغيات ثقافتها ولغتها، ومن ثمة فإن للهايكو العربي خصوصياته التي قد تلتقي مع خصوصيات لغات أخرى وقد تتباين عنها، وهذه هي مهمة النقد، ولعل أهم هذه الخصوصيات – في نظري – هي وجود تلك النفحة الغنائية، وتلك الجرعة من المجاز، وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكو عبر العالم، وعدم احترام التوزيع الإيقاعي المعروف في اليابانية بـ(5 /7/ 5)، نظراً لخصوصية اللغة العربية، هذا ويمكن للنقد أن يؤكد هذه الانطباعات، أو ينفيها، ويستنبط غيرها".

 

اشتراطات

يزعم شعراء عرب كثر أنهم يكتبون قصيدة الهايكو، لكن لا بد من اشتراطات لنحكم على كتابة ما بأنها هايكو، وفقاً لسامح درويش، الذي يصنف هذه المحاولات (الكتابات) العربية إلى ثلاث فئات: "هناك اليوم صبيب كبير مما يكتب في مشهدنا الشعري العربي تحت مسمى الهايكو، غير أنه يمكن أن نميز داخل هذا الصبيب بين فئات ثلاث، الأولى تتمثل في أولئك الذين يحاولون كتابة الهايكو وفقاً لقواعده واشتراطاته الجمالية المتعارف عليها، بل ويتوقون إلى التجريب داخل هذه القواعد والاشتراطات، وهم من يستطيعون مضاهاة شعراء الهايكو الحقيقيين في الشعريات الأخرى، وهم أيضاً إما أتوا إلى الهايكو من تجربة وخبرة شعرية سابقة، أو جاءوا إليه من تجارب إبداعية أخرى، والفئة الثانية هم من يعتقدون أن الهايكو هو تلك الأسطر الثلاثة – ومن بينهم شعراء لهم أسماؤهم - فتبتعد قصائدهم عن الهايكو لتنتمي إلى أشكال شعرية قريبة من الهايكو، من حيث التكثيف، مثل الشذرة، والومضة، والحكمة، وغيرها من الأنواع الأدبية القصيرة. وهؤلاء (وفقاً لسامح درويش) يساهمون في خلط أوراق هذا النوع الشعري، ويشكلون ذريعة لمن يرفضون وجود الهايكو ضمن رقعة الشعرية العربية. أما الفئة

الثالثة، فهي تلك المحاولات التي تقوم بها فئات عريضة من الشباب على سبيل اكتشاف هذا اللون الشعري، والاقتراب من عوالمه وتقنياته، وإني – شخصياً – أرى في إقبال هذه الفئة على  تجريب كتابة الهايكو أمراً إيجابياً، على اعتبار أن اللغة هي في النهاية ملك عام يتيح التعبير به للجميع، وأن كتابة وتذوق الهايكو قد يشكل مدخلاً للاقتراب من الشعر عموماً، وبالتالي فإن ذلك يساهم في استعادة الشعر العربي لجمهوره".

 

لم يعد الهايكو يابانياً!
عن تجارب الهايكو العالمية، من وحي ما استمع إليه من قراءات في تظاهرات جمعية هايكو العالم وغيرها، وما اطلع عليه في مشوار قراءته المكثفة لشعر الهايكو وجديد إصداراته ومهرجاناته، بوصفه أحد كُتّاب هذا النوع من الشعر الأكثر خفّةً وحداثةً، ومن أهم أسمائه العربية المعاصرة، يشير سامح درويش إلى أن "الهايكو اليوم لم يعد يابانياً فقط، بل أصبح لوناً شعرياً عالمياً، وسقفاً جمالياً إنسانياً، يشكلان مكوناً ملحوظاً في مختلف الشعريات عبر العالم. ويظل (الهايكو) بخصائصه العالمية قاسماً مشتركاً بين هذه الشعريات". ويضيف درويش (مستدركاً): "إن كان ثمة ما يميز تجربة هايكو عن أخرى فهو بالدرجة الأولى ما يميز ثقافة عن أخرى من حيث تفاصيل ومظاهر الحياة وطرائق التصرف والتفكير، أي أن كل هايكو يعكس مجتمعه، أما في ما يخص تقنيات كتابة الهايكو فتكاد تكون مشتركة إلا ما يتعلق بالإيقاع وتفاوت حضور هذه التقنيات بين تجربة هايكو وأخرى".

 

جغرافيات مختلفة
يشار إلى أن أكثر من 50 شاعراً وشاعرة شاركوا في ندوة الهايكو العالمية في دورتها (سبتمبر 2019) بطوكيو، تم الاحتفاء بتجاربهم الهايكوية وتوثيق أسمائهم في "أنطولوجيا هايكو العالم" التي طبعت ووزعت على المشاركين في ندوة طوكيو، مع ترجمة إلى الإنكليزية، إلى جانب اللغة اليابانية، للنصوص والسير الشعرية لشعراء الهايكو المدعوّين الذين جاؤوا من جغرافيات شعرية متنوعة، من: (الصين؛ ألمانيا؛ إيطاليا؛ أميركا؛ منغوليا؛ النيبال؛ كازاخيستان؛ إنكلترا؛ فيتنام؛ بلغاريا؛ البرتغال؛ المغرب؛ العراق، إضافة إلى اليابان البلد المضيف)، جميعهم شعراء هايكو، ومن بينهم من يمارس البحث، أو النقد، أو ألوان إبداعية أخرى، إلى جانب كتابة شعر الهايكو.

 

في بلاد "منبع الشمس"
مختتماً حديثة عن أحدث تظاهرة هايكو عالمية، عبّر سامح درويش عن شكره لحفاوة الاستقبال والتنظيم في بلاد منبع الشمس (اليابان): "شكراً لأصدقائنا وصديقاتنا (الهايجن اليابانيين) على حفاوة استقبال الهايكو العربي في هذا المحفل الشعري الدولي المتفرد.. ومن المؤكد أنّ زادنا من هذه الرحلة إلى بلاد منبع الشمس لن ينفد بسرعة".

مقتطفات:

 

(1)

"ليس هناك موضوع لا يناسب قصيدة الهايكو".

(معلم الهايكو الأول، الياباني ماتسوو باشو 1664- 1694).

 

(2)
حتّى في آخرة الليل
تمرّين قطاراً
للساهر في ليلكِ.. طوكيو!

***

غرابٌ صاح
فردّد صيحتَهُ الأفقُ بعيداً:
"باشو..! باشو..!"

***

في ساحاتكِ
طوكيو
حتّى ظلّي يبتهج

***

كلّما رأيتُ منديلكِ
(يلّوحُ لي)
تذكّرتُ دموعي

***

ريوا..!
هذا المسرع في الشارع
ليس أنا..
ليس أنا

***

السيف
المرآة
جبل فيجي أين؟

***

مظلّتان
واحدةٌ لي
وأخرى لشجرةٍ في الشارع.

(عبدالكريم كاصد: في طريق العودة من ملتقى الهايكو في طوكيو. فيسبوك، 18 سبتمبر/ أيلول 2019)

                     

(3)

"يحدث أن تذهب إلى الصباح لتوقظه بدل أن تنتظره ليوقظك.. الآن بأرض منبع الشمس.. الآن بأرض باشو وأنا أتهجى بها أول الخطوات".

(سامح درويش، فيسبوك، 12 سبتمبر/ أيلول 2019).

(4)
في ساعات عشر
اجتزتُ نهاراً، ليلاً، ونهاراً آخر
جالساً في مكاني كبوذا

***

حلمت أنني غادرتُ طائرتي
وجلستُ إلى طاولةٍ في مقهى في الشارع
ثم رجعتْ

***
هاتشيكو..!
من تنتظر الآن؟
وقد أمسيتَ وحيداً وسط الآلآف من الناس

***

في "أودابيا"
الجسور تصعد وتهبط كما البشر
والهواءُ أراجيحُ لنوم الأزهار

***

بقصبتين اثنتين
يحملني اليابانيُّ خفيفاً
كما يحملُ حبةَ رزّْ

***

يا لجمال اللغة الهيروغليفية المسمارية
وهي تمرّ سريعاً في الشاشة
خلف شِباك الصيد

***

في حديقة الحيوانات بـ "يوإينو"
آلمني طيرٌ يتلفّتُ مذعوراً
تعلوه قلنسوةٌ بيضاء

***

(في حديقة يوإينو أيضا)
قرودٌ بلحىً
وعمائم بيضاء
تقضمُ، كلَّ الوقتِ، قشورَ الأشجار

***

وددتُ أن أرى قمامةً في الشارع
بيتاً خرباً
نافذةً مهجورةً
لأتذكّر وطني بخيرٍ.. يا إلهي!

// هاتشيكو: هو الكلب الوفيّ الذي انتظر سيده، بعد رحيله، في المحطة أحد عشر عاماً حتى وفاته سنة 1936.
// أودابيا: جزيرة ساحرة في طوكيو.

(عبد الكريم كاصد، فيسبوك، 21 سبتمبر 2019).


(5)
الوقت يدهمني،
من ساعة الحائط المعطّلة
أحدس ذلك.

***

في جوف الليل،
أفقتُ فجأةً
فلم أجِدِ النافذة.

***

شريط الزفاف،
بين الفينة والأخرى
موتى يرقصون.

***

إلى قوس قزح،
يتطلع الفتى الأعمى
بعينين مفتوحتين.

***

بِركةٌ صافية،
العصافير
تُحلِّق في الأعماق.

***

حصواتُ الوادي،
لم يصقلها
سوى حنان الماء.

***

بحجرٍ حفرت قلباً،
وأنا أمُرّ
أحسّ للصفصافة نبضاً.

***

آخر موضة،
صفراوان
القبّعة وضحكته.

(سامح درويش، مختارات هايكو، أنطولوجيا شعراء هايكو العالم، جمعية هايكو العالم، طوكيو 2019، الصفحة 23، نشرت المختارات بالعربية مع ترجمتين باليابانية والإنكليزية).

 

(6)
في هذا اليوم يبدو البرنامج حافلاً بالمداخلات التي تتناول الهايكو والترجمة ابتدأها الشاعر بانيا بمقالة طرحت الكثير من ملابسات الاثنين (الترجمة والهايكو) فهو يستهلّ المداخلة بالحديث عن تجربته المرّة مع اللغة والترجمة خلال السنوات التي أعقبت انعقاد ملتقى الهايكو العالمي الأول سنة 2000، ففي الملتقى الثاني فاجأه المقطع التالي الوارد في كلمة تتحدث عن مهمة الملتقى: "من أجل تطوير الهايكو في كلّ اللغات وممارسات الترجمة المرافقة للهايكو، والإقرار بأن اللغة الإنكليزية هي لغة الهايكو العالمية الحالية" فيعلق على هذا المقطع بما يمكن تلخيصه"أيّ لغة عالمية لن تكون أبداً شاملة أو أبدية. إنْ هي إلا لغة مؤقتة عابرة. ثمة أنواع عديدة من الإنكليزية كما أن هناك لغات عالمية أخرى منها على سبيل المثال: الإسبانية؛ الروسية؛ الفرنسية؛ العربية... إلخ. إنني لا أنكر أهمية اللغة الإنكليزية في عالمنا المعاصر ولكنني أجد في المقطع السابق غروراً وتجاهلاً من قبل الذي كتبه وهو زميل مؤسس في الملتقى".
وهذا ما دفعه إلى كتابة هذا الهايكو:
دموع حمراء
دم أسود
لغتنا قفصٌ
وإلى الإشارة إلى أن ترجمته إلى الإنكليزية كانت أفضل من الأصل الياباني فالدموع الحمراء أصلها في اليابانية "دموع مرّة" وهي تعود في جذورها الأبعد إلى قصيدة طويلة باللغة الصينية كتبها الشاعر باي ليتيان في القرن السابع الميلادي، وليس هناك ما يقابلها في اللغة الإنكليزية مما اضطر المترجم الإنكليزيّ إلى استخدام الترجمة البديلة التي جاءت أكثر إيحاءً، مستنتجاً، من ذلك، أن بإمكان الترجمة رغم العوائق وعلى النقيض من تجربته المريرة أن تكون ناجحة جداً وقادرة على رفع هذه العوائق (على الأقل أحيانا) بما يشبه المعجزة".
ثم يشير إلى أن الهايكو الذي كتبه والهايكو الآخر الذي أورده لشاعر آخر، في مقالته هذه، يخلوان من الكلمات الموسمية التي ما زال يتشبث بها بعض الشعراء اليابانيين، ويرى أن ذلك لن يكون معياراً للقصيدة، بل اختياراً لأن الفصول تختلف من بلد إلى آخر فبعض البلدان قد تشهد فصولاً ستة في اليوم الواحد.
وفي نهاية المقال يورد ترجمة لهايكو باشو الشهير عن الضفدع القافز إلى البركة، قام بها هو وزميله المترجم الأميركي أريك سالاند الذي سنتطرق إلى مداخلته في متابعة قادمة، ليذكر أن الهايكو أصبح في الإنكليزية محتوياً على 12 مقطعاً فقط، وليس 17 مقطعاً ما يدعونا إلى التساؤل عن ضرورة هذا المعيار أيضاً.
يخلص بانيا في دراسته إلى أن "الهايكو المترجم إلى أكثر من لغة يرينا، على حد قوله، أشكالاً وإيقاعات مختلفة تبعاً لكل لغة، لذا لم يبق أمامنا سوى الأسطر الثلاثة معياراً للجميع".
وفي الحقيقة أن الاستنتاج الذي خلص له سبق أن طرحتُه في مقالةٍ لي سابقة بعنوان "الهايكو أفق مفتوح"، في مهرجان الموكب الأدبي بوجدة في المغرب، وهو منشور مع غيره من

مقالاتٍ أخرى في مطبوع أصدره المهرجان وفيه ورد ما يأتي:
"بل إن هذه المقاطع (أي المقاطع السبعة عشرة) لن تماثل في اللغة الإنكليزية غير 12 مقطعاً بسبب أن (المورا) أي الوحدة الصوتية في اللغة اليابانية لا تماثل المقطع تماماً في اللغة الإنكليزية حتى لو حرص المترجم أن ينقلها بأمانة".
ولو دققنا أكثر فإننا سنرى أننا ما طرحناه أنا وبانيا لم يكن بعيدا عما طرحه باشو في تنظيره أو ممارسته كتابة الهايكو، فهو كما ذكرتُ في مقالتي المذكورة: "لم يتقيد نفسه بهذه القاعدة التي خرج عليها فيما كتبه من قصائد هايكو تضمنت أكثر من 17 مقطعاً، بل أن قصائد كتبت بسبعة عشر مقطعا لم يعتبرها باشو قصائد هايكو لأن هذا الشرط على أهميته ليس هو المعيار الأساسيّ في تحديد قصيدة الهايكو. من بينها قصيدته الشهيرة:

على غصنٍ ذابل
حطّ غراب -
غسقٌ خريفيٌّ

لقد ذهب باشو أبعد من ذلك "متخطيا الذات إلى الموضوع، بمفهومه الأوسع المتعدد الأقرب إلى سعة الحياة وتعددها، القائل:" ليس هناك موضوع لا يناسب قصيدة الهايكو" مع ذلك كان باشو صارماً في كتابة الهايكو ليس وفق شكله المحدّد، على أهمية ذلك، ولكن وفق رؤية شعرية متفردة كما يذكر ذلك الشاعر والمترجم المعروف لوسيان سترايك في مقدمته لقصائد باشو الصادرة بالإنكليزية".
ثم أتيتُ بهذا المثال الذي يؤكد هذه الرؤية المتفردة: "يروى عن باشو أنه في يوم من أيام الخريف، حين كان يسير مع أحد تلاميذه العشرة
"كيكاكو" عبر حقل أرز، ألف كيكاكو حول يعسوب أحمر أثار خياله، وأطلع أستاذه على القصيدة التالية:
اقتلع زوجاً من أجنحةِ
يعسوب، وستحصل
على قرن فلفل
(ترجمة محمد الأسعد).
فقال باشو: "لا.. هذه ليست هايكو. أنت تقتل اليعسوب بهذه الطريقة.. فإذا أردت تأليف هايكو ومنحها الحياة يجب أن تقول:
أضف زوجاً من الأجنحة
إلى قرن فلفل، وستحصل
على يعسوب
(ترجمة محمد الأسعد).

أين نجد المعيار الذي يستحق الوقوف عنده إذن...؟
كانت إجابتي عن هذا السؤال في مقالة أخرى قدمت بها ديوان "ضفائر الهايكو" لأخي الشاعر والمترجم القدير عبد القادر الجموسي، منذ ما يقرب من سنتين، وهي الإجابة ذاتها التي طرحها بانيا: "ثمة قول ينسب إلى باشو هو "ليس هناك موضوع لا يناسب قصيدة الهايكو" وهذا ما يطالعك لدى الجموسي في (ضفائر الهايكو) التي تعددت وتشابكت وأضحت اللاقاعدة هي القاعدة، فلا مقاطع سبعة عشر هنا، ولا وزن، لا قافية حتى ولا قطْع ظاهر: شرْطة أو نقطتان، ولكن هنا ثمة هايكو أيضاً هو روح الشعر..
ما الذي يتبقى للهايكو؟ وما الذي لا يتبقى له؟
الأسطر الثلاثة؟
أهي بيت حقا؟ أم أبيات ثلاثة؟ (في لغتنا طبعاً) وكيف نتأكد من ذلك: بقاعدةٍ عامةٍ أم بالقصيدةِ ذاتها.. قصيدةِ الهايكو"
وحتى الأسطر الثلاثة نجد ما يخرقها في شعر باشو نفسه، مثلما نجد شعراء كبار في العالم كتبوا بالأسطر الثلاثة ولم يسمّوا قصيدتهم بالهايكو: الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس في ديوانه "ثلاثيات" الذي احتوى على أكثر من 300 ثلاثيةٍ؛ الشاعر الأميركي وليام ستانلي ميروين؛ الشاعر الفرنسي بول كلوديل وغيرهم.

إذن هل ينبغي أن نبحث عن الهايكو في ما هو أبعد من الشكل كما رأينا ذلك في الحوار بين باشو وتلميذه؟ أو نعتبره يابانيا صرفاً وليس هو الشكل المبثوث في ثقافات ولغات عديدة أخرى؟.

(عبد الكريم كاصد، فيسبوك، 27 أيلول/ سبتمبر 2019، ملتقى الهايكو في طوكيو (3)؛ اليوم الثاني من المهرجان (14/9/2019).