Print
يوسف وقاص

أدب المهاجرين الإيطالي: بدايات مغاربية

28 مايو 2017
تغطيات

في العقود الأخيرة، تضاعفت التيارات الأدبية متعدّدة الأصوات والاتّجاهات في المشهد الثقافي الإيطالي. ويبدو أنه يصعب تصنيفها حالياً - بحسب آراء كثير من النقاد - لأنها مفتوحة على ظواهر طارئة أصبحت تُميّز المشهد الأوروبي والعالمي في العقود الأخيرة. ويقصد بهذه الظواهر، نصوص كُتبت بلغات مُكتسبة، وأحياناً قادمة من العالم السفلي للمهاجرين (عالم الجريمة والسجون)، بتعبيرات شاعرية ذات طابع هجين، ومن إبداعات فنية يمكن حصرها في أصوات الشتات القادمة، سواء من المستعمرات الإيطالية السابقة أو من بقية أنحاء العالم.

وبتأمل تحركات المشهد الحالي للأدب الإيطالي، الذي يزداد دينامية، يقوم الباحثون بقراءة "معاكسة" للفضاء الزمني من بداية الهجرة إلى الاستقرار (المؤقت)، وغالباً ما يترجمون هذه النصوص تحت منظور جديد. والهدف من ذلك، هو تشخيص التبدّلات المختلفة لظاهرة التقاطع الثقافي وأثره في كتاباتهم. ويظهر أيضاً بوضوح كيف أن الكتابة، في مزيج مدهش بين ثقافات ولغات متعدّدة، تبدو هنا وكأنها تريد أن "تعيد كتابة" إيطاليا والإيطاليين بطريقة مختلفة عمّا اعتادوا عليه، بعيداً عن القوالب الجاهزة والانبهار أمام عمالقة الأدب والفنون الإبداعية الأخرى. 

وأودّ هنا أن أتوقف برهة للحديث عن تجربتي الشخصية مع أدب المهاجرين الإيطالي التي بدأت عام 1996، بقصة قصيرة عنوانها "أنا مغربي بحرفي الكاف"، التي كتبتها مباشرة باللغة الإيطالية، في مكان وظروف صعبة للغاية ربّما سأتطرق إليها في مقال آخر. أما لماذا اخترت أن أكون مغربياً وأسرد القصة بضمير "الأنا"، فالأمر له أكثر من بُعد. أولاً، لدرء التهم الكثيرة التي كانوا يلصقونها جزافاً بإخواننا المغاربيين، مثل القذارة والوضاعة وغيرها من النعوت المهينة. وثانياً، لإحساسي أن الأدب هو أفضل طريق لتعريف الإيطاليين بتراثنا وأدبنا. وفوق كل شيء مدّ جسر من التواصل معهم عن طريق "الكلمة". طموح كبير، إلا أنه بطريقة ما، وبعد مثابرة طويلة، أعطى بعضاً من ثماره.

والصدفة وحدها أفسحت لي المجال للاشتراك في تلك المسابقة الأدبية المخصصة لكتّاب أجانب يقيمون في إيطاليا، والتي كانت قد أعلنت عنها جمعية "إكس & ترا" (مختصر: الأجانب بيننا)، ونشرت شروطها على صفحات مجلة أسبوعية قريبة من الفاتيكان. يجب الإشارة هنا إلى أن كل النشاطات التي تحمل طابعاً اجتماعياً وخيرياً، كان يُنظر إليها كطفل صغير بحاجة للعناية والإمساك بيده ريثما يقف على قدميه. هذه النظرة "الأبوية" ما زالت تميّز قسماً لا بأس به من الدراسات التي تُعنى بأدب المهاجرين الإيطالي.

القصّة، وكانت طويلة بعض الشيء ومؤلفة من ثلاثة أجزاء، فازت بالجائزة الخاصة للجنة المحكّمين ونشرت في أنطولوجيا، تضم قصصاً وقصائد شعرية لكتّاب مهاجرين من مناطق مختلفة من العالم، من بينهم الشاعر الألباني كاظم حيدري، الذي فاز بعد عدة سنوات بجائزة مونتالي للشعر، وهي المرة الأولى التي تُمنح فيها هذه الجائزة لشاعر غير إيطالي.  

أرماندو نييشي، أستاذ الأدب المقارن في جامعة "لا سابيينزا" في روما، بعد أن اطلع على نماذج من نتاج هؤلاء الكتّاب، أخذ على عاتقه متابعة هذا الأدب، نقداً ودراسة، بمساعدة مختصين من بينهم نورا مول، مُدرّسة العلاقات الاجتماعية في جامعة أونونيتّوني للمعلوماتية، التي أصدرت فيما بعد دراسة بعنوان "اللانهائي تحت البيت. الأدب والتعددية الثقافية في إيطاليا المعاصرة"(1). بينما غراتزييللا باراتي، مدرسة الأدب الإيطالي والأدب المقارن في معهد دورتموث، نيوهامبشير، الولايات المتحدة، درست الواقع الإيطالي الجديد متعدّد الثقافات وترجمت كثيراً من نصوص هذا الأدب إلى اللغة الإنكليزية، وأصدرت دراسة بحثية بعنوان: "الهجرة في إيطاليا: فن إعادة سرد ثقافة الأصل"(2)، وأخرى بعنوان "مفترق الطرق في البحر الأبيض المتوسط: أدب المهاجرين في إيطاليا"(3).  

بالإضافة إلى نقاد وباحثين آخرين، من بينهم رفائيل تاديّو الذي أصدر دراسة موسّعة عن هذا الأدب بعنوان: "الأدب الناشئ: أدب المهاجرين الإيطالي"، وهو أيضاً مؤسس، مع مجموعة من كتّاب المهجر، الجريدة الإلكترونية "القبلي" التي تُعنى حصرياً بهذا الأدب.

وإذا ما عدنا قليلاً إلى الوراء، نجد أن  هذا الأدب كان قد زرع بذوره قبل ذلك بعدة سنوات، على إثر حادث إجرامي وقع في الليلة ما بين 24 و25 آب/أغسطس 1989، وهو، بلا شك، مهّد الطريق لمنتج أدبي للمهاجرين مكتوب باللغة الإيطالية، بحسب الناقد دانييل كومبرياتي. بذور سقيت بالدم، إذن، حتى إنه يمكن المخاطرة في الاعتقاد أن من أسس لهذا الأدب كان حادثاً من تلك الحوادث التي تتلقفها الميديا وتقدّمها للقراء حسب أيديولوجية كل طرف: "لا بد أنه كان يقوم بأعمال مشبوهة!"، أو "جريمة أخرى بحق مهاجر أعزل!". وفي الحالتين، كان كلّ طرف يدافع عن وجهة نظره لكسب عطف الناخبين، سواء أكانوا من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار.

وهذه الجريمة كانت قد وقعت في "فيلا ليترنو"، في جنوب إيطاليا، حيث قام المعتدون بسرقة وقتل شاب من جنوب أفريقيا، اسمه جيرّي ماسلو. هذا الشاب، مثل الكثير من شبّان العالم الثالث الذين يهاجرون إلى الغرب لأسباب مختلفة، كان قد وصل إلى إيطاليا للبحث عن حياة أفضل، واشتغل في جمع البندورة (الطماطم) خلال أشهر الصيف من ذلك العام.

الحادثة أثارت ردود فعل كبيرة في إيطاليا، فبالإضافة إلى كونه عملا عنصريا مخزيا، كان أيضاً عاملاً حاسماً في طرح مسألة المهاجرين على الرأي العام المحلي. القناة الحكومية الثانية، راي 2، نقلت، في بثّ مباشر بتاريخ 28 آب/أغسطس، مراسم جنازة الضحية، بينما بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر، خرجت مظاهرة ضخمة في روما مندّدة بالعنصرية، ضمّت أكثر من مائتي ألف شخص.

وامتلأت الصحف بتعليقات متباينة، من بينها مقال نشرته صحيفة "لا ريبوبليكا"، وجاء فيه: "الحقيقة، أننا، للمرة الأولى، أثناء هذا الصيف، بدأنا نعي هذه الظاهرة التي تقلق الأمم الأوروبية المتقدمة منذ أعوام. بعد أن كنّا، حتى يوم أمس، بلداً يُصدّر المهاجرين، نجد أرضنا الآن محجّاً للمهاجرين، نوعاً من "إلدورادو - أرض الذهب" لشعوب العالم الثالث. الظاهرة انفجرت فجأة، وكالعادة، لم نكن جاهزين لمواجهتها!".

وردود الفعل الأدبية أيضاً لم تتأخر كثيراً. طاهر بن جلّون، كتب قصة مستوحاة من هذه الحادثة، مباشرة باللغة الإيطالية، بالتعاون مع الصحافية إيجي فولتيرّاني، ونشرت مع قصص أخرى تعالج مشكلة المهاجرين في أنطولوجيا "أين الدولة، لا توجد. قصص إيطالية".

ورواية الكاتب السنغالي سعيدو موسى با، "وعد حمادي"، التي كتبها بالتعاون مع الصحافي الإيطالي أليسّاندرو ميكيليتّي، تبدأ من هذه الجريمة المأساوية، بينما التونسي صلاح مثناني صرّح أنه، بعد تلك الجريمة فقط، قررت مجلة "لاسبريسّو" نشر تحقيق حول المهاجرين، مستعينة للمرة الأولى بكاتب أجنبي.

بهذه الطريقة، حسب تعبير البروفيسور أرماندو نييشي، بدأت المرحلة الأولى من أدب المهاجرين، بدوافع تتعلق بالحرب الإعلامية حول المهاجرين، أكثر مما هي تجاه القيمة الأدبية الفعلية لنتاجات هؤلاء الكتّاب. دور نشر كبيرة، مثل دي أغوسطيني وغارتسانتي، نشرت هذه النصوص التي كانت جميعها تستند إلى مرجع أوتوبيوغرافي، وتقدم تأملات عميقة حول هذه الظاهرة التي ازداد زخمها مع مرور السنين. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما كان يرافق الكاتب الأجنبي في عمله صحافيٌ إيطالي، تمّ اقتراحه من قبل الناشر لكي "يعيد إنتاج النصّ" بلغة صحيحة ومتكاملة فنياً. من الواضح، أن وضعاً كهذا يخلق التباسات واضحة: ما هي طبيعة العلاقة التي تنشأ ما بين الكاتب والصحافي؟ هل الصحافي يتدخل في صلب القصة والبنية السردية؟ وهل يمكن حقاً الكلام عن مؤلف مساهم ضمن علاقة تشاركية لا يمكن أن تكون متوازنة، لأن إتقان المؤلف الأجنبي للغة هو حتماً أقل من مستوى الصحافي المشارك؟

ولكن، سرعان ما خفّ النقاش حول الهجرة، وبالتالي انخفض اهتمام دور النشر الكبيرة بهؤلاء الكتّاب. بهذه الطريقة ابتدأت المرحلة الثانية، أو "مرحلة تفاعل" أدب المهاجرين الإيطالوفوني مع المحيط الذي نشأ فيه، والكتابة مباشرة باللغة الإيطالية من دون أي وساطة، وبدأ الكتّاب بإصدار نصوصهم عبر دور نشر صغيرة ومتوسطة، أو حتى من قبل مؤسسات وجمعيات ثقافية تهتم بالمهاجرين. وإلى هذه الفترة تنتمي أعمالٌ مثل المجموعة القصصية "أماندا أوليندا والأخريات" للبرازيلية كريستيانا كالداس بريتو، و"روح الرمال الصفراء" للسنغالي مباكهْ غودجي، وأولى المجموعات الغنائية للشاعر الكاميروني نديوك نغانا.

من جهة أخرى، دائما في الفترة ما بين نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحالي، نُشرت رواية "الأجنبية" للعراقي يونس توفيق، و"صِدامُ حضارات بسبب مصعد في ساحة فيتوريا" للجزائري عمارة لخوص، التي حازت جائزة ليوناردو شاشا وفلايانو، و"البلد حيث لا يموتون أبداً" للألبانية أورنيلا فورسبي، ومجموعة "النعاج السود" التي تضم قصصاً للصومالية إيجابا شيخو، لإنجي موبيايي كاكيسهْ (من مواليد القاهرة 1972، من أم مصرية وأب من الكونغو زائير)، للإثيوبية غابرييللا كوروفيللا وللهندية ليلي-أمبر ليلى وديع، و"بعيدا عن مقديشو" للصومالية شيرين رامازانالي، و"لهيب في الجنة" للجزائري عبد المالك سماري، و"نايلة" لكوسّي كوملا إيبري من توغو.

في الأعوام الأخيرة، حاز هذا الأدب اهتمام وسائل الإعلام والدوائر الأدبية والسياسية. وبالفعل، أقيم مهرجان كبير له منذ عدة أعوام في مدينة تيرامو، ولقي أيضاً ترحيباً واسعاً أثناء مهرجان مانطوفا الثقافي في العام الماضي. في هذه الأثناء، ظهر أيضاً كتّاب جدد، مثل بيجان زارمانديلي، ميخائي بوتكوفان، وكثيرين آخرين.

في المرحلة الحالية، التي يمكن اعتبارها المرحلة الثالثة من أدب المهاجرين الإيطالي، نجد أن الكثير من الكتاب المهاجرين قد اكتسبوا أسلوبهم ولغتهم الخاصة، والمواضيع التي يعالجونها أخذت تميل إلى التنوّع في المدة الأخيرة.

وبعيداً عن الدراسة التاريخية "الكلاسيكية"، يمكن الولوج إلى الظاهرة عبر مسارات تحلّل بين فترة وأخرى المسائل المرتبطة بالأجناس الأدبية المستخدمة، الكتابة النسوية، كتّاب "الجيل الثاني"، والنتاج الأدبي للكتّاب الذين ينحدرون من المستعمرات الإيطالية السابقة.

ولكي نفهم ماذا يحدث في إيطاليا ضمن هذا السياق، من الضروري قراءة نفس الظواهر لألبانيين يكتبون باللغة اليونانية، وباكستانيين باللغة النرويجية، ورومانيين باللغة الرومانية وأتراك باللغة الألمانية... إلخ. أدب خارج التقليد المدرسي، ويزداد تشابكاً مع الفنون الأخرى، مثل السينما، المسرح والتلفزيون. يقول فولفيو بتساروسّو من جامعة بولونيا (عاصمة مقاطعة ريجّو إميليا): في معظم الأحيان، انصب الاهتمام على مغزى أدب المهجر كشهادة اجتماعية، ولكن لم يتمكن أحد تقريباً من أن يقدّم دراسات تحليلية - بنيوية كثمرة لذاك الذي يسمونه عالمياً دراسات أدبية(4)".


 *كاتب سوري يقيم في ميلانو

 

(1)     L’infinito sotto casa. Letteratura e transculturità nell’Italia contemporanea – Nora Moll

(2)     Migration Italy: The Art of Talking Back in a Destination Culture (Toronto Italian Studies) – Graziella Parati

(3)     Mediterranean Crossroads: Migration Literature in Italy – Graziella Parati

(4)     Cultural studies.