Print
غونتر كونرت

محطة القطار الرئيسيّة

10 ديسمبر 2017
ترجمات

ذاتَ صباحٍ مشمسٍ تفاجأ رجلٌ بعثورهِ على "رسالةٍ حكوميَّة" موضوعةٍ بجانبِ الفنجانِ على طاولةِ الفطورِ في شقّته، دون أن يفهمَ كيفَ وصلتْ الرسالة إلى داخلِ بَيْتِه.

بالكاد فُتحَتْ الرسالة حتّى صدَمتْ قارئها بطلبٍ آمرٍ:

عليكَ أن تحضرَ في صباح الخامس من تشرين الثاني لهذه السنةِ إلى "حمامات الرجالِ في محطة القطار الرئيسية" لتُعدَمَ؛ هكذا كُتِبَ في الرسالةِ الحكوميّة المطبوعةِ على ورقةٍ رماديةٍ متعرّجةٍ. خُصِّصت لكَ الحجرة رقم "18"، وإن لم تُلبِّ الأمرَ فإنَّك تُعرِّضُ نفسكَ للعقوبةِ وفقَ قوانين العمل الإدرايّة، ويُفضَّلُ أن تحضرَ بثيابٍ خفيفة كي نضمن سير العمليةِ بلا معوّقات، تقولُ تتمّة الرسالة.

 

بعد مرورِ وقتٍ قصيرٍ التجأ الرجلُ خائفاً إلى أصدقائه راجياً منهم النصحَ. امتنعَ عما قدّموه له من شرابٍ وطعام وطلبَ بدلَ ذَلِكَ نصيحةً عاجلةً، غير أنَّه لم يجنِ إلّا رؤوساً تهتزُّ بجديَّةٍ تدلُّ على الخطورةِ. لم يحصلْ الرجلُ على أيِّة ملاحظةٍ ذات شأنٍ أو حتّى على عرض مساعدةٍ من صحبِه، بل إنَّهم تنفَّسوا الصعداءَ في سرِّهم حين أُغلِقَ الباب ثانيةً خلفَ رجلٍ صارَ يعيشُ بصورةٍ محدودةٍ وتساءلَوا إنْ لم يكونوا قد بالغَوا أساساً حين فتحوا له البابَ، إن كان ثمة أيّ معنىً للقيامِ بأيِّ شيءٍ لرجلٍ لم يعد ينتظره الكثيرُ في المستقبل.

 

هرعَ الرجلُ بعدئذٍ إلى مكتبِ أحدِ المحامين، حيث اقتُرِحَ عليه هناك أن يقدِّمَ شكوى رسميَّة، لكن بشرطِ أن يذهبَ إلى الموعدِ المحدَّدِ في الخامسِ من تشرين الثاني، كي يتجنَّب أعمالاً انتقاميّة. "حمامات الرجال" و "محطة القطار الرئيسية" عبارات معقولةٌ يمكن تحمُّلها، كما أنّ لا شيء يكون بذلك السوء الذي يبدو عليه في أوَّل الأمرِ. أمّا الإعدام "Hinrichtung“؟ ربّما يكون مجرّد خطأ مطبعيّ أثناء كتابة كلمة تحضير"Einrichtung"؛ ولمَ لا؟ فالمحامي يجدُ ذلكَ محتملاً تماماً أن يكونَ المقصود بهذه الكلمة أنَّ على زبونه "الطازجِ" أن يحضِّرَ نفسه لشيءٍ ما.

انتظرْ، وثِقْ بي؛ على المرءِ أن يثقَ بالآخرين، الثقة مهمّة جدَّاً، ردَّدَ المحامي.

 

في البيتِ تقلَّب الرجلُ المُستدعى إلى "حمامات الرجال" على ملاءتِه المبلَّلةِ مُنصِتاً بقلبٍ يحرقه الحسدُ إلى الطنينِ المرتاحِ لذبابةٍ. إنَّها تعيش! لا تتملَّكُها المخاوفُ! ماذا عساها تعرفُ عن "محطة القطار الرئيسية"؟! البشرُ أنفسُهم بالكاد يعرفون شيئاً عنها..

بعد انتصافِ الليل ذهبَ يطرقُ باب الجيران، فحدَّقتْ فيه بعجالةٍ من خلال ثقبِ البابِ عينٌ مجرَّدةٌ من التعابيرِ، إلى أن انهزمَ وسحبَ إصبعه من على زرّ الجرسِ.  

 

في تمامِ الساعة الثامنة من صباح الخامس من تشرين الثاني وطئت قدماهُ أرضَ محطة القطار الرئيسية، مرتجفاً في قميصٍ رياضي ذي أكمام قصيرة وبنطال كتانيٍّ، حيث كانتا أخفّ قطعتي ثيابٍ يمتلكُمها. لم يكن هناك غير رجلٍ بلا عملٍ يحملُ أمتعةً ويتثاءبُ رواحا وجيئةً. الأرضيَّة كانت تُكنّسُ وتُرشُّ بعدئذٍ بسائلٍ ما، وما إن خطا الرجلُ خطوتَه الوحيدة عبرَ الخواءِ اللامعِ في "حمامات الرجال" حتّى استدلَّ على الحجرةِ رقم "18". دفعَ قطعةً معدنية في القفلِ فتزحزحَ البابُ وولجَ الحجرةَ. بحدَّةٍ سطعَ له يقينٌ بأنَّ ما مِن شيءٍ سيحدثُ له. لا شيءَ إطلاقاً. وحسبُ يريدون تحضيرهُ لأمرٍ ما، ولا شيء آخر. حالاً سينتهي الأمرُ كلّه وسيعودُ إلى منزله. الثقة! الثقة! تملَّكه مزاجٌ مُبهِجٌ فأغلقَ البابَ مبتسماً وجلسَ. بعدَ مضيِّ ربع ساعة حضر عاملا حماماتٍ، فتحا بنسخةِ مفاتيح باب الحجرة "18" وسحبا جثةً بثيابٍ خفيفةٍ إلى الخارجِ ليحملاها إلى السردابِ القرميديِّ للمحطّة الرئيسيّة، والتي لا يُخفى على أحد أنه ما من قطار قد وصلَها أو انطلقَ منها البتّة، على الرغمِ من الدخانِ الذي غالباً ما يعلو سطحَها والمُنبَعث من "القاطرات المُفتَرَضة"ِ.