Print
بييردومينيكو باكّالاريو

أخيراً انتهيت من قراءة ذلك الكتاب

20 أكتوبر 2017
ترجمات

 

شقّة عمّتي القديمة على البحر بقيت شاغرة لأعوام طويلة، منذ أن توقّفت هي عن ارتيادها، ولا أحد منّا، نحن الأحفاد، كان قد عاد ليقضي العطلة الصيفية في ليغوريا (1). ابنتي تجوّلت في الغرف الأربع في نفس الوقت الذي كنّا فيه أنا وزوجتي نضع الحقائب في المدخل، وكان كما نتذكّره بالضبط: مع تلك الثريّا المصنوعة من الحديد المطروق الأسود، التي كانت تبدو كأداة للصَلْبِ.

"ألعاب!"، ابتهجتْ ابنتي لمّا عثرتْ فوق الكومودينة على مجموعتي القديمة من "سنووبي"، التي تعود إلى أعوام الستينيات. كنت أثناءها لم أكن قد تجاوزت سنوات ثلاث من العمر. وها هو كل شيء على حاله: أرائك الخيزران، الأرض المرصوفة بالبلاط الأصفر، المطبخ الأبيض والأزرق، والجداجد التي تصدح على نباتات الدفلى. فقط الدراجات النارية، في الشارع، كانت قد زادت من صخبها.

من النافذة التي تطلّ على الفناء الداخلي، كان يفوح رحيق الحبق. دقّات جرس الكنيسة أعلنت الساعة الثالثة والنصف بينما كنّا لا نزال نفتح مصاريع النافذة، وابنتي صرخت مُهلّلة: "دِن دُن دَن! دِن دُن دَن!". كنت قد قضيت ساعات طويلة في القراءة أثناء فترات الظهيرة التي كانت تتخلّلها تلك الدقّات، وربّما تلك العطلة لكانت ساعدتني في الخروج من الفترة السيّئة التي كنت غارقاً فيها: كنت لا أعثر على شيء يستهويني منذ سنوات، وأجاهد في قراءة كتاب منذ أربعة أشهر.

لكي أُبْعِدْ ابنتي عن دمى العمّة عهدت لها وظيفة البحث عن جهاز التحكّم من بُعد للمروحة، العنصر الوحيد من الأثاث الذي كنت لا أتذكره، حيث اشتغل لبرهة من الوقت فحسب. ثمّ، عندما أمرتني زوجتي أن أذهب وأرى ماذا تفعل –كان ثمّة صمت موحش- وجدتها محشورة تحت أحد سرائر الغرفة حيث كنت أنام وأنا طفل. خرَجَتْ وهي تحمل كتاباً مهترئ تقريباً، وحالما لمحتهُ، انتزعتهُ من يدها تقريباً. أعرفُ ما هو: كنت قد خبّأته أنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً. يا للخجل، فكّرتُ، ملقياً به في قعر الدرفة. "الأميرة العروس" لوليم غولدمان.

أثناء العشاء فقط، في مطعم بيتزا، خطر ببالي أن أروي قصّة ذلك الكتاب لزوجتي. كان قد أعاره لي صبيّ يعمل في البلاجات على البحر، يدعى ديمتري، قبل يوم من انتهاء العطلة. كان يقول إنه أجمل كتاب قرأه في حياته، وأنا أصررت أن يعيرني إيّاه. في تلك الحقبة، لم تكن توجد مكتبات في البلدة، ولا أمازون. كنت قد وعدته بأنني سأقرأه في أمسية واحدة، وسأعيده له في اليوم التالي عندما سنلتقي في حقل الصنوبر، حيث يوجد موقف السيارات.

ولم تتمكّن من إعادته، علّقت زوجتي. نعم لم أتمكّن من إعادته. قرأته كلّه في نفس الليلة دون توقف، وبهذا سددت ديني مع فِزّيك العملاق، السيّاف ذو الأصابع الستة وفيتزيني الغدّار.

 في الصباح التالي نزلنا إلى شماسينا في بلاج نجمة الجنوب، حيث كانت عمتي تحجز هناك منذ 57 عاماً لطيلة فصل الصيف.  ثمّة أمران لا يمكن التخلي عنهما في ليغوريا: فريق كرة القدم وبلاج الاستحمام.

هل تتذكّرْ ديمتري؟ سألتُ فيما بعد أصحاب البلاج في أول مناسبة. وصفته، هكذا كما كنتُ أتذكّره أنا. انفلت خيط ذاكرة كما في البار. ديمتري، ديمتري. حتماً، لم يعد يأتي منذ أمد طويل. وهل من أحد يعرف أين يقطن في البلدة؟ اتّضح أن ذويه يملكون بيتاً في كروتشيتّا، على الرقم 21. يا إلهي، إذن نحن جيران، شيء كنت لا أستطيع حتى أن أتصوره. تأمّلتُ زوجتي وابنتي تحت الشماسي الكبيرة، الخط الأبيض للبحر، وضعت من يدي فنجان القهوة وبدأت أمشي في البلدة. ولكن في الرقم 21 كانت تقطن عائلة استأجرت البيت عبر منظومة "إير بي.إن.بي"(2). سألتهم عن عناوين مالك البيت، وعجوز من الحديقة التي تقع خلف البيت –من تلك الحدائق الصغيرة التي تُخصّص نصفها لزرع الخضار، على عدة طبقات، كلها مدرّجات وسقفها مغطى بصفائح مموّجة – سأل لماذا أبحث عنه.

أخبرته عن السبب. نعم، أعرفه، أجاب، مشيراً إلى اسم العائلة. وكان يتذكّرني أنا أيضاً، مذ كنت أذهب مع العمّة إلى البحر. ديمتري، على أيّ حال، كان قد تعرّض لحادث سيء بعد بطولة العالم لكرة القدم. في العام الذي أعارني فيه "الأميرة العروس"، فكّرت بحزن. سألته فيما إذا كان يعرف أين يقطنون. شرحت له أنني عثرت على غرض يخصّه. كنّا أصدقاء. غرض لم أتمكن أبداً من إعادته إليه.

العجوز تردّد.

كنت قد وعدته.

آه، قال عندئذ. ثم سقى بهدوء شجرة الليمون. وعود الصيف يجب أن توفى، وإلاّ ...

انتابني الهلع من الرأس إلى القدمين: وإلّا ماذا؟

وإلّا لن تعود ثانية، اختتم العجوز. زوّدني باسم مدينة، وأنا، دون أن أفكّر، عدتُ إلى البيت، تناولت "الأميرة العروس"، مفاتيح السيارة واتصلت بزوجتي عندما وصلت إلى كوّة دفع الرسوم على الأوتوستراد. التقيت بصديق قديم، أخبرتها. سنلتقي فيما بعد. أثناء طعام الغذاء، كذبتُ.

ثم واصلت القيادة كمجنون خلال الساعتين التاليتين. وصلت إلى أحد العنوانين اللذين يوافقان اسمه حسب خريطة غوغل، وتوقفت أمام بيت ريفي، حيث كان لا يوجد أحد، عدا كلب صغير ينبح بهياج. العجوز التي تقطن في البيت المجاور شرحت لي أن ديمتري، في تلك الساعة، ينبغي أن يكون في المسرح لإجراء البروفات. قبّلتها من جبينها وانطلقت للبحث عن هذا المسرح المزعوم. هل كان صديقي قد أصبح ممثلاً؟ تقني أضواء؟ متعهد حفلات؟ كنت لا أعرف. تركت السيارة في موقف ممنوع، لففتُ حول المسرح لغاية ما وجدت باباً صغيراً موارباً واندفعت في ظلام ردهة المنصّات. رنّ الهاتف.

اللعنة، ولكن أين أنت؟ سألتني زوجتي بحنق. سأشرح لك فيما بعد، أجبتها، وأغلقتُ الخط.

وجدت ديمتري على الخشبة، واقفاً، بجانب كرسي متحرك. ردّد بعض الكلمات ثم جلس منهاراً، غير راض البتّة عمّا فعله قبل قليل. بينما أنا وجدته رائعاً. لم أكن أستطيع التنفس، كنت مبتهجاً.

عفواً، قلت له.

حدّق بي. كان يملك عيوناً زرقاء، نسيت ذلك. وكان واضحاً أنه هو أيضاً لا يتذكّرني.

أنا فيتزيني، قلت له.

وفي تلك اللحظة، حدث شيء كالوميض، كإيصاد شيء مزود بآلية معينة.

أكاد لا أصدّق، أجاب.

قفزتُ إلى المنصّة وأريته الكتاب.

استغرقتُ وقتاً لا بأس به لكي أنهيه.

أوه، نعم. كلّ ذلك الصيف.

والأصياف الأخرى أيضاً. لا أعرف فيما إذا كنت قد تأخرتُ، ولكنني عُدْتُ.

 

(1) مقاطعة إيطالية عاصمتها جنوة.

(2) Airbnb بوابة إلكترونية تَصِلُ الأشخاص الذين يبحثون عن سكن للآجار أو غرفة لفترة قصيرة، مع أشخاص يملكون حيزاً إضافياً للآجار، من الملّاك الخاصّين بشكل عام. البوابة أسسها عام 2007 بريان تشيسكي، جو غيبّيا وناثان بليشارزيك.

 

بييردومينيكو باكّالاريو Pierdomenico Baccalario، مواليد 1974، صحافي، كاتب سيناريو ومن أشهر كتّاب قصص المغامرات للأولاد، أشهرها تلك التي كتبها بالاسم المستعار أوليس مور، التي ترجمت إلى 20 لغة وبيع منها ملايين النسخ في معظم أرجاء العالم. كتب أكثر من مائة رواية للأولاد ولليافعين، بمفرده وبالتعاون مع الصحافيين أليسّاندرو غاتّي وتومّاسو بيرتشيفالي، منها: "فتاة برلين – 2007"، "ظلّ أماديوس 2013"، "خبز السماء 2014"، "الحلم الخامس 2015". منذ عام 2016 يشغل منصب مدير معرض "زمن الكتب" في ميلانو.