Print
إيهاب محمود

في ذكرى بابلو نيرودا.. "الشعر سلاحي الوحيد"

23 سبتمبر 2019
استعادات

"الكتابة لديّ أشبه بالتنفس، فكما لا يمكن أن أعيش بلا تنفس، فإني لا أستطيع العيش بدون الكتابة"- كانت هذه هي إجابة شاعر التشيلي الأشهر بابلو نيرودا على سؤال عما إذا كان سيواصل الكتابة إذا فاز برئاسة بلاده.
وتحل يوم 23 أيلول/سبتمبر الحالي الذكرى الـ46 لرحيل بابلو نيرودا، الذي كان مثقفاً استثنائياً، تعالى على الشعارات الجوفاء التي يرددها كثير من المثقفين، وانحاز للجانب الشعبي كمثقف عضوي بامتياز، وإمعاناً في هذا الدور قدم أوراق ترشحه لينافس خلال الانتخابات الرئاسية في بلاده أملاً في تحسين أوضاع شعبه وتطوير مساره على كافة المستويات.
"أنا من أبناء هذه البلاد، والذين عرفوا لعقود نجاحات وإخفاقات وصعوبات تواجدنا كوطن واحد، ومن شارك الفرح والألم بنفس القدر مع كل الشعب. أتيت من طبقة عاملة، ولم أحز في يومٍ ما سلطة، وكنت ولا أزال أعتقد بأن واجبي هو خدمة شعب تشيلي بأفعالي وبقصائدي. عشت وأنا أغني لهم، وأدافع عنهم". كان هذا جزءاً من خطاب نيرودا للترشح للرئاسة من خلال الحزب الشيوعي، غير أنه سحب ترشيحه بعد شهور من المنافسة الصعبة في الحملات الانتخابية، واستقال من أجل دعم مرشح الوحدة الشعبية وصديقه سلفادور الليندي.
وبينما كان مرشحاً رئاسياً، رفض نيرودا الانخراط تماماً في السياسة، ونسيان أصله القديم والأساسي وهو كونه شاعراً، إذ اختط لنفسه سياسة جديدة، وسلك طريقاً لا تفرق بين الأدب

والسياسة، وتستطيع أن تجمع بينهما مستفيدة بمآثرهما من دون إجحاف أو افتئات. كان فريقه في حملته الانتخابية يعزف الأغاني الفولكلورية، قبل أن يتولى أحدهم شرط المخططات السياسية وتفاصيل البرنامج الرئاسي، ورغم أنها ليست آمنة كما ينبغي، أصر على زيارة القرى بدلاً من المدن: "لأنها أكثر حرية وأقل تنظيماً"، كما يقول نيرودا الذي لم يمنعه السياسي عن الاستجابة لرغبات الشاعر المطالب دوماً بالحرية والمنحاز باستمرار للأماكن الأقل إحكاماً وتنظيماً ودقة، والمندفع بطبعه للفوضى وعدم الاستقرار. وكان أيضاً ينهي جولته بإلقاء الشعر بدلاً من إطلاق وعود رنانة ستكون زائفة في الغالب، كغيره من السياسيين: "إذا لم أفعل ذلك، سيغادر الناس حملتي بخيبة أمل.. أردت منهم أن يسمعوا أفكاري السياسية بالطبع، ولكن لم تكن في غالبية حديثي، لأن الناس يحتاجون أيضاً نوعاً مختلفاً من اللغة".
ربما ليس من الغريب أن يريد شاعر أن يحكم تشيلي، ولعل تفسير ذلك أن شاعراً هو من ابتكر هذه البلاد، اسمه ألونسو دي إبرثيلا زونيغا، الذي قدم بطولات استثنائية خلال الحرب بين الإسبان والأروكانانويين، وأبدع ملحمة تدعى "لا أروكانا"، وتعد الأطول في الأدب القشتالي، امتدح فيها قبائل أروكانيا وشرف بطولاتهم الكبيرة، ونشرت في القرن السادس عشر وانتشرت سريعاً في جميع أنحاء أوروبا وترجمت إلى لغات عدة، وباتت العمل الأدبي الأكثر إمتاعاً وأهمية بالنسبة لنيرودا.
في عام 1945 اختير بابلو نيرودا نائباً في البرلمان عن منطقة المناجم. وفي عام 1949 هرب من تشيلي عبر الحدود بعد أن عُزل من مجلس الشيوخ؛ وصدر أمر باعتقاله بسبب انحيازه إلى جانب الشعب والجماهير الكادحة ضد النظام، وهو الذي أكد مراراً في أشعاره: "تستطيعون قطف الزهور لكنكم أبداً لا تستطيعون وقف زحف الربيع". وكان يردد أيضاً: "من كل جريمة تولد رصاصات ستستقر يوماً ما في قلوبكم".
وعند عودته في العام 1971، بعد أن فاز بجائزة نوبل في الآداب، استقبله المئات من أنصاره ومحبيه، وفي مقدمتهم صديقه الرئيس سلفادور الليندي، الذي لقى مصرعه بعد عامين إثر انقلاب عسكري، وكانت وفاته سبباً في تأثير نفسي سلبي مر به نيرودا، الذي رد على جنود بينوشيه، قائد الانقلاب على الليندي، حين اقتحموا بيته ذات مساء بعد وفاة الأخير بأيام مستفسرين عن السلاح الذي يخبئه في بيته: "الشعر سلاحي الوحيد".


"لا تكتب شعراً سياسياً في البدايات"
نيرودا، الذي يرفض إملاء النصيحة على الشعراء الشباب، بسبب أن عليهم أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، ليكتشفوا ذواتهم خلال الرحلة، قدم نصيحة وحيدة لمن يبدأ مشواره مع الشعر، وهي ألا يكتب شعراً سياسياً في البدايات، مفسراً: "الشعر السياسي أعمق في مشاعره من أي نوع – على الأقل بقدر حب الشعر – ولا يمكن كتابته وأنت مجبر، لأنه سيخرج بشكل مبتذل وغير مقبول. يجب عليك أن تبدع في كل ألوان الشعر وأغراضه لكي تكتب شعراً سياسياً. ويجب عليك أن تتلقى الانتقادات بصدرٍ رحب حول خيانتك للأدب أو خيانتك للشعر. وأيضاً، يجب أن يتسلح الشعر السياسي بالمحتوى والعناصر، وبالثراء الفكري والعاطفي، من أجل أن يتخلى عن نوع آخر من الشعر. وهذا نادراً ما يتحقق".

ولم تكن نصيحة نيرودا مجرد كلام عابر، بل هي عصارة تجربته الخاصة، فهو نفسه لم يبدأ شاعراً سياسياً، بل كتب ذلك النوع من الشعر في آخر مراحله كشاعر، رغم تحفظه على التصنيف، وتحفظه على تقسيم مراحل إبداعه، غير أنه بدأ شاعراً رومانسياً، حيث بدت قصائده رومانسية المناخ ومفعمة بالسخرية والحزن واللهو، وقد كتب نيرودا معظمها خلال سنوات الدراسة. أما المحطة الثانية في مساره فهي مرحلة "الشعر الشخصي" وفيها تبرز نزعته السوريالية بوضوح وكذلك النزوع ناحية الحلم والحب المتحرر، وقد يختصر هذه المحطة ديوان "الاقامة في الأرض" 1931. أما المحطة الثالثة فتتمثل في الشعر الملحمي المتجلّي خصوصاً في ديوان "النشيد الشامل" 1950. ثم تأتي المرحلة الرابعة عند نيرودا كشاعر سياسي خاطب في قصائده شعوب العالم كله، لا الشعب التشيلي فقط.
"لم أعتقد يوماً أن تنقسم حياتي بين الشعر والسياسة"، قال نيرودا من قبل، غير أنه لم يكن يعلم أن موته أيضاً لن يمنع استمرار تداول سيرته سياسياً، واستمرار استعادته من وقت لآخر، حيث أصر سائقه مانويل أرايا، قبل عامين من الآن وبعد 34 عاماً على وفاة نيرودا، على إعادة فتح التحقيقات في وفاة نيرودا، الذي كشفت تحليلات حديثة لرفاته أنه لم يمت بسبب السرطان كما هو معروف، لكنها في نفس الوقت لم تكشف عن السبب الحقيقي للوفاة، ما يدعم إصرار أرايا على أن الشاعر اغتيل إثر حقنه بالسم من جانب عملاء الجنرال بينوشيه، بعد 3 أيام من عرض المكسيك اللجوء السياسي عليه.