Print
هاني حوراني

35 عاماً على "الأردن الجديد"

5 أغسطس 2019
استعادات
يوم 12 تموز/ يوليو الفائت، ومن خلال صفحته على الفيسبوك، ذكرنا د. طالب عوض، الخبير الانتخابي المعروف، بمرور 35 سنة على صدور العدد الأول من "الأردن الجديد"، وكان شاهداً على الاحتفال باستلام النسخ الأولى منها، هو ود. سليمان صويص وكاتب هذه السطور.
و"الأردن الجديد" لمن لا يعرف، هي المجلة الفكرية السياسية الفصلية اليسارية التي كانت تطبع سراً في الأردن، برغم ضخامة عدد صفحاتها، إلى جانب طبعتها العلنية في العاصمة القبرصية منذ تموز/ يوليو 1984، وحتى توقفها عام 1991. لقد صدر من المجلة 19 عدداً خلال سبع سنوات، ورغم مرور كل هذا الوقت على توقف المجلة، إلا أنها ظلت في الذاكرة السياسية والوجدانية لمناضلي تلك الحقبة، باعتبارها علامة فارقة في تاريخ الصحافة الحزبية، بل والحياة السياسية الأردنية. ومن الناحية الرمزية فقد مثلت المجلة، سواء خلال اسمها أو لغتها السياسية وطبيعة موضوعاتها إرهاصاً ونبوءة بالتحول الذي صار عليه الأردن، بعد خمس سنوات من صدور عددها الأول (12/ 7/ 1984).
وبينما يستعيد الأردنيون هذا العام مرور ثلاثة عقود على انطلاق عملية الانفتاح السياسي (أو ما يسمى بالتحول الديمقراطي في الأدبيات الدارجة: 1989/ 2019) فإنه قد يكون من المفيد أن نتوقف أمام واحدة من إرهاصات هذا التحول، ذلك أنها عدا عن كونها كانت داعية صريحة للإصلاح السياسي والاقتصادي، ولعهد سياسي جديد في حياة المملكة الأردنية الهاشمية، فإنها شكلت اختراقاً نوعياً على صعيد اللغة السياسية لأحزاب المعارضة اليسارية (والوطنية عموماً)، ولأسلوب التعاطي مع القضايا العامة، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
في عددها الأول، عَرَّفت المجلة عن نفسها باعتبارها صادرة عن "أسرة تحرير طريق الشعب". و"طريق الشعب" هي النشرة (الجريدة) السرية الناطقة باسم منظمة الجبهة
الديمقراطية في الأردن (مجد). وكان هذا التعريف غير المألوف لصفة المجلة مجرد محاولة لتفادي صبغ المجلة بطابع حزبي ولون سياسي محدد. وكان في واقع الأمر حلاً وسطاً ما بين الإعلان الصريح عن الهوية التنظيمية لناشري المجلة وما بين الإغفال التام لهذه الصفة.
وقد لا أحتاج هنا كي أوضح أن دوافع محرري المجلة (وأنا كنت أولهم) لم يكن التنصل من صفتهم الحزبية، وإنما هو شعورهم القوي بأهمية تمتع المجلة بهامش واسع من الحرية الفكرية والسياسية، وتشجيع القراء على التعامل معها ليس بصفتها دورية حزبية محددة الهوية، وإنما باعتبارها منبراً له استقلاليته الفكرية والسياسية الواسعة عن الجهة الناشرة. وغني عن البيان أن مجرد القيام بهكذا مقاربة في تقديم المجلة إلى القراء كان أقرب إلى الثورة على المفاهيم المتزمتة التي كانت تصر على صبغ الدوريات الصادرة عن الأحزاب السياسية بصبغتها الضيقة.
لقد شجع نجاح المجلة، منذ عددها الأول، في استقطاب قبول وطني عام، متجاوز للحدود الحزبية، لموادها ولغتها وطرحها البرنامجي، على التخلي عن ارتباطها المعلن "بأسرة تحرير طريق الشعب"، بل والإعلان عن هيئة تحرير قائمة بذاتها على رأس المجلة، بدون الإشارة من قريب أو بعيد إلى ناشري المجلة، أي منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن (مجد). وهكذا، اعتباراً من العدد الحادي عشر باتت الصفحة الأولى من مجلة "الأردن الجديد" تحمل أسماء محددة باعتبارهم هيئة تحريرها. فإلى جانب اسمي المعلن كرئيس تحرير للمجلة، (وكنت مقيماً خارج الأردن)، أوردت أسماء بعض أعضاء التحرير من داخل الأردن بصفة نصف معلنة ونصف مستعارة. فمثلاً د. سليمان صويص الذي لم يلبث أن عاد للأردن بعد فترة قصيرة من صدور العددين الأول والثاني من المجلة نشر اسمه باعتباره عاطف صويص. أما سالم النحاس فقد بات اسمه نصف المعلن في المجلة عواد سالم. وقد ضمت هيئة التحرير الأردن الجديد أسماء محررين غير حزبيين أو أصدقاء للمجلة، مثل المرحوم سعيد جواد سعيد (أحمد الدهيمي، وهو مناضل يساري عراقي انشغل لسنوات في كتابة أبحاث ومقالات في الشأن الأردني)، وموفق محادين الذي كان معارضاً ناشطاً من العاصمة السورية، ونزار سلامة (نيوف) المعارض السوري الذي دخل فيما بعد السجن لسنوات طويلة. وفيما بعد انضم حسين أبو رمان إلى هيئة المجلة، وعمل مديراً للتحرير فيها.
وعند التأمل في هذه الوقائع من بعد فإننا نجد أن "الأردن الجديد" اشتقت نهجاً غير مألوف لدى الأحزاب العاملة تحت الأرض. فقد وجدنا في حينها أن من السخافة التخفي وراء أسماء سرية أو حركية، ونحن نتناول قضايا فكرية أو اقتصادية واجتماعية هامة، أو نحن نتحاور مع مواقف السلطات بشأن قضايا الحريات العامة أو فشل السياسات الاقتصادية، والأخطر حين تتقدم بمقترحات حلول لمشكلات واقعية. وبمعنى آخر فإننا شعرنا أن مشروعية ومصداقية الطرح الذي توليه المجلة لهذه القضية أو تلك لا بد أن توازيها علنية أسماء الكتاب والمحررين في المجلة، وتحمل المسؤولية الأدبية عن آرائهم.
وسعياً وراء توسيع "ضفاف" المجلة فقد تم استكتاب العديد من الكتّاب والباحثين العرب والفلسطينيين، بعيداً عن صفاتهم السياسية والتنظيمية، من أجل إغناء المجلة بدماء جديدة. وكان من بين الذين استقطبتهم المجلة للكتابة فيها: ممدوح عدوان، وفواز عيد (شاعران من سورية)، زهير جزائري، وفاضل الربيعي (العراق)، فيصل دراج، ناجي علوش، عبد القادر ياسين، جميل هلال، فيصل حوراني، يحيى يخلف، ومهند عبد الحميد (فلسطين). أما على
صعيد اللغة السياسية التي اعتمدتها "الأردن الجديد" والتي شكلت نهجاً جديداً في لغة أدبيات ونشريات المعارضة، فإن الفارق الأهم الذي أحدثته هو ترفعها عن استخدام اللغة الاتهامية وإطلاق الأوصاف والنعوت على النظام السياسي الأردني، والتي باتت وسائل سهلة، وأحياناً مبتذلة، للتعبير عن المعارضة للنظام، عوضاً عن وسائل المحاكمة والتحليل الموضوعي للسياسات. لم يكن التخلي عن اللغة الاتهامية وإطلاق النعوت مجرد ترفع أخلاقي، بقدر ما كان وسيلة ناجعة أيضاً لاحترام عقول القاعدة الاجتماعية المؤيدة للنظام، ولمخاطبته بلغة مقبولة له، على أمل كسبه بصورة تدريجية إلى جانب الحلول البديلة للسياسات الرسمية.
عوضاً عن الأسلوب القديم فقد مارست المجلة دورها كقوة اقتراحية وشجعت على تطوير القدرة الاقتراحية للمعارضة، وعدم الاكتفاء بنقد السياسات الرسمية. ولعل أبرز مظاهر ممارسة المجلة لقوتها الاقتراحية هو تحليلها لأزمة الأردن المركبة (الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية) مبكراً، أي منذ أواسط الثمانينيات، وتوقعها لانفجار هذه الأزمة (وهو ما واقع في نيسان/ أبريل 1989)، وقيامها أيضاً بتقديم برنامج إصلاح اقتصادي بديل. وقد مارست المجلة دورها الاقتراحي في العديد من الملفات الساخنة، مثل التعليم والزراعة والمرأة والنقابات المهنية وغيرها.
من ناحية أخرى فقد لجأت افتتاحيات المجلة إلى محاورة السياسات الرسمية، ولا سيما الخاصة بالحريات العامة والأحكام العرفية والانتخابات البرلمانية، وفي هذه القضايا وغيرها اتسمت لغة المجلة بمزيج من المناقشة السياسية والمحاكمة الموضوعية الهادئة، والسعي للتأثير على صانعي القرار وقاعدته الاجتماعية.
وإذ لا يتسع المجال هنا للتوقف مطولاً أمام موضوعات المجلة في أعدادها التسعة عشر إلا أنه لا يمكن تجاهل دورها في الإسهام في إعادة كتابة بعض ملامح التاريخ السياسي، وفي مقاربة جوانب من تاريخ الحركات الاجتماعية، ولا سيما الحركتين العمالية والنسائية، وكذلك في إلقاء أضواء مكثفة على تجربة الأحزاب السياسية والحياة البرلمانية الأردنية في الخمسينيات والستينيات، وأخيرا توثيق وتحليل هبة نيسان/ أبريل 1989، مما جعل "الأردن الجديد" مرجعاً معتمداً لقراءة هذا الحدث، الذي مهد الطريق لعودة الحياة البرلمانية وللانفتاح السياسي في أواخر عام 1989.
يبقى أن أشير هنا إلى "الجنود المجهولين" الذين ساهموا ليس فقط بإمداد المجلة بالمعلومات والمواد والتقارير الصحافية، وإنما أيضاً يتحمل مشاق طباعة وتوضيب مجلة فصلية سميكة، ويتراوح عدد صفحاتها ما بين 128 و240 صفحة من القطع المتوسط، في ظروف العمل السري، وكذلك مسؤولية توزيعها على أعضاء "مجد" والقوى السياسية الأخرى. ولعلي أغتنم هذه الفرصة لأحيي من أعرفهم من كتّاب المجلة في حينها، الصديق د. سليمان صويص، والمرحوم سالم النحاس، وجميل النمري، وكذلك لأحيي من لا أعرفهم من المساهمين في المجلة كتابة وطباعة وتوزيعاً.
لم تكن تلك الحمية والحماسة في النهوض بأعباء تحرير مجلة فصلية معارضة بجهد مشترك، من داخل الأردن وخارجها، وفي تحمل مشقة طباعتها وتوزيعها في ظروف العمل السياسي السري، أموراً معزولة عن السياق القائم لتلك الحقبة التاريخية الفاصلة. فقد صدرت المجلة في خضم موجة من النضالات الاجتماعية والجماهيرية المتصاعدة التي سبقتها وواكبتها، ولا سيما صعود الحركة المطلبية العمالية والطلابية والشبابية الأردنية (أحداث جامعة اليرموك عام 1986، كانت إحدى ذراها) ونشوء العشرات من منظمات المجتمع المدني الجديدة، العاملة في مجالات الثقافة والفنون والبيئة والمرأة والشباب.
كما شهدت تلك الحقبة تطورين هامين أولهما تبلور المضامين الديمقراطية والحقوقية للمطلبية السياسية، كما عبرت عن ذلك نشأة حركة "لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن"، التي تأسست في بيروت، على شكل ائتلاف سياسي شبابي أردني في أواخر سبعينات القرن الماضي، بقيادة المرحوم ميشيل النمري، واستمرت حتى عام 1989، وثانيهما تبلور حركة سياسية ذات هوية نضالية أردنية في صفوف الشباب الأردني، داخل البلاد وخارجها، وهو الأمر الذي قاد إلى تطوير مضامين (وعناوين) برامج التنظيمات الفلسطينية اليسارية العاملة في الأردن باتجاهات تحولها إلى أحزاب سياسية ذات برامج اردنية.
بدون رؤية السياق التاريخي لصدور مجلة "الأردن الجديد" لا يمكن فهم روح التفاؤل والإقدام التي ساهمت في إطلاقها، وفي بثها لهذه الروح في قرائها وأنصارها، وهي اليوم في ذكراها الخامسة والثلاثين تعيد أجواء الحنين لزمنها الجميل.

* هاني حوراني مؤسس ورئيس تحرير مجلة "الأردن الجديد".