Print
إبراهيم إستنبولي

من أرشيف المخابرات السوفييتية: قصة اعتقال الكاتبين دانييل وسينيافسكي

28 أغسطس 2019
استعادات
اذكروني!
فسوف أهدي
سطراً لكلٍّ منكم.

سطراً طائشاً، مريراً،
يفوحُ برائحة الحزن.
لكي تحبوني عندما أصبح بعيداً عنكم.

(يولي دانييل - كاتب وشاعر ومترجم سوفييتي)

في أيلول/ سيتمبر 1965، تمّ اعتقال كلٍّ من الكاتبيَن السوفييتييَن أندريه سينيافسكي، ويولي دانييل. لم يكن القارئ السوفييتي يعرف أنهما هما اللذان كانا يختبئان خلف اسمين مستعارين: أبرام تيرتس (سينيافسكي) ونيكولاي أرجاك (دانييل).
لقد جرى اعتقالهما الواحد تلو الثاني بفارق أربعة أيام فقط. اعتقل سينيافسكي أولاً، في 8 أيلول. أوقفوه في الشارع وتوجهوا إليه بكلام لطيف، ثم قاموا بدفعه إلى داخل السيارة بطريقة محترفة تماماً. أما دانييل فكان قد سافر جوّاً إلى مدينة نوفوسيبيرسك، لكي يتصالح مع زوجته لاريسا بوغوراز، التي كانت قد وصلت إلى هناك قبل مدة. طلبوا منه أن يراجع "الجهات المختصة" هناك، حيث أوعزوا له بضرورة العودة إلى العاصمة موسكو. كانوا في انتظاره في مطار فنوكوفو، بتاريخ 12 أيلول، حيث تم "استقباله" أيضاً بطريقة ماهرة وحاذقة.
تلك هي باختصار الحكاية التي تتعلق بقضية اعتقال ومحاكمة سينيافسكي ودانييل التي أصبحت فصولها معروفة للكثيرين. تلك القضية التي يمكنها أن تكون في الوقت نفسه رمزاً للخيانة كما وللصداقة والوفاء.
لطالما كانت الخيانات تجري على نطاق واسع صريحة وسائغة، ودائماً، كما هي العادة، غير

متوقعة ومباغتة. فمن وجهة نظر القيادة السوفييتية كان سينيافسكي ودانييل خائنين بالطبع، طالما أنهما قررا أن ينشرا سخريتهما اللاذعة والقذرة ضد بلادهما في الخارج، مختبئين خلف إسمين مستعارين أبرام تيرتس ونيكولاي أرجاك!
في حين أنّ سينيافسكي ودانييل كانا يريان في الصمت خيانة. لم يكن بإمكانهما ألا يكتبا عن العيوب والنواقص التي كانت موجودة في بلادهما. ومن وجهة نظرهما أيضاً، كانا يجدان أنّ الخيانة الأكبر إنما تكمن في ذلك النهج المضلل للبلد إبان فترة "ذوبان الجليد" بعد مرحلة عبادة الشخصية؛ نهج حرمان الشعب من التعبير عن رأيه الخاص وعن أي تذمّر واعتراض مهما يكن صغيراً على النهج السائد.
وأكثر ما أثار السخط لدى السلطات تلك الرسائل التي راحت تتوالى تعبيراً عن دعم ذلك "الثنائي المشاغب"، رسائل كانت مذيّلة بتواقيع كتّاب وأدباء وفنانين معروفين داخل الاتحاد السوفييتي وعلى مستوى العالم. أما المجتمع فقد أطلق صرخته ثم تصدّع بعد خطاب الإدانة الشديدة "للكاتبين الساخرين" على لسان ميخائيل شولوخوف الذي كان قد نال جائزة نوبل في الآداب قبل مدة غير بعيدة.
من ناحية أخرى، لا يمكن التكهن بالثمن الذي دفعه الشاعر تفاردوفسكي الذي كان يرأس هيئة تحرير مجلة "العالم الجديد" الأدبية، كيلا يحذف اسم سينيافسكي من هيئة تحرير آخر عدد من المجلة لعام 1965، علماً أنّ مثل ذلك التصرف كان يمكن أن يكلّفه رأسه. كما صمد أصدقاء الكاتبين وأقرباؤهما بمن في ذلك زوجتا الكاتبين، اللتان راحتا توثقان بروتوكولات المحاكمة. ولا بدَّ من التنويه هنا إلى أنَّ ماريا روزانوفا، زوجة سينيافسكي، أعلنت أنها "أصبحت تمقت المنشقين" تحديداً بعد انتهاء المحاكمة، وأضافت: "لأني وجدتهم يمارسون ذات الشيء تجاه المخالفين ولكن تحت راية مناقضة. وخصوصاً أنهم كانوا يقولون صراحة ما تقوله السلطات: مَن ليس معنا فهو ضدنا".
الغريب في الأمر هو أن الحقيقة بشأن الجهة أو الشخص الذي فضح سرّ الأسماء المستعارة

للكاتبيَن ما زالت غير معروفة حتى الآن. هناك فرضيات عديدة، بدءاً من فرضية الصدفة مروراً "بمساعدة صديق" لأجهزة الأمن السوفييتية وانتهاء بدور المخابرات المركزية الأميركية وابنة ستالين سفيتلانا أليلوييفا التي سبق أن كان لسينيافسكي يوماً ما علاقة عاطفية معها. قد لا يكون مهمّاً أن نعرف الشخص الذي كان السبب في أن تكون تهمة "الدعاية المضادة والتحريض ضد الاتحاد السوفييتي" قد كلّفت سينيافسكي سبع سنوات اعتقال في معسكر أشغال شاقة، وخمس سنوات لدانييل. لعلّ ذلك الشخص لم يعد موجوداً بين الأحياء. وربما يعيش في مكان ما آمن، يجلس قرب موقد دافئ ويتذكر فعلته الخسيسة. وهو يجد لنفسه تبريراً لما قام به، بلا أدنى شك. لأنَّ القدرة على تبرئة الذات أمر فريد من نوعه بصورة عامة.
بات معروفاً أن قصصهما كانت تجتاز الستار الحديدي لكي يتم نشرها في مجلات غربية، بمساعدة صديقة سينيافسكي في معهد غوركي للآداب، ابنة أحد الدبلوماسيين الفرنسيين.
وبالعودة إلى الفرضيات المطروحة حول ظروف اكتشافهما والتعرف على الاسمين الحقيقيين للكاتبين، ثمة رأي ساقه الكاتب فلاديمير فيونوفيتش في روايته "سيرة ذاتية، قصة حياتي": بحثوا عنهما طويلاً، وأخيراً استطاعوا الوصول إليهما. وجدوهما عندما ظهرت حاجة لأن يعثروا عليهما. وقد عبّر عن ذلك أحد معارفي على النحو التالي: لم تكن السلطات السوفييتية لتتوانى عن توجيه صفعة قوية لنفسها، إذ إنَّ قضية اعتقال الكاتبين والمحاكمة التي تلت اعتقالهما، تحوّلت إلى ما يشبه ضربة قاضية "نوك داون knockdown" بالنسبة للاتحاد السوفييتي.
بيدَ أنه يوجد رأي آخر حول الطريقة التي تم الكشف عن اسمي الكاتبين من قبل الكي. جي. بي. وقد رواه في وقت لاحق الشاعر السوفييتي المعروف يفغيني يفتوشينكو. فقد نقل عنه التالي: "كنتُ في زيارة للولايات المتحدة الأميركية. وهناك التقيت السيناتور الأميركي والشخصية البارزة روبرت كينيدي، وذلك قبل اغتياله في عام 1968 بفترة قصيرة نسبياً. دعاني كينيدي إلى العشاء. وبعد أن انتهينا من تناول العشاء، نهض كينيدي وقال لي: تعال

معي. أريد أن أخبرك شيئاً في غاية الأهمية. قادني كينيدي إلى الحمّام وفتح صنوبر الماء لكي يمنع أجهزة التنصت، في حال وجودها، من التقاط مضمون الحديث. قال لي: هل تذكر قضية سينيافسكي ودانييل؟ قلتُ بالطبع. وهل تعرف مَن الذي كشف هويتهما الحقيقية للمخابرات السوفييتية؟ أجبت: لا. فقال السيناتور كينيدي: إنها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية". والطريف في موضوع الاسمين المستعارين هنا هو أن هذين الاسمين – أبرام تيرتس ونيكولاي أرجاك – لم يكونا مستعارين بالمعنى الدقيق للكلمة، بل كانا اسمين لشخصيتين متداولتين في أغاني الشارع أو اللصوص في أوديسا في عشرينيات القرن العشرين، حيث كان أحدهما يرمز للسارق عن طريق السطو والثاني للص.
ويربط الباحثون ولادة حركة الدفاع عن حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي السابق مع قضية اعتقال ومحاكمة سينيافسكي ودانييل. والبعض يربطها بمحاكمة سابقة للشاعر يوسف برودسكي، الذي تم نفيه بدلاً من الاعتقال بعد وساطة ومداخلات من قبل رجال أدب وثقافة في الداخل والخارج وعلى رأسهم جان بول سارتر.
وتم إطلاق سراح سينيافسكي قبل انتهاء مدة محكوميته، حيث أمضى في المعتقل ست سنوات من أصل سبع. وفي عام 1973 غادر البلاد ليستقر في باريس. أما يولي دانييل فقد قضى في السجن مدة الحكم كاملة، وبعد خروجه قرر أن يبقى في الاتحاد السوفييتي، حيث استمر في الكتابة الأدبية، وباسم مستعار آخر من جديد، ولكن هذه المرة بمباركة وبموافقة أجهزة الأمن السوفييتية.
في عام 1991 تمَّت إعادة الاعتبار للكاتبين. بيدَ أن هذا القرار لم يدرك الكاتب دانييل، إذ كان قد توفي قبل ذلك ببضع سنوات.