Print
فيصل خرتش

سعيد حورانية.. الجواد الذي كبا باكراً

5 نوفمبر 2019
استعادات
وُلِدَ سعيد حورانية في دمشق عام 1929، والتحق بالمدرسة الابتدائية الوطنية، فمدرسة التجهيز الأولى، ودخل جامعتها، قسم اللغة العربية، وتخرج فيها، ثم نال دبلوم التربية، وعمل في التدريس، وسرّح من وظيفته في التدريس، كما تعرض للاعتقال أكثر من مرّة بسبب مواقفه الفكرية، ممّا اضطره إلى الابتعاد عن وطنه، ثم عاد واشتغل في وزارة الثقافة، حتى وافته المنية عام 1974.
كتب حورانية القصة القصيرة والمقالة والمسرحية، ويعدُّ أوّل من ربطها بالواقع اليومي المعاش. كما وظف الطريقة الوثائقية في بناء قصصه.
كان عضواً في رابطة الكتاب العرب، واتحاد الكتاب العرب – لجنة القصة، وكتاب آسيا وأفريقيا.
يعدُّ من روّاد الاتجاه الواقعي، وقصصه تتراوح بين التقنية الفنية الجيدة، والأداء الفني الحديث، وبين الخطابية والوصف الخارجي، ولكنها تتفق جميعاً في تقدمية المضمون والعناية بالواقع الاجتماعي، والاحتجاج عليه ورفضه. يقول عن قصصه: "إنّها جزء من عمري، ومن عمر هذا الوطن. كنت أحبّ أن تصل إلى يد القارئ منذ زمن طويل، ولكن الظروف البائسة التي تعيشها بلادنا لم تتح لها الظهور".
تمثل سعيد حورانية في قصصه تجربة الشباب التي عاشها في خمسينيات القرن الماضي، فشكلت نقلة هامّة بين التقليد والحداثة، بين القديم ببنيته المتآكلة، والجديد الذي يتطلع إلى البناء وإعادة التشكيل الاجتماعي، وعالمه – في القصة – هو عالم كفاح وتغيير، إنّه عالم صراع ينتهي غالباً بانتصار قوى الشعب، ذلك أنّ حورانية يضيف إلى عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالمستقبل والإنسان، والواقعية عنده هي رؤية لحركة الواقع، واتجاه هذه الحركة.
وتشكل مجموعاته الثلاث خط سير واضح، بدأها  تسجيلياً، يسجل الواقع بكلّ تفاصيله، فيبدأ بالمشكلة الاجتماعية، وينقدها، كما هي القصة التي كانت سائدة في تلك الأيام، ثم بدّل في موضوعاته إلى مواضيع أخرى تنهل من الواقعية النقدية، واستخدم تقنيات حديثة في القصة، إنّها تشمل كلّ جوانب المجتمع، وفي طرف آخر ستظهر قوى أخرى هم بقايا الاستعمار
والمتنفذين الذين يكدسون الأموال. هذا الصراع ينم عن موقف أخلاقي يحاول ربطه بالحاضر من خلال الماضي، إنه يعتمد على إغناء قصصه بالرمز والبناء التعبيري، والأسلوب الشاعري الشفاف، عبر صياغة جديدة للواقع، لأنّ المستقبل سيكون لمن يتحدى الظروف التي حوله.
ويستلهم التاريخ من خلال إحياء سير أبطال الثورة السورية، ومن خلال معرفته بالسير الشعبية. ويعرض في قصصه صور من الاستبسال الوطني والشعبي في وجه القوى الغاشمة، متمثلة في الاستعمار، وضد الظلم الاجتماعي لتحقيق العدالة والحرية، فقد عاد أحد أبطال قصصه، بعد سنين طويلة من السجن والتعذيب في مستعمرة "غويانا"، ليعمل آذناً في مدرسة القرية.
نشأ سعيد حورانية في بيئة ذات تركيبة دينية، فوالده شيخ كان يحلّ ويربط، وكان بيتهم لا يبعد عن بيت أحد زعماء الثورة على الفرنسيين أكثر من خمسين متراً. ووالده من أركان حرب الزعيم، وكان يجمع له التبرعات أثناء الثورة على الفرنسيين. وأسرته من أصل بدوي قدمت إلى الشام من حوران، واستقرت عند أطرافها. والأسرة كانت تعمل في تجارة الحبوب.
في بداية حياته، كان متديناً يدرس في الجامع وينام فيه، وكان له شيخ يساعده في اللغة والألحان، وسمع أم كلثوم، وعبد الوهاب، من المشايخ المتعصبين، لأن هؤلاء كان لهم علاقة طيبة بالغناء.
حين أصبح في صف الكفاءة لم يعد أبوه قادراً على تسديد أقساط المدرسة، فعمل في مصنع الكبريت في العطلة الصيفية، "وفي صف البكالوريا، انضم إلى جمعية إرهابية متدينة لا علاقة لها بالإخوان المسلمين، تهدف إلى تدمير الممتلكات العامّة، لأن الأمة كافرة، ولأن الحكام سلموا فلسطين لليهود". تمرّن على استخدام البارودة، وعلى إلقاء القنابل، ثم تركها بعد أن قرأ كتباً غير دينية، عندما أصبح في الجامعة "أيامها كنت قد بدأت الكتابة، فشاركت في عدّة مسابقات، نلت الجوائز فيها، مثل مسابقة النقاد، وعصا الجنة، فصرت معروفاً". هو وشوقي بغدادي تطورا معاً في الفترة ذاتها، وكان أصحاب شوقي جلّهم من القوميين السوريين، فكان صديقاً لميشيل أديب، وأدونيس، ونذير العظمة. والرومانسية الثورية بشّر بها حنا مينه، فتأثر بهم. في البداية، كتب الشعر، وهذا بتأثير شوقي بغدادي، ونشره بمجلات النقاد، والرسالة، والأديب، وكان شعراً رديئاً. أمّا عن القصة، فصداقته لها ترجع إلى ما قبل ذلك، فقد كان يجتمع في بيتهم عدد من المسنين والمشايخ، وكان يدعى إليهم ليقرأ لهم سيرة عنترة، وكان والده يقول له: "ضخم صوتك يا بني..."، فقد ولد حورانية صغير الحجم، ضئيل الجسم، رقيق الصوت، ويدعى ليقرأ سيرة عنترة. كانت أوّل قصة تسمّى "الصنوبر النحاسي"، وشارك فيها في مسابقة النقاد، وكانت النتيجة أن اللجنة منحت قصته الجائزة الأولى، ولكنها حجبت عنه، واعتبرته اللجنة سارقاً، وعلى الكاتب أن يدلها من أين "لطش" القصة، فرد عليهم في مجلة النقاد، بأنه
يتحداهم جميعاً، وكتب القصة، وكان يجلس بجانبه عبدالمطلب الأمين، إنها قصة أمّه، لكنه خلط معها أشياء أخرى، ولم تردّ اللجنة عليه. عند ذلك صار ينزل إلى مقهى البرازيل، ويتبختر، وقد قال نزيه الحكيم لفؤاد الشايب "سعيد هو كاتب القصة فعلاً، لكن إذا اعترفنا تبهدلنا".
المهم في ذلك أنه أصبح كاتب قصة، تاريخياً وتكوينياً، وصار يقرأ بشكل كبير، وليس هناك كاتب قصصي، أو روائي، صدر في تلك الفترة، إلا قرأ له، وكان يكتب في تلك المرحلة عن حيّه وبيته، فقد كتب مجموعته الأولى "وفي الناس المسرة"، عن علاقته مع عائلته بالذات... عن ثورته عليها... عن الأفكار المخالفة لأفكاره وصراعه معها، الصراع بين العاطفة العائلية في مجتمع متخلف الذي يموت فيه الإنسان دونها، وقد طرده أهله وعاش أربع سنوات خارج البيت والأسرة.
ألهمته الحياة في دير الزور والجزيرة، عندما نفي إليهما، بعض القصص منها "وأنقذنا هيبة الحكومة"، و"محطة السبعا وأربعين"، و"عريضة استرحام"، و"قيامة إلعازر"، ورواية طويلة هي "بنادق تحت القش"، وقد صودرت منه مع قصص كثيرة عندما سجن في بيروت أثناء الهروب إلى لبنان.
أمضى ثلاث سنوات في لبنان من 1963 إلى 1965، وطبع فيها "شتاء قاس آخر"،
و"سنتان وتحترق الغابة"، على حسابه الخاص، ثم عاد إلى سورية ليدرِّس في مدارس خاصة.
تعرّف على زكريا تامر في مقهى الهافانا، وأعطاه مجموعته "صهيل الجواد الأبيض"، وقد دهش عندما عرف أنه كان عاملاً، وأنّ هذا العامل بالذات قد أصبح "يمثل في الأدب نوعاً من المطالبة الوحيدة بالحرية الشخصية ويعتبر أنها أهم ما يجب على الأديب بالذات أن يطالب
به".
لقد أضاف سعيد حورانية إلى القصة اللمسة الناعمة، ومزج ببراعة بين السرد والتصوير والتحليل النفسي، لا سيما باستخدامه ضمير المتكلم، كما عني بأساليب توظيف الطبيعة واللقطات الحانية، واستخدام التفاصيل التي تخلق جوّ الحدث، وتشارك في تطوير الصراع وتمهد له بالتحول.
للكاتب مسرحية "صياح الديكة"، وثلاث مجموعات: "وفي الناس المسرّة"؛ "سنتان وتحترق الغابة"؛ "شتاء قاس آخر".