Print
فيصل خرتش

ذكرى مريانا مرّاش.. صاحبة أوّل صالون أدبي بالعصر الحديث

28 نوفمبر 2019
استعادات
مريانا مرّاش (1848 – 1919) لها الفضل في أنها صاحبة أوّل صالون أدبي في العصر الحديث. قال عنها قسطاكي حمصي في كتابه "أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر": "إنها سليلة بيت علم، وشعلة من الذكاء والفهم، فصيحة الخطاب، ألمعية الجواب، تسبي ذوي النهي بألطافها، ويكاد يعصر الظرف من أعطافها، تحنّ إلى الألحان والطرب، حنينها إلى الفضل والأدب، كانت رخيمة الصوت، عليمة بالأنغام، تضرب على القانون، فتنطقه إنطاقها الأقلام".    

إنها مريانا بنت فتح الله مرّاش، كاتبة حلبية وشاعرة، وصحافية وتعزف على العود والقانون، وتغني أحياناً، وقد وُلِدَت في حلب- حارة الحصرم، في منطقة التلل، عام 1848، وتوفيت قبل مئة عام في 1919، وتعتبر من أهم روّاد النهضة العربية، وهي أوّل امرأة سورية تقوم بنشر مجموعة شعرية في بيروت، المطبعة الأدبية عام 1893 بالرخصة الرسمية من نظارة المعارف الحلبية، ورقمها 716، قالت في مقدمة الديوان: " إنني دعوتها بهذا الاسم لأنها نتيجة أفكار بديهية صادرة عن قريحة عزيزة هي بنت فكر".  ومدحت فيها رجال الدولة، وبعض من كانوا يترددون على صالونها من رجال السلك القنصلي.
اهتم والدها بالقراءة، فراح يجمع الكتب وكان يسميها بالمكتبة المراشية، وهو من روّاد الداعين إلى الأنظمة الدستورية، وأخوها فرنسيس صاحب أوّل رواية عند العرب، هي "غابة الحق"، وفيها يدعو إلى التمدن وتحرير المرأة، كما يجدد من هذه اللغة المهترئة التي كانت سائدة في تلك الأزمان، متأثراً فيها بأفكار الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأميركية، ومعهما قيم الفلسفة الإنسانية الغربية، فهو مثقف عالمي وعربي، زعيم الليبراليين العرب، ورائد حقوق الإنسان.

اهتمام باللغات
تزوجت مريانا من حبيب غضبان، وأنجبت ثلاثة أولاد، واهتمت باللغات، فأتقنت الفرنسية إتقاناً جيداً، وتعلمت الإنكليزية، وقد تلقت تعليمها على يد راهبات القديس يوسف، ثم ذهبت إلى بيروت لتتعلم في الإرسالية الأميركية، ودرست على يد والدها مادة الأدب العربي، فحفظت ابن الفارض وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما من الشعراء.
تفوقت مريانا مرّاش باللغة الفرنسية والعربية والرياضيات، وكانت تعزف على البيانو والقانون بشكل جيد، وحصلت على ثقافة عربية أصيلة، ثم سافرت إلى فرنسا وقرأت كثيرا من الشعر الرومانسي الغربي، وكانت تحب شعر ألفونس دي لامارتين، وألفريد دي موسيه.  بدأت في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر بكتابة مقالات وقصائد للجرائد، فقد دعا سليم البستاني عام 1870 إلى مباراة (إنشاء) للأديبات السوريات، فردت عليه بمقالة بعنوان "شامة الجنان" لتكون أوّل مقالة متنورة خطتها امرأة وتنشر في الصحف، وتتابعت بعدها المقالات، وكانت تنتقد فيها بنات عصرها، وتحضهن على التزين بالعلم والتحلي بالأدب، كما أخذت تنتقد التقعر في أساليب الكتابة، ودعت الكتاب إلى تحسين الإنشاء وتنويع الموضوعات والتفنن فيها، ودعت النساء إلى الإسهام الفعلي في مجالي الآداب والمعارف والمشاركة في الصحافة بكتابتهن، وتحليهن بالشجاعة والجرأة الأدبية، واتباعهن أفضل الطرق والوسائل في تربية أبنائهن، والارتقاء بمقدرات بناتهن من خلال التعليم، ولها عدّة مقالات في هذا الشأن منها: شامة الجنان، ونشرت في جريدة الجنان، الجزء الخامس عشر عام 1870، وحنون القلم والتي دعت فيها إلى تحسين الإنشاء وترقية المواضيع والتفنن فيها، وكذلك نشرت في جريدة لسان الحال وكلتا الجريدتين في بيروت.

ونشرت في بيروت أيضاً مجموعتها الشعرية بعنوان "بنات فكر" عام 1903، وتتضمن القصائد التي كتبتها في أعوام سابقة وهذه القصائد فيها الغزل والمدح والرثاء.

          قالت في رثاء أخيها فرنسيس مرّاش:

          وإنه بحر علم لا قرار لـــــــــه                وقد حوى كلّ منظوم من الــــــــدرر

          هذا الذي جابت الأقطار شهرتــــــه            قد صار مطروحاً في أضيق الحفـــر

          ومن قصائدها في الغزل:

          بذكر المعالي هام قلبي صبابـــــة               فيا نور عيني هل أكون على القرب

          عين الشمس في مرآك للعين تنجلي                فتنقل للأبصار ما حل بالقلـــب

قال عنها الأديب سامي الكيالي في مجلة الحديث التي تصدر في حلب: "عاشت مريانا صبابتها في جوّ من النعم والألم مع الأدباء والشعراء ورجال الفكر، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون والعرب، فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث"، ولقد جمعت في قصائدها الحكمة والرثاء والمدح والإخوانيات، وحافظت على العروض الخليلي والقافية الموحدة.


صالونها الأدبي
افتتحت مراش صالونها الأدبي في منزلها، وذلك بعد عودتها من باريس، وكان يلتقي فيه الكتاب بشكل منتظم، وأثمرت هذه اللقاءات عن صداقات بينهم، واشتملت على مناقشة قضايا فكرية وأدبية وسياسية واجتماعية وموسيقية، وكان يحضر إلى صالونها هذا الكتاب ورجالات الفكر من أمثال قسطاكي حمصي وجبرائيل الدلال وكامل الغزي وعبد الرحمن الكواكبي ورزق الله حسون بالإضافة إلى أعضاء السلك القنصلي أمثال جميل باشا الوالي العثماني، وإيوانوف القنصل الروسي في حلب.
وهذه اللقاءات كانت مسائية ومختلطة، وكان يتخللها عزف على القانون، فقد كانت مريانا ترتدي الفساتين السوداء والبيضاء، تلك التي اشترتها من باريس، وقد نوقشت المعلقات وأعمال فرانسوا رابليه، وتضمنت اللعب بالورق والشطرنج، وأقيمت فيها الأمسيات والمسابقات الشعرية، واشتملت على الغناء والاستماع إلى الموسيقى من المونوغراف، وإذا ما ذكرت عائشة التيمورية في مصر، ووردة اليازجي ووردة الترك في لبنان، ذكرت مريانا مراش في حلب.
كانت الكتب عزيزة في تلك الفترة، ولم يكن للصحف والمجلات أدنى وجود قط، وكانت حياة المرأة مقتصرة على الوسط المنزلي، غارقة في الجهل والخرافات، فكانت مريانا مرّاش التي حصلت على ثقافة عربية أصيلة، ثم سافرت إلى أوروبا، ولمست مواهب فنية في ذاتها، فأعطتها المدى بإتقان الغناء والعزف وقول الشعر والكتابة الصحافية، كانت رفيعة الشمائل، عذبة المنطق، طيبة العشرة، وتميل إلى المزاح، وقد تمكن منها الداء العصبي في آخر حياتها، حتى كانت تتمنى الموت في كلّ سانحة، وتوفيت عن عمر يناهز الحادية والسبعين عاماً.. إنها نجمة من نجوم الأدب المشعة في سماء ذلك الليل البهيم.