Print
راسم المدهون

ذكرى ميلاد محمد القيسي.. تروبادور الشعر الفلسطيني ونايه الحزين

10 نوفمبر 2019
استعادات

على مدى عقود أربعة وأكثر جسّد الشاعر محمد القيسي صورة "المغني الجوّال".. فهذا الفتى المدجج بالحزن والقصائد وجد طيلة تلك السنوات حيوية وجوده وإبداعه في ترحاله الدائم في الأماكن والأزمنة بل وفي الأجناس الأدبية، وهو الشاعر الذي قدم أكثر من عشرين ديوانا ورواية وحيدة وكتاب "مشاهدات" فاستحق معها صفة الأكثر غزارة بين شعراء فلسطين من مجايليه والأجيال التي جاءت بعده.

حزن ملازم
محمد القيسي المولود في كفر عانة قضاء يافا عام 1944، والذي صادفت هذا العام ذكرى ميلاده الـ75، لجأت عائلته للضفة الغربية وتحديدا مخيم الجلزون الذي عاش فيه طفولته ومطلع شبابه قبل أن يرتحل في سن مبكر سعيا وراء العمل والرزق فيجوب دولا وبلادا وتصطبغ روحه بحزن لازمه العمر كله وكان أبرز صفات شعره منذ مجموعته الشعرية الأولى "راية في الريح" والتي لفتت أنظار قراء الشعر ونظر الناقديْن رجاء النقاش وغالي شكري من خلال كتابتهما المبكرة عنه والتقاطهما رنَة الأسى والحزن التي رافقته في تجربته كلها.
محمد القيسي المشحون بالقلق كان بين مجايليه من شعراء الستينات أشدهم ولعا بالحياة، هو الذي توحدت حياته وتجربته الشعرية بشغف لم يتوقف بالحب والنساء والسفر، فترك شغفه ذاك يشكل صورة شعره على نحو جعل القيسي حتى رحيله شاعرا شابا لا تدركه كهولة عمر ولا كهولة تجربة إبداع الى الحد الذي واكب معه بتألق وجدارة كل محطات التجريب الفني، وجعلته تلك المواكبة يركن لبلاغة حزنه وبلاغة حنينه لوطنه أكثر من ركونه لأية شعارات أو مقولات أيديولوجية. وهو بهذا المعنى فتى الشعر الذي راهن على حزنه وارتفع معه وبه الى ذرى إبداعية عالية:

"لم أجد في المكان مكانا أليفا لحزن القطا

لم أجد غرفة لمتاعي القليل

لم أجد فندقا كنت أعرفه،

من زمان طويل

لم أجد من ألحّت على أن تراني

تركتُ على بابها جملة،

ونويتُ أروح الى شارع المكتبة

شبحان يلوحان لي في غبار البعيد

وها يصبحان على مقربه

وأكاد ألامسُ ظلهما

-       مرحبا

مرحبا"


لغة القيسي
لغة محمد القيسي الشعرية تؤثثها عذوبة السلس، البسيط والمتكئ – غالبا – على سردية حميمة تمتزج بحرص بالغ على الصورة الحسية التي تمنح قارئها متعة تخيلها واستعادة تشكيلها في ذهنه، والشاعر هنا يبني قصيدته من دفء تلك السردية وجموحها نحو ما هو فردي يستحضر الألم الذاتي واغتراب الروح القلقة في جحيم المنفى القسري.
تروبادور الشعر الفلسطيني هو أيضا ناي مفرد يغني ليلاه الضائعة، البعيدة والقريبة في آن، وهو ناي الجرح النازف دون توقف منذ هتف يافعاً في صباه:

"ألا من يبلغ الأحباب

أنا ما نسيناهم"

في تجربة محمد القيسي الشعرية الغزيرة نتوقف بتأمُل أمام نساء عبرن حياته وشعره، أبرزهن أمه التي كرَس لها ديوانه "كتاب حمدة"، وأخريات كرَس لهن "رماح عنترة.. هودج عبلة" و"كتاب الفضة". وهن أيقوناته الشعرية في حمى انتباهه للحياة بتفاصيلها الآسرة والمسكونة بغيابات دائمة كانت في تقديري بيئة ذهنية وحسية غنية دفعته الى تجليات شعرية فيها مزيج الإحساس بالقلق والوحدة وبنقيضه حس الانتماء للناس وللمكان الأول بما هو انتماء وجود مرير. هنا ذهبت تجربة القيسي الى مقاربة شعرية مختلفة عن "سرب" المغنين لفلسطين، فرأيناه يبتعد الى حيث نبض الحياة وألقها، فلم تجرفه القصيدة "الوطنية" بخطابها المنبري التحريضي، وهو مثلا لم يتماه مع شقيقتها قصيدة "الموضوع" بمفاهيمها المعلبة وهو الذي ترك حدقتيه مفتوحتين على ما وراء عناوين التراجيديا الوطنية، أي حيث الألم ذاته وحيث القصيدة عزف خافت النبرة ولكنه عميق يتجاوز ما هو عابر الى ما يظلُ حاضرا يضيء ويستمر لأنه هتاف الروح وعزف نشيدها:

"كم تفضحُ الأيامُ ما أخفي

هشاشة لوحي المحفوظ،

أحوالي وأورادي

أنين الناي،

فقر أصابعي عند الوداع،

وما تناسل من خيوط الثوب،

إذ بهت النسيجُ"



الرثاء وشغف التجريب
قارئ مجموعات محمد القيسي الشعرية سيتوقف كثيرا أمام ظاهرة الرثاء في شعره والتي تتجاوز حقيقة الرثاء كباب من أبواب الشعر الى ميل داخلي لاستحضار حزن الجماعة إلى قارعة النشيد الفردي. والقيسي في رثاء الآخرين يصفو تماما لذاكرته ومخيلته معا فيكتب كمن يرثي عالما أو إذا شئنا الدقة أكثر زمنا بأكمله فنراه يحدق في الحياة ذاتها التي يجعلها موت الأحبة والأصدقاء لحظة رثاء طويلة تحضر وتكاد لا تغيب إلا قليلا. هو يرثي كمن يحضُ الحاضر والبشر على النهوض، فالرثاء الذي يرسم صور الفراق هو أيضا جموح للحياة تحضر في سطوره وكلماته ذات الشاعر التي تعيش أصلا في مناخات الفقد وتتجول بحدقتي الحزن وعشق الحياة. وفي حالات كثيرة أراه يرثي الأشياء والأماكن التي إذ تموت وتختفي تأخذ بعض أيامه معها وهو يبكيهما معا كما فعل في استذكاره لسينما "دنيا" في رام الله قبل يوم واحد من هدمها:

"وكبرتُ على أطراف الأشياء

تموتُ كما ينمو العشب على الماء،

غزاني الحبُ فشفَا القلب،

وساق خطاي إلى

أول درجات خلاصي"

للشاعر أيضا تجريبيته، فهو الذي كتب معظم دواوينه في صيغة قصيدة التفعيلة وإيقاعها قدم تجارب أخرى تنتمي إلى قصيدة النثر: الشغف بآفاق المخيلة اللامحدودة وتكريس الصورة الشعرية التي أصبحت في تجاربه النثرية تسعى للخروج من حالة الصورة الفردية إلى الصور المتشابكة التي تصبح مجتمعة مشهدا متكاملا يمكنه منح القصيدة جماليات فنية أعلى وقريبة أكثر من مخيلة قارئ الشعر. ورغم ذلك لا نستطيع الزعم أن الشاعر انحاز لقصيدة النثر كليا بل ظلت كتابتها بالنسبة له نوعا من استراحة يمارس من خلالها شغفه بالتجريب، والذي عبر عنه في صورة أوضح وأجمل في كتابه المميز "أباريق البلُور" والذي صدر في المرحلة الأخيرة من حياته.
"أباريق البلُور" كتاب تأمُل قدم مجموعة من المشاهد النثرية الطويلة التي تنوس لغتها بين الشعر والخاطرة وهي ما اختزنته ذاكرة الشاعر من مشاهدات وصور لأماكن متفرقة عاش فيها وتركت بصماتها في روحه. تجربة مختلفة جاءت أقرب الى شهادات روحية فيها الكثير من العاطفة كما الكثير من ارتباط المكان بمناخات فنية واجتماعية التقط الشاعر حرارة حضورها كذاكرة تدلل على المكان وتحمل الكثير من روحه. تجربة تزامنت أيضا مع تجربته الروائية اليتيمة "الحديقة السرية" التي لم ينجح فيها في القبض على لغة وبنائية الرواية وظل في الرواية كلها يسوق الشعر ولغة الشعر الى عوالم أخرى بدت طيلة الوقت غريبة عنه.
محمد القيسي شاعر البرِية والحرية، الشغوف بالرؤى، والحالم العاشق للجمال في زمن مثخن بالهزائم والخيبات المتلاحقة التي عاش فيها وفي مواجهتها مثقلا بالحزن والإرادة التي حققت لنا هذا الإرث الشعري الجميل الذي يزدهي بأسى جسور سعى لتحويل الحزن والشعر معا إلى شهادة نبيلة على قوة فردية تماهت مع قوة شعبه في مواجهة النكبة الكبرى بكل عصفها في روحه والتي وضعته في الصف الأمامي للشعراء الفلسطينيين والعرب فاستحق تلك المكانة بجدارة.