Print
فيصل خرتش

اعتدال رافع... تسليط الضوء على المهمل والمغيب والمسكوت عنه

25 أكتوبر 2019
استعادات
إنها قاصة وكاتبة مقالة وصحافية ساخرة. لم تهادن، وتعدُّ كتاباتها تحدياً للأنثى، كونها من الكاتبات السوريات القلائل اللاتي اخترن كتابة الكوميديا السوداء.
وُلِدَت الكاتبة اعتدال رافع في عالية، جبل لبنان عام 1937، وحصلت على الإجازة في التاريخ من جامعة دمشق، وعملت في التعليم، ثم في مديرية الآثار والمتاحف. كانت تكتب زاوية في جريدة البعث "حديث الصباح"، وجريدة تشرين "آفاق ثقافية"، كما عملت في مجلة (الأزمنة العربية)، وجريدة (صوت الكويت).
انتسبت إلى اتحاد الكتاب العرب، في جمعية القصة والرواية، وتزوجت من الفنان الكوميدي أنور البابا "أم كامل"، وأنجبت منه بنتين.
توفيت رافع في دار السعادة (الدار التي تؤوي العجزة والمرضى والمشلولين) في دمشق. ماتت، ولم يشيعها أحد، من الأهل والأولاد والأصدقاء، عن عمر يناهز الحادية والثمانين، يوم التاسع من آب/ أغسطس عام 2018.
استمرت كتاباتها على ما يزيد عن النصف قرن، وكانت تبتعد عن الظهور في وسائل الإعلام، وتكتب فقط لأنها قادرة على الحبّ، وهي تسلط الضوء على المهمل والمغيب والمسكوت عنه، وتصوّر الشخصيات والأماكن المهملة والناس العاديين النائمين الهاربين من جبروت الكبت والظلم والقهر، وكلّ ما يلغي إنسانية الإنسان.
كانت تجلس كلّ يوم في مقهى "أبو شفيق" على ضفاف بردى، بالقرب من الطاولة التي يجلس عليها زكريا تامر، ومحمد الماغوط، وتباشر الكتابة.
أسلوبها مطعم بالسخرية المبطنة، والتهكم اللاذع، وهي قادرة على أن تصنع قصة من كلّ
حدث، وهذه القصة تكون مكتملة مع العناصر، وبذلك تكشف حرفيتها ومهارتها وموهبتها في فن القصّ، إنها ترسم الحالات الإنسانية، ولا تكتب حبّاً بالشهرة. إنّها تكتب من أجل التواصل مع الناس، وليس من رفيق تلجأ إليه سوى الكتابة، إنّها تبثها نجواها وألمها، إنّها تقول: "في الكتابة أقرأ نفسي من الضغط اليومي، أكتب عن معاناة المرأة الإنسانية أو معاناة الرجل المقموع".
منذ صغرها، مطلوب منها أن تكون رصينة، أن تمشي بهدوء، أن لا تتكلم إلا الكلمة المناسبة، وإنّ تكلمت خارج النطاق المحسوب لها تتعرض لأقسى أنواع العقاب، فهي الفتاة التي لا تلعب، والزوجة التي لا تضحك، حركاتها كلّها محسوبة عليها، إنها امرأة حسب العرض والطلب، وهذا الجسم ذو الطاقة الداخلية يكاد ينفجر، امرأة تعيش كما يرغب الآخرون، لذلك فضلت السكوت، فهذا الزمن ليس زمنها، إنّه زمن الأخريات، وفضلت أن تعيش على أحلامها، وإذا توقفت هذه الأحلام... توقفت الحياة، لأن الحياة عبث، وهي تردّ على الخوف بالكتابة، إنّها تخاف من كلّ شيء، تخاف من الشارع، وفي البيت في منامها، وفي يقظتها، إنّها أكثر ما تخاف من الرجل، الرجل الذي لم يستطع أنّ يملأ الفراغ الكبير الذي استمر معها، كلّ أيامها، منذ طفولتها حتى الآن، فهي لم تصادفه إطلاقاً.
تكتب حين تتراكم الأشياء بداخلها، وتصل إلى حدّ الانفجار، وقد أصيبت بالسرطان ثلاث مرات، وحين تلفتت إلى الكتابة، فلكي تحميها من الموت، لذلك كانت كتاباتها فيها كثير من العبث، وكثير من الجنون واللامعقول، لقد تعلمت القراءة من شاهدات القبور، وإنّ الرجل أعطى الحروب والدمار، والأنثى أعطت الحياة جمالاً ورونقاً ووروداً ورياحين، إنها الكلام الصادق والمحب والنابع من فكر يأبى الظلم والاستبداد على الإنسان، المرأة مشغولة بالمنزل والأولاد والمطبخ والموضة والبوتكس وعمليات الجميل، والرجل مشغول بهمومه وعندما يفرغ منها، يتوجّه إلى المرأة فيقيدها ويمنعها من الانطلاق، فهي  ضد العادات والتقاليد الخاطئة.
تمزج اللغة اليومية باللغة الشعرية، وتجدّد دائماً في الرؤى، وتتعامل مع الشخصيات كأنها واحدة منهن، تجيد البراعة في التكثيف والاختزال، وتتناول عالم البسطاء وحيواتهم، وتركز على الحوار الداخلي، وقد وصفها محمّد الماغوط بالجدة الطفلة... فلا أحد يوقرها كجدة، ولا أحد يدللها كطفلة.
اعتدال رافع تخاطب وجدان الإنسان ومعاناته، وتفضح ما نعيشه في حياتنا اليومية، وتجدد في
إيقاعها الفني، فيتعانق الجمال مع التجربة اليومية، فتقترب لغتها من الشعر في كثافتها وصورها ورموزها، وغالباً ما تركز على اللغة لتدهشنا – نحن قراءها – وبذلك نبتعد عن الرتابة ونبقى مشدودين حتى نعرف نهاية القصة، فهي تتقن لعبة القصّ وجمالية الخاتمة، نأت عن الثرثرة، وقاومت ظلمة الحياة وقسوتها بالعلم، وأتاحت للمتلقي فرصة معايشة الألم عبر لغة تخيلية، تتفتح على جماليات لا تدركها إلا روح مرهفة، وربما تعلّمت ذلك من زكريا تامر وقصصه.
تقول دائماً: "الشام روحي، وديني هو سورية "، وحين تسأل عن الأحداث في سورية مؤخراً، تقول: " أنا لا أفهم في السياسة". لها عشرة كتب: مدينة الإسكندر؛ امرأة من برج الحمل؛ الصفر؛ بيروت كلّ المدن... شهرزاد كلّ النساء؛ يوم هربت زينب؛ صيف بارد؛ أبجدية الذاكرة؛ رحيل البجع؛ يوم من زمن آخر؛ كلمات مسافرة.