Print
فيصل خرتش

صباح محي الدين: شهاب لامع طواه النسيان

14 أكتوبر 2019
استعادات
وُلِدَ الكاتب والقاص والروائي صباح محي الدين (1925 – 1962) في مدينة حلب، وتعلّم في مدرسة السريان الكاثوليك، ونال الشهادة الابتدائية منها، انتقل بعدها إلى مدرسة "اللاييك" ونال منها شهادة البكالوريا عام 1942.

انقطع بعدها عن الدراسة وعمل في عدّة أمكنة، وفي عام 1946 دخل الجمرك وعيّن في بيروت، فكان يعمل فيه نهاراً، ومساءً في صحيفة بيروت المساء، وبعد ذلك رحل إلى فرنسا لينجز الدكتوراه عن الشاعر غيوم أبولينير Guillaume Appolinaire وفي ذلك الوقت تزوّج من أوروبية وانتقل إلى لندن ليعمل في إذاعة الـ B.B.C. ، ثم استقال منها قبيل حوادث السويس.
نشر في عدّة مجلات، منها: الآداب، السنابل، الصياد، بيروت المساء. وله ثلاث مجموعات قصصية، هي: السمفونية الناقصة، بيروت 1958؛ بنت الجيران، بيروت 1958؛ العائد، بيروت بدون تاريخ. وله رواية واحدة، بعنوان "خمر الشباب"، بيروت 1958.  وله كذلك بعض الترجمات عن الفرنسية، منها كتاب عن فولتير وكتاب "اليوم الموعود".
دُعي إلى الكويت، ومات في حادث سيارة، ثم نسي من قبل النقاد وكأنه لم يقدم شيئاً ذا قيمة في الأدب، ليس في سورية وحدها، وإنما في الوطن العربي.


صراع الحضارات
تتحدّث مجموعته الأولى "السمفونية الناقصة" عن صراع الحضارات، بين حضارة أوروبية وحضارة شرقية، ومن خلال ذلك يعرفنا على باريس وأحيائها ومعالمها من خلال شاب في العشرين من عمره، ذهب إلى جامعة السوربون ليدرس فيها: "وباريس على أمثالنا من فتيان الشرق الذين حرموا من النظر إلى أنثى أثر واحد لا يتغير، فإننا ما نكاد نصل باريس حتى نحاول أن نجد غرفة أقرب ما تكون من الحي اللاتيني، ثم نبدأ باكتشاف مقاهي السبول ميش ومونبارناس، ولا تمضي أيام قليلة حتى يكون واحدنا قد عرف أكثر من واحدة تساهم في تخفيف الكبت المتراكم عليه منذ أجيال لا تعدّ".

يتعرّف هذا الشاب على فتاة في حفلة عزف على البيانو، وخلال ذلك تعلق عيناه بفتاة شقراء الشعر، خضراء العينين، سوداء الحاجبين، هي من فيينا، ولا تجيد اللغة الفرنسية، فيتحدثان بالإنكليزية، وجاءت إلى باريس لتدرس الموسيقى، فلقد نالت الجائزة الأولى من "كونسرفتوار" فيينا، فأرسلها أهلها لتدرس على "جاك تيبو". ويتبادلان حديثاً عن الموسيقى، ويخبرها عن موتزارت بأنه الموسيقي المفضل لديه، وأن فيه أنفاساً ليست في باخ الهندسي، ولا في بيتوفهن الإعصار، ولا في شوبان النسوي. ثم يصبح دليلاً لها، ويعرفها على الأماكن الممتعة، مثل الأوبرا وكنيسة المادلين وساحة الكونتور وبولفار سان جرمان وشارع الكوميديا القديمة... الخ، ويأخذها إلى اللوكسمبورغ وكهف سان جرمان ليسمعها موسيقى الجاز، مع أنها تفضل أن تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية... "وفجأة علت من الكلارينت صرخة تقطع نياط القلب، استمرت ثواني طويلة انهمرت فيها أنفاسنا جميعاً، كأننا مع العازف في عزفه، وقد أخذ يسكب روحه في هذا النغم الذي يعتصر القلب، وما إن بلغ اللحن أعلى نغمة حتى انطلقت الجوقة بكاملها ترسم حول اللحن الأساسي نسيجاً من الموسيقى البدائية هي مزيج من ضربات القلب وتراكض الدم في العروق وهزة الأدغال في ربيع الخليقة".
ثم تقول له: "وحتى أنت، الآتي من الشرق عليك أن تفهم أن المرأة أنثى قبل كلّ شيء". تطلب منه أن يراقصها، وبعد ذلك يمضيان إلى بيته ثم تغادره ولا يراها بعد ذلك، فهل قطعت علاقتها به لأنه لم يصفّر لها السمفونية الناقصة أم ترى الحق على هذا الفتى الذي حسر القناع عن وجه عازفة الكمان الآتية من فيينا، وأثبت لها أنها أنثى، كأية امرأة أخرى، فلم تغفر له ذلك؟.
إنّه صراع الحضارات، فكلّ همّه أنّ يثبت لها أنها أنثى، ككلّ النساء، ولم يخطر على باله أنها إنسانة، مثله، مثلها، وربمّا كان الكاتب أوّل من وعى وعبّر عن الصراع بين الغرب والشرق بشكله الاجتماعي.
ففي رواية "خمر الشباب" نجد الشخصية الرئيسية وقد تعرّف على فتاة سويسرية، ثم تنشأ بينهما علاقة حبّ، وعليها يعيشان، وهي بعيدة عن أهلها، وهو بعيد عن أهله ومجتمعه، وخلال ذلك تصله رسالة من أبيه، وفي هذه الرسالة يخبره الوالد أنه خطب له ابنة عمّه، وفي النهاية يعود ليتزوّج منها ويدير معمل الصابون الذي سيرثه عن أبيه.
هي أشبه بوثيقة تحمل إدانة لمجتمع بكامله، إنها صراع الشرق مع الغرب، صراع الأفكار التقليدية مع الأفكار المنفتحة، إنّه يمثّل المجتمع الشرقي بما يحمله من قيم مهترئة وبالية، وهذه الشخصية تحمل عفنه وإرثه التاريخي. فقد أرسله الوالد ليتعلم صناعة الصابون فقط، ولم يرسله ليتعلّم الحبّ والعلاقات الإنسانية، فهذه الفئة من المجتمع لم تقبل أن تدخل القيم الأوروبية لمجتمعها، عليه أن يتعلّم خبرة جديدة في صناعة الصابون، وهذا يكفي.
في "قصة بوق سان جرمان" يضعنا الكاتب أمام قصة هي أطرف ما قرأناه، فنحن أمام فنان من أميركا الجنوبية، وهي تقارب مجتمعنا في الحضارة، ويعيش هذا الفنان على النساء والخمر ورسم اللوحات، وخلال بوهيميته نجده يقوم بأفعال طائشة، إذا جاز لنا أن نسميها كذلك، وفي نهاية القصة نجده وقد تحوّل إلى رجل ثري، من خلال بيع اللوحات للأغنياء أبناء بلده، هذه اللوحات التي كان يتركها الفنانون، لأنها لا تصلح لشيء، فقط لأنها إنتاج الحضارة الغربية. ربما كان صباح محي الدين أوّل من وعى مشكلة هذا الغرب في علاقاته مع الشرق، ونظر إليها بطريقته التي تحكي قصة حبّ يعيشها أبطاله بطريقة بوهيمية.
في مجموعته "بنت الجيران" نتعرف على مراهق، وحين يستيقظ في الليل يصعد إلى سطح الدار "كانت ابنة الجيران عارية إلا من غمرة النور تروح وتجيء أمام مرآة تعكس صورتها على طولها". فيتذكر أنّ والدته كانت تضربها مثلاً لأخواته، وتقول لهن أنْ لا يسرن على منوالها في الأدب الجميل والحياء المفروض على آنسات العائلات المحترمة. إنها أعمال فتاة مراهقة، خلا بها المكان، وهي تعتقد أنها وحيدة، لم تدرِ أن هناك من يتلصص عليها، إنّه ينبهنا إلى حاجتها البيولوجية، فهي إنسانة من لحم ودم، تشعر أن لديها نوازع مكبوتة في جسدها، وحين شعرت أن لا أحد يراقبها أطلقت هذه النوازع والمشاعر المكبوتة في صحن الدار، ولمن؟ لفضاء المكان الخالي، أمام مرآتها، وانتهت اللحظة مع صوت خطى في الشارع، أفزعت جارته، فأسرعت إلى داخل بيتها، أما صاحبنا فقد جعلته يقفز مسرعاً إلى السطح ويستلقي على فراشه.
وفي مجموعته "العائد" نجد المهرب وقد أشار بأصبعه، وقال إلى هناك، ثم ابتعد وذاب في الظلام.  وهناك كانت صفد، وصلها بعد ساعات من السير الحذر آتياً من الشمال، من الطريق الذي يمرّ بين جبل الأكراد وجبل كنعان وانحدر نحو المقبرة، كانت قد تهدّمت جوانب بعض القبور، وعلى ضوء ذكرياته سار إلى حيث ترقد والدته رقدتها الأخيرة، وأحسّ بفيض هائل من الانفعال العاطفي، تذكر تلك الأيام حين تمسح له والدته على خده بعد أن يعود لاهثاً يوم العيد حين يلعب مع الأولاد، ثم يتضارب مع أولاد خاله، ويشرب من عين العافية، ويصعد حتى كرم أبي حسين، ويطلع درجات السوق حتى قلعة الظاهر يتفرج على غروب الشمس، ويسير في حارة الأكراد إلى بيته، لقد وجد نفسه وجهاً لوجه مع الصهيوني، في بستانهم، فانبطح على الأرض والرعب يركض في أمعائه، وفي النهاية، يقول: "لقد انتظر الصهاينة آلاف السنيين على غير حق، أما نحن فعن حق ننتظر".

العقدة أقل شيء في القصة
على رأي محي الدين، العقدة هي أقل شيء في القصة، ففي أية صحيفة عشرات الأخبار تصلح عقدة، ذلك أن العواطف والانفعالات معدومة لا تتغير، وإنما يتغير موقف الإنسان منها، والمهم هو عرض موقف الشخصية الرئيسية من العالم. وأمّا فيما يخص الشكل فهناك عاملان رئيسيان:

  • التشويق: على الكاتب أن يتحاشى ما يمل منه القارئ، فيقبض على انتباهه، ولا يفلته حتى آخر كلمة في القصة.
  • الطبيعة: يمكن البحث في أي موضوع كان في (اللاهوت، الجنس، السياسة) في شكل يتفق مع مجرى القصة، فيأتي طبيعياً، منطبقاً مع شخصية البطل، لا كالشعرة في الحساء، فيبدو لنا كأنه يكتب مقالاً أو يلقي خطاباً. 

وفيما يخص الناحية الفنية، يجب تحاشي السرد ما أمكن، والتجريب كلما استطاع الكاتب إلى ذلك سبيلاً، لأن كتابة القصة مهنة تقوى بالتجريب وبمحاولة الأساليب الفنية الجديدة.
إنّ الشيء الأساسي في كاتب القصة هو النفس القصصي الذي يبعث الحياة في الأشخاص ويجعل الأسلوب منطبقاً على العقدة، فتأتي القصة أقرب ما تكون إلى المثل الأعلى الذي قاربه كبار القصاصين من أمثال موباسان وتشيخوف وتولستوي ومان وألدوس هكسلي.
هذا هو صباح محي الدين الذي نشأ في بيئة منغلقة على نفسها، ثم سافر وعرف لماذا يعيش، واختلط بالناس، فخرج من هذا القمقم إلى عالم أكثر إنسانية وأكثر انفتاحاً على الإنسانية، ولذلك على ما يبدو تجاهله النقاد، وعتموا عليه.