Print
إيهاب محمود

ذكرى ألبيرتو مورافيا.. "نحن مثل الأزهار نولد ونموت"

1 أكتوبر 2019
استعادات
في أحد أيام عام 1916، وبينما كان طفلاً لا يزال في التاسعة من العمر، اكتشف الأطباء إصابة ألبيرتو مورافيا بنوع نادر من مرض السل، يستدعي علاجه عزله لخمس سنوات كاملة وحيداً في غرفته، لتلعب تلك العزلة دوراً أساسياً في تشكيل الطفل الذي سيصبح فيما بعد واحداً من أبرز كتاب الأدب الإيطالي، وأحد أشهر الروائيين في العالم.


المرض كمحفز إبداعي
لم تكن السنوات الخمس عجافاً تماماً، على العكس استفاد مورافيا من أزمته بشكل إيجابي، قرأ مؤلفات كارلو غولدوني ودوستويفسكي وجيمس جويس وموليير وشكسبير وملارميه وغيرهم، كما تعلم اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية، ما مكنه من تحصيل أدبي مميز في سن مبكرة، والتنقل بخفة بين ثقافات متنوعة، وبعد تماثله للشفاء عام 1921، احتاج مورافيا لثماني سنوات لينشر روايته الأولى "اللامبالاة"، التي انتقد فيها بشدة أوضاع الطبقة المتوسطة التي انهارت لديها قيم الأسرة الإيطالية، وتخلت عن معتقداتها لتمد يداً لمساعدة الفاشية، طمعاً في التقرب والانخراط في الطبقة البرجوازية لتحقيق مكاسب مادية واجتماعية زائفة، وبسبب رؤية مورافيا لمجتمعه خلال تلك الفترة، لم يجد ناشراً واحداً وافق على طبع روايته، ليضطر هو لنشرها على نفقته الخاصة.
بعد ذلك بسنوات، وفي مذكراته التي نشرت في عام وفاته 1990، ذكر مورافيا أن هذه الرواية كانت في صميمها وبصرف النظر عن الهواجس الجنسية الطاغية عليها رواية وجودية بامتياز سبقت بفترة ليست قصيرة أعمال الكاتبين الفرنسيين ألبير كامو وجان بول سارتر اللذين اشتهرا بأنهما رائدا الأدب الوجودي، بل بأنهما أبواه المؤسسان.
بعد ذلك توالت أعمال مورافيا، فأصدر روايات "الحياة الحلوة" 1935 و"الطاعون" و"أغسطين" 1944 و"فتاة روما الجميلة" و"العصيان" 1947، و"الموافق" 1951.


التحول بعد الحرب العالمية الثانية
ومثلت الفترة من 1954 إلى 1971، تحولاً في أدب مورافيا على مستويات عدة، إذ نشر خلال تلك السنوات أربع روايات: "الاحتقار" 1954، "السأم" 1960، "الانتباه" 1966، وانتهاءً بـ"أنا وهو" 1971، واللافت فيها هو أنها حملت تخلياً من مورافيا عن بعض سماته الأسلوبية، فضلاً عن استعماله للغة مختلفة، تقترب أكثر من العامية الإيطالية، حيث كانت كتابات مورافيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مشغولة أكثر بالمخاوف المتداولة في الحياة اليومية، وتحولات الطبقات الاجتماعية في المجتمع الإيطالي، ورغبته في هجاء البرجوازية. والقارئ باللغة الإيطالية سيدرك بوضوح تام أن لغة مورافيا خلال تلك الفترة، وعبر هذه الروايات الأربع، كانت تتماس مع اللغة الشعبية الإيطالية، حيث اختار شخصياته منتمية لهذه الطبقات، قد لا تظهر هذه الروح فيما يخص اللغة، في الترجمة، لكن روايات مورافيا بلغتها الأصلية تحمل ذلك الطابع بوضوح تام.


التخلي عن الماركسية
ظل مورافيا ماركسياً حتى بداية الستينيات من القرن الماضي، حيث إنه بدأ يتجه أكثر فيما بعد

نحو الاتجاه الفرويدي في خلق شخصياته وتطوير مساراتها، والانشغال بكيفية إدارة علاقاتها مع صراعاتها الداخلية والنفسية، وبدا مصراً على اللجوء لشخصيات معزولة اجتماعياً ولديها شعور عارم بالغربة وعدم الاتزان النفسي، وعاب عليه البعض تورطه في لغة جنسية فجة، تسببت في منع عدد من رواياته، غير أن الرجل لم يستجب لأحد، وبينما كان في السبعين من عمره، أصدر كتاب "حكايات إيروتيكية" ضارباً بكلام وانتقادات الجميع عرض الحائط، مستجيباً فقط لرغبة الكتابة التي تختار قالبها ولغتها ومساراتها.

مورافيا رساماً
في السنوات الواقعة بين 1934 و1990، كتب مورافيا عشرات المقالات في صحف مختلفة، تتعلق بالرسم، وحبه له، وتعلقه به، وهي تعبر في مضمونها عن رؤية مغايرة للعلاقة أيضاً بين الرسم والأدب، وهو ما شجع الأديبة الإيطالية ألكساندرا كارمو لتختار 90 مقالاً منها، وتضعها بين دفتي كتاب بعنوان "لا أدري لماذا لم أكن رساماً".
كان والد مورافيا مهندساً معمارياً، وأخته أدريانا فنانة تشكيلية ذائعة الصيت حيث كانت بارعة في الرسم. من هنا وجد ألبيرتو نفسه منجذباً بشكل كبير للرسم، مفسراً لماذا يبدو عمل الفنان أكثر جاذبية من عمل الأديب، بأن الفنان يبدع عمله من الصور والألوان، أما الأديب فينتج قصته من صراع الكلمات، ولذلك حرص مورافيا على أن يحيط نفسه طوال حياته بأصدقاء رسامين يقول عنهم: "هم دائماً فنانون"، ولعل هذا الشغف بالرسم واللوحات هو ما يفسر هذا الكم الهائل من اللوحات والرسومات الموجودة في شقته السكنية على ضفة نهر التيفر في روما، والتي أصبحت اليوم متحف ألبيرتو مورافيا.

النهاية

العمر، وما بعد الموت، أمران لم يستحوذ أحدهما على تفكير مورافيا، الذي سئل قبل وفاته بوقت قصير عن رؤيته لفكرة العمر، فأجاب: "لا أفكر فيها أبداً". أما فكرة ما بعد الموت، وما يمكن أن يتعرض له الإنسان خلال هذه التجربة، فقال مورافيا: " لا أفكر فيها أيضاً فنحن مثل الأزهار نولد ونموت ثم نودع". غير أنه، وبنهاية دراماتيكية تماماً، وجد ميتاً في حمام بيته في مدينة روما، يوم 26 أيلول/سبتمبر 1990، تاركاً خلفه إرثاً أدبياً ومنجزاً إبداعياً يليق بواحد من أبرز الروائيين في أوروبا.