Print
عبد الله حنا

مجلة الثقافة المصرية (1933–1953) وصاحبها أحمد حسن الزيات

22 يناير 2018
استعادات
       

 أحمد حسن الزيات (1885 ـ 1968)، الأديب والكاتب المصري وصاحب مجلة الرسالة طبّقت شهرته الآفاق في سماء أقطار المشرق العربي المتقدمة في منتصف القرن العشرين.عاش في أجواء عائلة تسمع سيرة عنتر وقصة سيف بن ذي يزن، وألف ليلة وليلة، ومختارات من كليلة ودمنة، فكان لهذه السير مكانة في حياة أحمد الزيات، فقد تركت فيه حبّاً للقراءة، ورغبة في الاطلاع. ألحقه أبوه بالكتّاب في الخامسة من عمره، وبعد أن حفظ القرآن الكريم دخل الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره. فتلقى: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وقرأ تفسير حماسة أبي تمام والكامل للمبرد كما استمع إلى الشروح الأدبية للمعلقات. وفي رحاب الأزهر صحب طه حسين ومحمود الزناتي وتأثر بهما.

 بعد الأزهر التحق الزيات بمدارس التعليم العصري ونال سنة 1912 الإجازة من الجامعة المصرية، التي كان من أساتذتها المستشرقون جويدي، ونلينو، وسانتالا، الذين كان لهم تأثير قوي على تكوّنه العلمي. وبعدها قام الزيات بتدريس الأدب العربي في المدرسة الأميركية. ومع التدريس التحق الزيات سنة 1922م بكلية الحقوق الفرنسية، فحصل على الإجازة منها سنة 1925.

  عام 1929 نُدب إلى دار المعلمين العليا ببغداد لمدة ثلاث سنوات كان فيها نشيطا في ميداني التدريس والإنتاج الأدبي، الذي رصده جمال الدين الألوسي في كتابً بعنوان: "أدب الزيات في العراق". وأثناء إقامة الزيات في بغداد كان من فرسانها في الأدب والشعر والفلسفة كل من جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، وسنفرد لكل منهما حلقة خاصة.

من تآليف الزيات: «تاريخ الأدب العربي» مختتما إياه بالحديث عن الاستشراق والمستشرقين تاريخاً وأعلاماً.. «دفاع عن البلاغة» .. " في أصول الأدب" وهو مجموعة محاضرات ومقالات في الأدب العربي .. "وحي الرسالة" من أربعة أجزاء تضمنت افتتاحياته في مجلته الرسالة  .. " في ضوء الرسالة ". والرسالة تعني هنا أيضا مجلة الرسالة.

 ومن مترجماته عن الفرنسية: «ضوء القمر»، وهي مجموعة قصصية ألفها جي دي موباسان .. ورفائيل للامارتين .. و"آلام فرتر" لغوته.

يُعَدّ الزيات صاحب أسلوب خاص في الكتابة، وهو أحد أربعة في مصر عُرف كل منهم بأسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير، والثلاثة الآخرون هم: مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد.

 وننقل رأي العقاد في الزيات في التالي: "الزيات كاتب متأنق لا يكتب الصفحة الواحدة إلا في يومين أو أيام، ولولا اضطراره إلى مسايرة (الرسالة) لشغل نفسه بالصفحة الواحدة أسابيع، وتأنق الزيات تأنق مقبول .. ولكنه حرم أسلوبه من قوة الحركة، فهو يقهر القارئ على الوقوف من وقت إلى وقت ليسأل عن الطريق".

أما محمد مندور فيرى أنّ "أسلوب الزيات مصنوع صنعة محكمة، صنعة كاملة، ولكن الصنعة تبعدنا عن الحياة، ولكن الكمال يمل. وهناك في أساليب كبار الكتاب ما يحسه البلاغيون والنحويون ضعفاً وعيباً ولكنه أمارة الأصالة ودليل الطبع، وإذا كان في جلال أسلوب (شكسبير) أو (فاليري) ما يسمونه كسر البناء، فكيف لا يطمئن جهد الزيات حتى يقيم الموازين، ويقيس المسافات.

                                   ***

 بعد عودة  الزيات من بغداد أصدر في القاهرة مجلة  أسبوعية للآداب والعلوم والفنون حمل العدد الأول منها تاريخ 15 يناير 1933، واستمرت في الصدور حتى إغلاقها في 23 فبراير 1953. وأُعيد طبعها بالتصوير  في بيروت 1985.

أهم ملامح المجلة:

- كانت مجلة الرسالة عربية الملامح تحمل على منكبيها رسالة الفكر العربي. وكان المثقفون العرب في مصر وبلاد الشام والرافدين ينتظرون صدورها للنهل مما تنشره من دراسات عميقة ومطالعات شيّقة.

- كانت مصدرا لتاريخ الأدب ودراسته. وألقت الأضواء على رموز الأدب العربي.

- حملت طابعا إسلاميا وسعت لبعث الروح الإسلامية، وفتحت صدرها للكتاب ذوي التوجه الإسلامي.

- كانت نافذة للأدب العالمي وتعريف القراء به.

- حرص صاحب الرسالة على استقطاب واستكتاب مختلف الاتجاهات الفكرية والأدبية. فقد  اتصفت بالتنوع واحتوت معظم أعلام الفكر.

- تناولت المشكلات الاجتماعية بأبعادها المختلفة.

- عاشت عشرين عاما وأُغلقت مع تراجع الليبرالية وصعود الموجة القومية بألوانها المختلفة، واصطباغ بعض الدول العربية بالطابع الشمولي، في وقت أصبحت لـ"العسكر" الكلمة النافذة.

- عادت مجلة الرسالة للصدور ثانية عام 1963 باسم "الرسالة الجديدة"، ولكن صاحبها العقاد لم يستطع التلاؤم مع أجواء هيمنة الدولة على المؤسسات، فانزوى وأُغلقت المجلة بعد صدور عدة أعداد.

- بعدها أصبح أحمد حسن الزيات رئيس تحرير مجلة الأزهر.

                    ***

ننقل فيما يلي مقتطفات من مجلة الرسالة مما هو متوفر في أرشيفنا المعتمد على النقل بخط اليد في وقت لم تكن تقنية النسخ في دمشق متاحة لكاتب هذه الأسطر. واقترنت بعض المقتطفات على تعليقات وشروح والتعريف بكتابها، والغرض من ذلك إلقاء الأضواء على تراثنا الحديث.

                                   (1)

جاء في افتتاحية العدد الأول بقلم الزيات: "... أما مبدأ الرسالة فربط القديم بالحديث، ووصل الشرق بالغرب. فبربطها القديم بالحديث تضع الأساس لمن انهار بناؤه على الرمل، وتقيم الدّرج لمن استحال رقيه بالطفور.. وبوصلها الشرق بالغرب تساعد على وجدان الحلقة التي ينشدها صديقنا أحمد أمين في مقاله القيّم بهذا العدد... فإن اعتمادها على الأدباء البارعين والكتاب النابهين في مصر والشرق العربي... فإلى أبناء النيل وبردى والرافدين نتقدم بهذه الرسالة الفكرية لتوثيق الروابط الفكرية وتوحيد الثقافة العربية".

                                  (2)

افتتاحية  مجلة الرسالة في عددها الثامن عشر الصادر في 18 أكتوبر 1933، جاءت بعنوان: "فرعونيون وعرب". ومما كتبه صاحبها الزيات، الجمل المعبّرة التالية:

" ... إنما تتفاضل الأمم بما قدمت للخليقة من خير، وتتفاوت الأعمال ما أجْدت على الإنسان من نفع  ... وبعد فإن ثقافتنا الحديثة إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي أدبها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية الخالصة. أما ثقافة (البردى) فليس يربطه بمصر رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط  ..."

                             (3)

 افتتاحية الرسالة في 20 نوفمبر 1933 كتبها اأاستاذ محمد فريد وجدي بعنوان: "كيف نحافظ على وجودنا الاقتصادي"، جاء فيها: "... وأول ما يجب أن ندرسه من مسائلنا الخاصة هو أن نعرف هل ثروتنا العامة التي تثمرها أرضنا وأيدي عمالنا تكفينا الحاجة أم لا؟ وهل يتسرب منها شيء إلى الخارج، كان يجب أن يبقى لدينا أم لا؟ ... فليحرص كل منّا على القيام بواجبه من التعويل على مصنوعات بلاده وترويجها بكل ما أوتي من قوّة... لأننا لا نستطيع أن نحافظ على كيان بلادنا في معمعان هذه الأزمة العالمية الصاخبة إلا بهذه الوسيلة".

محمد فريد وجدي (1878 - 1954) كاتب إسلامي مصري الجنسية من أصول شركسية ولد في مدينة الإسكندرية بمصر سنة 1878 وتوفي بالقاهرة سنة 1954. عمل على تحرير مجلة الأزهر لسنوات عديدة. واتصفت مؤلفاته بالطابع الديني والوثائقي. ومن أهمها: "كنز العلوم واللغة" ، "دائرة معارف القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي" وتقع في عشرة مجلدات، "صفوة العرفان في تفسير القرآن" ، "السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة"، "الإسلام دين عام خالد". كما تصدى كغيره من المحافظين بالنقد العنيف لكتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين. ومن المرجح أن صفحات مجلة الرسالة تناولت المعركة الفكرية الدائرة حول كتاب الشعر الجاهلي.   

مما كتبه طه حسين عن الشعر الجاهلي الفقرة التالية: "لكنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي، وألححت في الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي".

 أثار كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" معارضة شديدة لأنه قدّم أسلوباً نقدياً جديداً للغة العربية وآدابها يخالف الأسلوب النقدى القديم المتوارث. هذه المعارضة قادها رجال الأزهر، واتهم طه حسين في إيمانه، وسُحِب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه. وقامت وزارة إسماعيل صدقي باشا عام 1932 بفصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب. فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلى منصبه إلا عندما تقلد حزب الوفد الحكم عام 1936.

 ومن أبرز المعارضين لما ورد في " كتاب الشعر الجاهلي":

مصطفى صادق الرافعي، في كتابه تحت راية القرآن، محمد لطفي جمعة في كتابه الشهاب الراصد، شيخ الأزهر محمد الخضر حسين في كتاب نقض كتاب في الشعر الجاهلي، وصاحب افتتاحية مجلة الرسالة المنوّه عنها محمد فريد وجدي، في كتابه نقض كتاب في الشعر الجاهلي.

ومن المدافعين حديثا برزانة عن طه حسين محمود أمين العالم في مقالته بعنوان: "الدلالة الفكرية لكتاب"  في الشعر الجاهلي لطه حسين "نقلا عن كتابه" مواقف نقدية من التراث الصادرفي القاهرة 1997. كتب العالم:

"... إن في الشعر الجاهلي (لطه حسين) ليس مجرد كتاب في التاريخ الأدبي ومنهج دراسته ، وإنما هو كتاب تاريخي في النقد الفكري يشكل معركة معرفية وسياسية واجتماعية ما تزال متصلة محتدمة متجددة حتى اليوم في ثقافتنا العربية في ظل الأوضاع المتردية الراهنة، وإن انتسبت هذه المعركة إلى مجالات مختلفة كالدراسات الدينية التراثية والعلاقة بين الدين والسلطة السياسية والإبداع الروائي والفكري... إن كتاب في الشعر الجاهلي أسس ويؤسس ويواصل تأسيسه لمرحلة فكرية نقدية جديدة في تاريخنا الثقافي العربي المعاصر...". 

                                (4)

"الصناعة عنوان الحضارة مقالة للدكتور عبد الرحمن شهبندر في العدد 20 من مجلة الرسالة الصادرة في 20 نوفمبر 1933. كتب الشهبندر:

"... إن نهضة مصر هي مثل النهضة الصناعية في الأقطار العربية الشقيقة تدل على تغيّر جوهري في الذهنية العامة وشعور بالحاجة إلى الاستقلال والاعتماد على النفس. وهذا الشعور هو ركن عظيم من أركان الإنقلاب السياسي المنشود، لأن الحاجة تفتق الذهن وهي أم الاختراع".

                                ***

عبد الرحمن شهبندر طبيب سوري خريج الجامعة الأميركية في بيروت. وبعد عودته إلى مسقط رأسه دمشق عمل في الميدان الطبي ونشط في الحركة الإصلاحية الناشئة في دمشق وأصبح من قادة الحركة الوطنية في بلاد الشام، وقبل أن يتمكن والي دمشق جمال باشا الملقب بالسفاح  من اعتقاله وسوقة إلى حبل المشنقة كغيره من الوطنيين في دمشق وبيروت هرب عام 1916 من وجهه عبر البادية والتجأ إلى مصر. وكان أيام النضال ضد الانتداب الفرنسي الزعيم الفكري للثورة الوطنية السورية (1925 – 1926). وبعد انتهاء الثورة حكمت عليه سلطات الاستعمار الفرنسي بالإعدام فالتجأ إلى مصر ومارس مهنة الطب هناك مع مترافقة بنشاط سياسيّ وفكريّ بارز. وكان من كتاب مجلة المقتطف وكذلك مجلة الرسالة، التي نشرت له مقالة اقتطفنا منها الفقرة المذكورة أعلاه. ولكاتب هذه الأسطر مؤلف صادر في دمشق عام 1988 تحت عنوان: "عبد الرحمن الشهبندر علم نهضوي ورجل الوطنية والتحرر الفكري ".

                              (5)

اختفى من أرشيفنا زمن نشر مقالة في مجلة الرسالة بعنوان "حركات الشباب" لسلامة موسى تناول فيها بعض النشاطات المدنية: "جمعية المصري للمصري ، مشروع القرش، جمعية الاستقلال الإقتصادي، يوم عيد الوطن الاقتصادي".

                             ***

وسلامة موسى من أوائل دعاة  الاشتراكية (الفابية) في مصر. ومن الرموز الفكرية البارزة في مصر، وأثارت كتاباته جدلا بين مؤيديه ومعارضيه. وهو مسيحي قبطي المولد، ولكنه نهج في حياته الخصبة العطاء نهجا لا علاقة له بالدين. والقصد من الإشارة إلى "قبطية سلامة مولدا" تأكيد ما ذكرناه سابقا حول موقع مجلة الرسالة في صحافة عصر النهضة، إذ فتحت صدرها لجميع الكتاب، في وقت كانت الليبرالية تعيش أزهى أيامها.

                            ***

وختاما لا بد من الإشارة مجددا إلى دور مجلة الرسالة الوطني الجامع لكل مكونات، ونهجها الليبرالي المنفتح على كل الاتجاهات. لقد كانت مجلة الرسالة صفحة ناصعة في جبين تراثنا الحديث . وصاحبها أحمد حسن الزيات هو ثمرة من الثمار اليانعة للتراث النهضوي العربي التنويري في الربع الثاني من القرن العشرين. وكان إغلاق مجلة الرسالة مؤشرا على ضمور الخط الفكري الليبرالي، الذي شكّل نكسة لتطور النهوض العربي، لا نزال نعاني من ذيول خفوت وهج الليبرالية في السير قدما في ركب الحضارة.