Print
محمود عبد الغني

العمل والسعادة

29 سبتمبر 2019
آراء

مفارقات سيّد التقنية
إذا حلم أغلبنا بحياة كلها عبادة أو عمل، فقليلون بيننا لن يتحمّلوا كابوس الكسل والملل والرتابة. ذلك لأن الحياة، كما يؤكّد أغلب الفلاسفة، تتطلّب اتخاذ قرارات وخوض التزامات شجاعة، ليس فقط تجاه قوانين المجتمع بل تجاه الذات أيضاً.
لكن يبقى من الضروري طرح هذا السؤال: هل يخلق العمل السعادة؟ هل إدمان العمل يجعل من الإنسان كائناً سعيداً؟ هذا سؤال من الأسئلة التي لا يمكن التفكير فيها بسهولة.
وهناك سؤال آخر، يجاور الأول: هل عدم العمل يخلق السعادة؟ الجواب التلقائي هو: نعم، بكل تأكيد، عدم العمل هو مصدر من مصادر السعادة. فلا شيء أفضل من الاستيقاظ متأخراً، ومن القيلولة الهادئة، والتسكّع طوال ما بعد الظهيرة. إن كل ساعات اليوم تستحق أن يستغلها السعداء في هذه "الأنشطة" الغريبة، في التسكع والنوم، والنزهات، والأحاديث مع الآخرين، في كل مكان، وفي كل وقت.
يؤكّد الروائي الفرنسي ألكسندر لاكروا، صاحب رواية "الرجل الذي يحب العمل كثيراً" (فلاماريون، 2015)، أن وحدهم أصحاب الأمزجة المتوترة، الذين يرتبطون بنظام الإنتاج، لا يستطيعون تخيّل "رفاه ألا يفعلوا أي شيء". إن الوجود لا يمنح ملذاته وطيّبات أموره إلا للذين يكونون على أتمّ استعداد للقيام بأي شيء.
ربما تجيب رواية لاكروا عن الرجل الذي يعمل بدون توقّف. فهو يشغل منصب مدير سلسلة شركات كبرى لصناعة البسكويت. نسي أن هناك حياة أخرى يمكن أن تُعاش. يظل يتأرجح بين الاجتماعات التجارية، وإجراء الاتصالات عبر الهاتف، والمناورات الخبيثة لرئيسه في العمل. لكنه رغم ذلك يتباهى بتسييره لعمله بكفاءة عالية. داخل هذه الوضعية تبرز المفارقة بين التزامه المتفاني بعمله، وبين بُعد السخرية في هذا العمل: بيع أكبر عدد من البسكويت لأكبر عدد من الزبائن. لكنه يستمر في ذلك، إلى أن جاءت حبّة رمل وعلقت بالآلة التي كانت تعمل جيّداً. وهذا ما يعيد إلى أذهاننا مفهوم برغسون للإنسان سيد التقنية "الإنسان البنّاء"، مثلما يعيدنا إلى فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن.
 

لكن رغم كل شيء، فإن الجواب أعلاه: "أنا لا أعمل، إذاً أنا سعيد"، لا يصمد كثيراً أمام الملاحظة. فقط يكفي أن ننظر إلى نمط العيش بجوارنا وحولنا، لنتأمل هذا النمط عند الأصدقاء وزملاء العمل، رجالاً ونساء: إنهم يبذلون طاقة كبيرة لكي يشغلوا وقتهم الحر. سنرى هذا يمارس رياضة الركض في أصباح الآحاد، وآخر يذهب إلى المسبح في منتصف الأسبوع (تحدّث ألكسندر لاكروا عمن يتوجهون إلى المسبح في فرنسا مباشرة بعد تناول الغداء)، وهناك من ينخرط في نوادي اليوغا، علماً أن كل هؤلاء يخططون دون توقف لما سيقومون به في عطل نهايات الأسبوع، والعطل السنوية. هذا دون ذكر نماذج الأشخاص الذين بلغوا سنّ الأربعين ويشتغلون ستين ساعة في الأسبوع. وأي واحد لم يبلغ هذه الحدود، عليه مغادرة حفرة الفراغ حالاً.


بليز باسكال: كل مشاكل الناس لها مصدر واحد
"كل مشاكل الناس لها مصدر واحد، ذلك أنهم لا يعرفون البقاء داخل غرفة دون القيام بأي شيء"، يقول الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، في أضمومة أوراق ضمن عمله "أفكار" المخصصة للترفيه. وقد بقي هذا التحذير شهيراً ومنتشراً وساري المفعول، بل وقدّم مفتاحاً سيكولوجياً مناسباً طيلة القرن السابع عشر إلى اليوم: البشر لا يحتملون كثيراً الكسل الدائم. لقد قام الفيلسوف بمطاردة الوهم الذي يقيم داخلنا: إننا حين نمارس نشاطاً ما، أو نسعى نحو مكانة معينة، نعتقد أننا نذهب نحو هدف ما، دون أن نفكّر لحظة واحدة في أن نطارد عملية الصيد نفسها، وليست الطريدة.
لقد ظل باسكال يرسم الإنسان بوصفه يسعى دوماً نحو الصخب: "هكذا تنساب الحياة بكاملها، نبحث عن الراحة ونحن نحارب بعض العوائق. وحين نتجاوزها، تتحوّل الراحة إلى غير محتملة بسبب الملل الذي تحدثه. فوجب الخروج للسعي وراء الصخب".


إميل تارديو: طريقتان للإخفاق في الحياة
يحيل ألكسندر لاكروا إلى كاتب يكاد يكون منسياً هو إميل تارديو، الذي نشر سنة 1903 كتاباً مهماً عنوانه "دراسة نفسية للملل". وقد تحدّث عن طريقتين رئيسيتين للإخفاق في الحياة. الأولى هي تكريس الوجود الداخلي للوجود الخارجي. وقد يكون هذا التكريس من أجل مكانة اجتماعية نافذة، والذهاب رأساً نحو التتويج المليء بالحظوة، لكن يتم، بالعكس من ذلك،

التضحية بالأنا الحميمية، التي يتمّ تقليصها لصالح تعظيم الإنسان الخارجي؛ المنكمش داخل طموحاته المشروعة أو الوهمية. فتبدأ الـ"أنا" المختبئة في الاحتجاج، وروحنا تعاني من جرح، ويظهر لنا أن حياتنا الداخلية تنحدر نحو الإخفاق.
يقوم إميل تارديو بتأمل اللوحة المعاكسة الأكثر جاذبية، فيطرح عدة أسئلة حول نمط عيش الأشخاص الراضين بوظيفتهم الاجتماعية. إن هؤلاء يبحثون دوماً عن التعويض في جانب العواطف السهلة، فيرتمون في أحضان الأحاسيس: الحب، الصداقة، حنان العائلة، وكذا في المجال الرائع الذي تسوده الخطابات العامة والأفعال الأقل أهمية. لكن، يا للأسف، حتى في هذه المجالات يتربّص الملل. ولا يفوت إ. تارديو أن يذكّر بأن هذا الأمر حدث لنا جميعاً، في هذه اللحظة أو تلك. فحتى في اللقاءات الجنسية يمكن أن يصطادنا الملل، وحتى في الفردوس ينبغي أن تصحب معك "ليكسوميل"، الدواء المزيل للاكتئاب، يقول تارديو.

هل هناك سعادة بدون عمل؟
لا يمكن أن نكون سعداء دون أن نعمل إلا في حالة واحدة نهرب فيها بسرعة من الملل، ونتحرّر من ذلك التعاقب المضرّ بين الراحة والترفيه. ذلك يتطلّب تكسير العادات التي تعودنا عليها منذ ذلك الزمن الذين أمسكونا فيه من يدنا نحو المدرسة. قال أرسطو إن الذي يستطيع أن يعيش خارج المدينة هو شخص منحطّ أو غير طبيعي، حيوان أو إله. والحال، أن مجتمعاتنا مؤسّسة كليّاً حول العمل. ومن ثمّ فالبطالة أو الركود هما مفهومان سلبيان، يدلان على غياب العمل. والذين يملكون دخلاً يُنظر إليهم بحسد، وفي أحيان كثيرة مثل طفيليات. وعطلة نهاية الأسبوع لا معنى لها إلا باعتبارها مكافأة على أسبوع من العمل. أما التقاعد، فهو يوم أحد الحياة النشيطة. إن عدم العمل، معناه مغادرة هذا التوزيع؛ إنه التيه دون هدف في الشوارع صباح يوم الاثنين، إلى أن يفاجئك الصيف، وأنت ناسٍ تماماً أن العطلة السنوية قد حلّت.