Print
بوعلام رمضاني

صدمة غلق "مكتبة ابن سينا" في باريس

24 سبتمبر 2019
آراء
فجعت يوم السبت الأخير قبل وصولي الى محطة ميترو جوسيو، التي تقابل جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة الواقعة في الحي الثقافي الشهير، بخبر غلق "مكتبة ابن سينا" التي تعودت على دخولها أوتوماتيكياً كلما توجهت إلى حضور نشاط ثقافي في معهد العالم العربي، وصعقت بالخبر المذكور مؤخراً بعد تغطيتي ندوة حول رواية "شارع العفو" للفنان التشكيلي والنحات والروائي المغربي ماحي بن بين والتي سنعود إليها بعد مرور وقع صدمة غلق مكتبة كان يشرف عليها اللبناني هشام. أغلقت هذه المكتبة التي كنت أقتني منها بعض الكتب دون غيرها بسبب غلاء الكثير من عناوينها الجيدة، لا بسبب احتمال تحولها إلى محل لبيع الملابس والسندويشات كما حدث في الجزائر خلال الأعوام الأخيرة، ولكن لتحويلها الفعلي إلى محل لحفظ وبيع الخمور العتيقة بجانب الحانة اللصيقة بها، ولا أقول هذا الكلام من منطلق ديني قد يقفز في أذهان حراس القيم الذين يطالبون بحرية التدين على طريقتهم في الوقت نفسه، ولكن للتعبير عن ألم دفين يتأتى من التواجد البائس للجالية العربية في فرنسا بوجه عام وفي باريس بوجه خاص.


ما
هي المكتبة القادمة؟

فزعت وذهلت مساء يوم السبت الماضي لأنني أعرف أن المصير الذي عرفته "مكتبة ابن سينا" قد يطال مكتبات عربية أخرى قريبة من معهد العالم العربي ومن مسجد باريس في قلب الحي الفكري والجامعي الذي كان يتردد عليه فرنسوا ميتران، الرئيس الراحل الذي كان يقرأ بشغف ويفاجئ أصحاب المكتبات بزيارات تاريخية. وأخشى على المكتبات القليلة المحيطة بمعهد العالم العربي وبمسجد باريس لأنني أعرف أن معظم المهاجرين غير معنيين بكل ما يمت بصلة للفكر في ظل ظروف معيشتهم التي تتزايد قساوة مع موجة الغلاء العام الذي يضرب بلد حقوق الإنسان والفقر المتزايد. وليست الوضعية الاقتصادية الصعبة التي ولدت مفهوم العامل الفقير وأعادت السترات الصُفر بقوة هذا الأسبوع إلى شوارع باريس، إلا دليلاً خطراً داهماً من شأنه أن يعمق الشرخ الرهيب الذي يفصل بين جالية مهاجرة محدودة الإمكانات المالية والمادية وبين الحاجة الفكرية التي يضمنها الكتاب بشكله التقليدي مهما قيل عن تأثير وسائط ثقافية حديثة فجرتها ثورة تكنولوجيا الاتصالات. شخصيا أعرف الكثير من المهاجرين الذين لا يهمهم الشأن الثقافي حتى وإن كان حضور بعض التظاهرات مجانياً أو يكلف مبالغ زهيدة، وتنقل مهاجرين يسكنون غالبا الضواحي بسبب غلاء الإيجار في باريس يتركهم يفكرون في تكلفة النقل والساندويتش، أما الكتاب الجيد الذي قد يكلفهم عشرين يورو فلا يمكن أن يشتروه في كل الأحوال.

رمزية الحضور
قد يرد البعض عليّ متعجبين لمعنى الصدمة التي أصبت بها - وأنا واقف قبالة "مكتبة ابن سينا" مغلقة وحاملة إعلان تحولها إلى محل خمور - بقولهم ان التعجب يبطل وغير وارد ما دام الإقبال على الكتاب في أوساط المهاجرين لم يكن اهتماما في حياتهم اليومية فلماذا التعبير عن الأسى والحزن من مصير كان منتظرا؟ بالفعل تلك هي الحقيقة ولكن غلق مكتبة بوجه عام أمر مفجع لمن يعرف قيمة القراءة في حياة الإنسان، ويصبح الأمر مفجعا أكثر حينما تغلق مكتبة عربية كانت ترمز إلى حضور لا يمت بصلة للإرهاب، وإلى شخصية علمية عربية ما زالت حاضرة بثقلها الحضاري في زمن تحول فيه العرب إلى تابعين في المجال الطبي وفي كل المجالات العلمية والفكرية بوجه عام. أغلقت "مكتبة ابن سينا" التي كانت تقابل بشموخها الرمزي جامعة جوسيو، وأخشى أن يكون مصير المكتبة العربية الأخرى التي تبعد عن معهد العالم العربي بأمتار قليلة- والتي نسيت اسمها في هذه اللحظة - نفس مصير المكتبة العربية التي سأشتاق إليها.
عدت قبل عدة أيام من لندن بعد زيارة مكنتني من مقابلة الأستاذ حسام كنفاني الودود، ومن المشاركة في برنامج تلفزيوني يقدمه الدكتور والكاتب الصحافي محمد قواص الذي قال لي ونحن نتحدث عن أحوال باريس: "لندن تتقدم وباريس تتراجع". وفهمت صحة كلامه أكثر وأنا أرثي غلق "مكتبة ابن سينا" صامتا في ميترو باريس أثناء عودتي إلى بيتي!