Print
مها حسن

بوحي من فيلم "عيد الأمهات": إشكالية الأمومة

13 أغسطس 2019
آراء
هل تستحق الأم يوماً خاصاً للاحتفاء بها؟ ولماذا؟ وماذا لو ألغينا هذا اليوم، إذا كانت مؤسِسته ذاتها قد تراجعت عن فكرتها، وطالبت بإلغائه؟
تشرح ناتالي (أوليفيا كوت)، الأستاذة الجامعية في مجال الفن، الكثير عن الأميركية آنا جارفيس، مبتكرة فكرة عيد الأم، وتتحدث مطولاً عن اللوحة الشهيرة، للفنان جيمس أبوت ماكنيل ويسلر، والتي تُعرف باسم (صورة لأم الفنان)، التي اشتهرت لاحقاً عى شكل طابع بريدي انتشر في عام 1934، ليعبّر عن يوم الأم.
تسأل ناتالي طلابها: هل تعرفون لماذا طالبت آنا جارفيس بالمطالبة بإلغاء العيد؟ يجيبها طالب لديها، حسب الصورة المألوفة عن المرأة: لأنها لا تعرف ما تريد! تقول ناتالي: بل لأنها تعرف تماماً.. إذ تم استخدام هذا اليوم لأغراض تجارية.
ناضلت آنا جارفيس لتأسيس يوم خاص بالأمهات، وكانت تردد عبارة أمها: في وقت ما، وفي مكان ما، سينادي شخص ما بفكرة الاحتفال بعيد الأم. وبعد وفاة والدتها، قررت آنا أن تكون ذلك الشخص الذي يجعل رغبة أمها حقيقة واقعية. قامت جارفيس بحملات مكثفة، وألقت خطابات في كل ثاني أحد في شهر أيار/ مايو، حتى تم الاعتراف رسمياً بهذا العيد، وأقرّه الرئيس ويلسون في الولايات المتحدة الأميركية عام 1914.
شارحة تاريخ نضال آنا جارفيس، وتطورات تحوّل هذا النضال إلى مناسبة تجارية، حاولت ناتالي التهكّم دائماً من فكرة العيد والأمومة معاً، غير مخفية رفضها ومعاداتها للأمومة، فهي تكره إلى حد مرضي فكرة الأمومة، لتقوم باستفزاز من حولها، فمثلاً تُخرج ثديها في المطعم على الملأ، أسوة بسيدة أخرجت ثديها لترضع طفلها. وألقت ناتالي ما يشبه البيان الغاضب مستنكرة منح الأمهات أنفسهن حق امتلاك الشارع وأي مكان، حين يخرجن أثداءهن ليرضعن أطفالهن.
لناتالي أم مصابة بالخرف، تفقد ذاكرتها، وتسير حافية في الشوارع. ولها أختان، طبيبة أطفال، تحلم بالإنجاب، رغم أنها تسمع تذمر الأمهات اللاتي تعالج أبناءهن، إلى درجة أن إحدى
السيدات تفقد أعصابها أمامها منهارة بالبكاء: يأخذون كل حياتي، لا أستطيع أن أعيش.. كل شيء لهم هم.
أما الأخت الثانية، (كلوديت كورو في دور دفنيه) فهي صحافية مشهورة، وهي أيضاً تعاني من (إشكالية الأمومة)، حيث وبسبب انشغالها في العمل، توكل مهمة الاعتناء بابنتها المراهقة وابنها لمربية، فتثير كراهية ابنتها التي تحب المربية أكثر من أمها، وتعاني من التفاهم مع ولديها المتمردين عليها.
هكذا يأتي فيلم (عيد الأمهات) الفرنسي، مقدماً عيّنات من نساء: أمهات لديهن أولاد، نساء حالمات بالأمومة، نساء رافضات للأمومة، نساء خائفات من الأمومة.
فشخصية (آن) رئيسة الجمهورية (أودري فلورت) تعاني من أعراض (بيبي بلوز) أو اكتئاب ما بعد الولادة. رئيسة جمهورية، تقطع اجتماعاً هاماً، لأن معاونها يهمس لها، فتنهض معتذرة، وتتجه إلى غرفة مجاورة، لتغيّر "حفاض" طفلها. وهي منهمكة في تنظيف مؤخرة الصغير، ترد على الهاتف الذي يمسك به معاونها، لأن يديها مشغولتان بتلك المؤخرة.


لا يمكننا أن نكون
أمهات كاملات
تحاول آن الجمع بين عملها الحساس والدقيق وبين أمومتها، تذهب إلى أمها لتشكي لها همها، لتقول لها الأم: إن أول ما فعلته حين أفقت من النوم بعد إنجابك، أنني طلبت وجبة الطعام، لم أطلب رؤيتك! وتشرح لها أننا لا يمكننا أن نكون أمهات كاملات، ولكن صغارنا يحتاجوننا نحن بالذات أكثر من أي شخص آخر، يعرفون رائحة الأمهات وملمس جلدهن.
تخفف الأم من قلق آن من أن لا تكون أماً على قدر المسؤولية، بقدر مسؤوليتها عن رئاسة

الجمهورية. تتقاسم ذلك القلق من أمومة غير تامة الصحافية دفنيه، التي تحاورها في يوم عيد الأم، في بث مباشر يحضره أغلب أبناء البلد، وخاصة النساء. تسألها دفنيه: ماذا غيّرت فيك الأمومة كرئيسة؟ فتجيب آن بأنها أصبحت مختلفة، هذا لا يعني أنها أصبحت أفضل، لكنها اختلفت، وحين تُسأل عن "أي أم هي؟"، تجيب: أم متمرنة، أتدرب على الأمومة.
في الفيلم نماذج متعددة، لنساء أخريات، بين بائعة هوى أجنبية تتأمل أطفال الأخريات بشغف، وتتحدث إلى ابنها المقيم في بلدها الأصلي، حيث تعمل لتعيله، وبائعة الزهور التي تحمل دون قصد وتخشى من حملها، و"بلانش" التي تذهب لتشتري الزهور، من أجل جنازة أمها التي لم تمت، متدرّبة على موت أمها، تحضر جنازات الأخريات لتهيئ نفسها لهذه اللحظة، بينما تقطن أمها غير بعيدة عنها، لكنها لا تتحدث معها، لأن ابنتها نادت أمها، أي جدتها، بماما. وقطعت الأم علاقتها بأمها فقط لأنها خافت أن تأخذ مكانها عند ابنتها.
عبر ساعة وثلاث وأربعين دقيقة، تحاول ماري كاستيل مونسيون شار، كاتبة السيناريو ومخرجة الفيلم، تقديم نماذج متعددة، وآراء مختلفة، حول الأمومة، في فيلمها المُنتج في العام الفائت، وهي نفسها صاحبة فيلم "الورثة"، والفيلم اللافت "السماء ستنتظر" الذي عالج مشكلة تجنيد الفتيات الفرنسيات من قِبل تنظيم داعش.
حاول فيلم (عيد الأمهات) أن ينتهي بطريقة تصالحية غير مقنعة، حين ترقص ناتالي مع طالبها، الذي تكون على علاقة به، ويحلم أن ينجب منها طفلاً، وكأنها فجأة، ونتيجة خطاب رئيسة الجمهورية العاطفي عن الأمومة، بدأت تتخفّف من تشنجها ضد فكرة الإنجاب.
ربما مالت كاتبة السيناريو والمخرجة إلى الرغبة العامة السائدة في تقديس الأمومة، بطريقة رومانسية، بددت الكثير من عناد شخوصها طيلة الفيلم، لتأتي الخاتمة أقرب إلى إرضاء الذائقة العامة.



عن الأمومة وأشباحها
لكن فكرة الفيلم، التي طرحت التساؤلات التي وردت في بداية هذه المادة، حول معنى هذا العيد، وضرورة إلغائه، والتخوّف من الوقوع في أفكار نمطية جمعية، يصعب فيها لنساء معارضات للأمومة، أو لرجال، التعبير عن مواقفهم بحريّة، تجعلني أعود إلى كتاب مهم باللغة العربية، صدر قبل ثلاث سنوات، أي قبل هذا الفيلم الفرنسي بسنتين، عن سلسلة بعنوان "كيف ت" وهو كتاب: "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" للشاعرة المصرية إيمان مرسال.
عن الأمومة والعنف، عن صورة الأم (الأمومة والفوتوغرافيا)، عن يومياتها كأم، وعن "حواديتها" في "كيف تمشي في طريق الحداد"، تتحدث إيمان جامعة بين القسم النظري البحثي بوصفها أستاذة جامعية، وبين القسم الإبداعي، بوصفها شاعرة تتطرّق إلى "الحواديت"، إضافة إلى الدور المركزي الذي تسلط عليه إيمان الضوء بجسارة، بوصفها أماً لصبيين.
يبدأ كتاب إيمان بمقطع شعري لقصيدة للشاعرة البولونية أنّا سوير، يصف الصراع بين الأم ومولودها بوصفه (إنه ليس صراع ملكية ولا جندر ولا أجيال، بل في ربطه بالولادة كعملية

بيولوجية يشترك فيها كائن عاش وتكوّن وقام باختيارات ما تخص وجوده قبل لحظة الولادة. وهذا الصغير، الدمية الذي خرج للحياة من أحشاء الكائن الأول لتوه. ص 7).
تتحدث إيمان عن هذا الشرخ، شرخ الأمومة الذي يبدأ من الداخل (ترفض أن تكون الأم بيضة يشرخها المولود في طريقه إحيائه. هنا يكمن رعب التهديد وجدّيته، لحظة ولادة شخص جديد تتطلب موت كائن آخر. ص 9).
عبر الشعر، عبر السرد، عبر خطابات النسوية، تفكك إيمان الأفكار النمطية السائدة عن الأمومة، لتقول كلاماً لم يُقل من قبل بهذه الشجاعة، والاعتراف بالشروخ التي تحدثها الأمومة.
لكن إيمان لا تطرح إجابات خالصة، فهي شاعرة تنتمي إلى القلق، أكثر منها باحثة تذهب إلى اليقين أو الاستنتاج القاطع. لهذا تختم كتابها بجملة كتبها ابنها يوسف، معبّراً عن أجمل لحظات حياته (أن تجلس ماما في الطرقة بين غرفتي وغرفة أخي وتغني لنا "توينكل توينكل" بذلك الإيقاع الخطأ).
(من أجل أن أفهم يوسف ولو قليلاً، ألّفت هذا الكتاب)- هكذا جاءت آخر جملة في كتاب إيمان، لتعود بالقارئ إلى البدء، في علاقة شديدة التعقيد، هذا الحب والارتباط، وهذا الخوف من الآخر، الذي هو جزء منك، لكنه ليس أنت.
لا تزال الأمومة غالباً، مفهوماً إشكالياً، يتطلب الحديث عنها شجاعة مواجهة الأبناء، دون إحساس بالذنب، بمحاولة لقطع الحبل السري السابق، الذي لا يعني قطعاً في العلاقة، كما تمكنت مرسال من تحقيق هذه المعادلة الصعبة: أن لا تكون الأم دمية تتنازل عن كينونتها وعن باقي صفاتها كامرأة أو كاتبة أو فنانة أو ما تحمله من أوصاف، لتنسفها جميعاً بسبب الأمومة، وألا يكون الأبناء أيضاً دمى بالنسبة لأمهاتهم.
ربما لا يزال العالم الهادئ المستكين لأفكار ثابتة بحاجة إلى المزيد من الأفلام والأبحاث والشهادات، لتفكيك إشكالية الأمومة، خاصة في عصرنا المحتشد بالتوق إلى الفردية وتحقيق الذات، من قِبل الطرفين: الأبناء والأمهات، لنتخلص من أشباح الأمومة، بوصفها سلطة أو لعبة أو أداة امتلاك، أو حتى بوصفها واجباً تقتضي القواعد الجمعية الامتثال له.