Print
سارة عابدين

تحولات الفن.. من مسار حضاري إلى سلعة للأغنياء

10 أغسطس 2019
آراء
لعل واحدة من أكثر الانتقادات التي توجه إلى الرأسمالية العالمية أنها تدمر الثقافة التقليدية الفردية، وتحول الفن إلى سلعة وجزء من اقتصادات السوق التنافسية، بينما هو في الحقيقة مسار طويل من محاولات البناء الحضاري والتعبير الثقافي والاجتماعي. وأصبح تأثير الرأسمالية أكثر عمقاً وقوة في الفن خاصة بعد ظهور سماسرة الفنون ودورهم الكبير في رفع أسعار الأعمال الفنية تبعاً لأذواق الجماهير التي يحددها مفهوم القيمة، والذي يعتبر موضع نزاع في العديد من الأعمال الفنية، وهنا يظهر سؤال جدلي كبير، وهو: كيف يتم تحديد قيمة العمل الفني؟ هل عن طريق المال، السلطة، الجمال، التجديد، الفكرة، الأصالة.
بدأ التعامل مع الفن كتجارة في منتصف ستينيات القرن الفائت، ولم يكن هناك سوى عدد قليل من الفنانين الأحياء الذين ظهرت أعمالهم بانتظام في سوق الفن الجديدة. وكانت السيطرة الأكبر لفناني أوروبا مثل بيكاسو، خوان ميرو، مارك شاغال، سلفادور دالي، بالإضافة إلى عدد قليل من فناني أميركا، ومن هنا بدأ البحث في طرق لتقدير قيمة الأعمال الفنية، إذ يمكن أن تكون
القيمة نقدية أو عاطفية، أو طقسية أو تاريخية، أو جمالية، فالأمر هنا متغير وغير محدد ومنفتح على تفسيرات لا تنتهي.
تتكوّن سوق الفن في كل دولة من قبل مجموعة صغيرة من الأثرياء هواة جمع الأعمال الفنية، بالإضافة إلى أصحاب قاعات العرض الرئيسية، وهم الذين يتحكمون بجزء كبير من بورصة الفنون. وتتكوّن دائرة بيع الأعمال الفنية حين يستمر الفنانون في عرض أعمالهم في عروض جماعية مع فنانين ناشئين آخرين، وإذا تم بيع أعمالهم بشكل جيد يبدأون في إقامة المعارض الفردية، وهنا تبدأ حياتهم المهنية كفنانين. إذاً يمكن القول إن سوق الأعمال الفنية هي آلة تسويق جماعية كبيرة، وبعد متابعة إشارات جودة العمل الفني يبدأ المتحكمون في ذلك السوق في الاتفاق على ترتيب الفنانين تسويقيا، بمعنى آخر السبب في بيع بعض أعمال الفنانين بأرقام ضخمة هو وجود إجماع على أن تلك الأعمال تستحق تلك المبالغ، وهنا يتحول الفن من طريقة للتعبير، أو مسار لصنع الحضارة وترسيخ الثقافة، إلى استثمار، ويختار المستثمرون القطع التي يعتقدون بارتفاع قيمتها فيما بعد، ليتحول الفن إلى ما يشبه سلعة فاخرة في بيوت وقاعات الأثرياء.


كيف يتم تحديد سعر اللوحات
يعتبر الفنان أهم عوامل تحديد سعر اللوحات، فعندما يتم تصنيف الفنان بأنه من فناني الصف الأول، تبدأ أسعار لوحاته في الارتفاع، ويتحدد حد أدنى لا تقل أسعار لوحاته عنه أبداً. بالإضافة إلى ذلك يعتمد سعر اللوحة أيضاً على الفترة الزمنية التي أنتجت خلالها، أي أنه كلما كانت اللوحة أقدم أو تنتمي إلى فترة فنية قديمة، يرتفع سعرها جداً بالمقارنة باللوحات الفنية في العصر الحديث.
حجم اللوحة أيضا يُعدّ واحداً من طرق تقييمها مادياً، إذ كلما زاد حجم العمل ارتفع سعره، لكن في الوقت نفسه يصعب بيعه للجمهور العادي، وتصبح ميزته هي عيبه الأكبر. الخامة أيضاً هي أحد عوامل تقييم العمل الفني، فالأعمال الفنية المرسومة بخامات مثل ألوان الزيت والأكريليك على القماش أعلى قيمة من الأعمال الفنية المرسومة على الورق، نظراً لهشاشة الورق، وقوة تحمل القماش ومقاومته الأكبر للوقت والعوامل الجوية المختلفة، لكن تبقى هناك استثناءات لفنانين كبار استمروا في استخدام الورق في أغلب مسيرتهم الفنية مثل الأميركية ماري كاسات والمصري عدلي رزق الله. بالإضافة إلى ما سبق هناك قاعدة أساسية في سوق الفن، وهي أن الأعمال الملونة سواء كانت ألوانا زيتية أو مائية أو أقلاما ملونة تكون أعلى قيمة من الأعمال أحادية اللون مثل الغرافيت والفحم وطباعة المونوكروم.
يرتبط أسلوب الفنان وأسعار لوحاته ارتباطا وثيقا، ولكن هذا السبب لا يمكن تعميمه، إذ أن السوق تختلف من بلد لآخر ومن ثقافة لأخرى، وما هو مطلوب اليوم يمكن أن يتراجع غدا. لذلك يتوجب على الأشخاص المهتمين بالاستثمارات الفنية أن يكونوا متابعين جيدين لأذواق

الجماهير، وتغيرات السوق، لكنهم في أوقات كثيرة يقومون بتوجيه أذواق الجماهير بشكل غير مباشر بما يناسب استثماراتهم، والأهم من ذلك أنهم ربما يقومون بتغيير اتجاهات الفنان نفسه حتى تتماشى مع متطلبات السوق.
عن هذا الجدل الذي لا ينتهي، يقول الفنان التشكيلي المصري عماد عبدالوهاب إن تلك الإشكالية بين الفن ورأس المال تستمر عن طريق تحكم الغاليريات بطرح الفن كمنتج صناعي احترافي واستهلاكي، ويقومون عن طريق ذلك بالتحكم في ذوق الجماهير عن طريق المال، والسؤال هنا هل الفن يتم تفصيله تبعاً لذوق المتلقي الثري، أم أن الفن هو الذي يرتقي بذوق المتلقي؟ وهذا السؤال من وجهة نظر عبد الوهاب يتبعه سؤال آخر وهو: ما هو الفن؟ هل هو الصنعة الاحترافية الجيدة، أم الرصد الحقيقي للواقع بكل جوانبه تبعا للفترة الزمنية، وإجابة هذا السؤال تكون غالبا عند سمسار الفن الذي يتابع ذوق المشتري وتغيراته المستمرة تبعا للسياقات المختلفة، إجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
يؤكد عبد الوهاب أن تلك الإشكالية قديمة وممتدة، لكن عندما نتابع الأعمال الفنية المطروحة في "أرت فير دبي" مثلا، نجد أن أغلب الأعمال هي أعمال فنية ديكورية خالية من المضمون والفكرة، وهذا واضح بقوة وليس مجرد رأي شخصي، وبالتالي نجد الفنانين ينجذبون لهذا الاتجاه الديكوري نتيجة العائد المادي الكبير.
ويذكر عبدالوهاب أنه في فترة ماضية كانت هناك موضات معينة لقاعات العرض، مثلا أن تكون الأعمال مستلهمة من مشكلات الشرق الأوسط، خاصة مشاكل المرأة واضطهادها في المجتمعات العربية، أو مطالباتها بالحرية، وفترات أخرى كانت تشجع الفنانات على رسم الموديل العاري وكل ما هو خادش للحياء كنوع من أنواع التحرر، ليتحول الفن إلى سياقات موجهة في ظل الاتجاهات العالمية، أو المنتج الفني المطلوب من فناني الشرق الأوسط، والذي يتحكم به سماسرة الفن تلبية لرغبات خارجية بعيدا عن التجربة الإبداعية الحقيقية الخاصة بكل فنان.