Print
إلياس فركوح

أمشاجٌ من التجربة: الحزنُ يرقص، الهزيمةُ تُكْتَب

26 يونيو 2019
آراء
في جُملةٍ من ثلاث كلمات، كَثَّفَ (ديسكو بولو)، صانع رقصات التانغو الأشهر، والوجودي المبكِّر، الحُزنَ الماثل في الأغنية الشعبية الأرجنتينية على النحو التالي: "فكرةٌ حزينةٌ ترقص!" وبذلك فإنه، وفق أرنستو ساباتو في مقالةٍ له بعنوان "حول بورخيس: هناك بورخيسان، الأرجنتيني والميتافيزيقا"، تكمنُ الكلماتُ – المفتاح لفهم نفوس أهالي بوينس آيرس الجامعة لكلِّ من الفكرة والحزن. ولم يكتفِ بذلك؛ بل نجده يقرر بأنَّ رقصة التانغو هي الوحيدة المرتدّة إلى الداخل، بينما جميع الرقصات في الثقافات الأخرى تتوجه إلى الخارج، لتعبِّر عن الحُبور والمرح، أو إنها الإيروسية السعيدة.
ما دفعني لأن أستهلَّ شهادتي هذه والتمهيد لها بما سبق، رؤيتي إلى نصوصي السردية كافةً (في القصة القصيرة، والرواية، والكتابات الخارجة عن التأطيرات المتعارف عليها)، ومعاينتي لها بوصفها تساؤلات أطرحها على نفسي أوّلاً لأحاولَ، عبر الكتابة وصيرورتها المركَّبة، أن ألتقطَ العالم في مرآتي وأن أقبضَ عليه! أن أتملّى ذاك الكون البَرَّانيّ متمعناً في تضاريسه، كما يتكشَّف ويتمظهَر داخلي. وإني، حين أفعلُ هذا، في كلِّ مرَّة وفي كلِّ نصٍّ، إنما أكونُ أُسائلُ نفسي، أيضاً، عن مكانها وسَط الصَّخَب الهادر المزلزل المَوَّار بالشَّر المزهو بانتصاراته المتوالية على الخير- والذي ندعوه: "عالمنا"! أقول هذا وكأني أرفعُ شكوى كائنٍ مجبولٍ
بالخيَر مُصَفَّى، وقد فُجِعَ بهيمنة الشَّر، أو كأني أتلو تضرعاً للسماء من أجل نُصْرَة الخيِّرين الأبرار؛ وبالتالي أُحيلُ عليَّ أنا كواحدٍ منهم أمثلُ أمامكم!
غير أنّ الأمر ليس كذلك، بالتأكيد.
لستُ كُلّيَّ الخير خالصاً، ولستُ بريئاً مُبرّءاً من الشَّر. لكنني، على وقْعِ نسبيّة الأشياء وواقعيتها - بما فيها مفهوم الخير والشَّر-، فإنني كائنٌ "هَجينٌ" من هذا وذاك. كما أنني، بالإضافةِ وبالأساس، كائنٌ نغَلَت الهزائمُ العامةُ في تاريخه الشخصي الخاصّ، غير المنفصل عن تاريخ مجتمعه وأجياله، وبالتالي إني كاتبٌ أعاينُ العالمَ من هذه الزاوية، أكتبه مسائلاً إيّاه ومسائلاً إيّايَ في الوقت نفسه. وفي اللحظة التي أقول بانتصار الشَّر إنما أعني هزيمة الخير، رائياً في المهزوم الخَيرَ والخَيِّرَ بالضرورة. فهل هذا صحيح؟ أم ترانا نعودُ إلى تلك الصيحة المُظفَّرة الما تزال يترددُ صَداها في تعرجات تاريخنا مُذ أُطْلِقَت في مفتتح القرن الهجري الأوّل، حتّى آخر انكسارٍ ألَمَّ بنا: "انتصرَ الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ، إنَّ الباطلَ كان زهوقاً!" نعودُ إليها وكأننا بها نلوذُ بخاتمةٍ قَدَريَّة رجوناها لأنفسنا؛ بخاتمةٍ لخيباتنا وأحزاننا سوف تكون في يومٍ لم يأتِ بعد!
ولأنه لم يأتِ بعدُ، على أيدينا أو أيدي سِوانا؛ ما زلتُ أكتبُ تلك الخيبة وذاك الحزن. أكتبُ "نسخةَ" المهزومِ من الرواية القابلة لألفِ تأليفٍ، وألفِ توليفٍ، وألف تأويلٍ، وألفِ قراءة. أكتبها دون أن أنتهي منها، لأنها ما بَرِحَت تُكْتَبُ في العالم البرَّاني، متلاحقةً في فصولٍ وأقسام، ولا يخلو أيُّ فصلٍ أو قسمٍ من نبرةٍ غاضبةٍ تارةً، وناقدةٍ تارةً، وجالدةٍ للذاتِ تارةً، وشاتمةٍ للكِبارِ والصِّغارِ في آن تارةً، وراثيةٍ للعُمْر "الضائع" والأحلام "المُجْهَضَة" غالباً.
نعم؛ ذلك كلُّه كُتِبَ في قصصي ورواياتي، على نحوٍ أو آخر، وعَلَّهُ سيُكْتَبُ أيضاً إذا ما احتملني هامشُ العُمْر! كُتِبَ بكافَّة النبرات التي أشرتُ إليها، وفيها جميعاً كان يتصادى لحنُ الحزنِ داخلي. وإذا كانت رقصة التانغو عند مبدعها الأرجنتيني "فكرةً حزينةً ترقص"؛ فإنَّ سرودي في مجملها "عالَمٌ مهزومُ مقهورٌ يُكْتَب"، وثمّة الحزنُ الذي لم ينتهِ مذ رآه تيسير سبول في عينَي "عربي" قائلاً: "طافَ رجلٌ معظم بلاد العالم ورأى كثيراً من الكوارث، إلّا أنه لم يرَ شعباً بأكمله يغرقُ في الحزن مثل شعبي".
.. ومُرتدٌّ إلى الداخل أيضاً – أقصدُ العالم.
ولذلك، ربما، لا يفتأ يحفرُ فيَّ ويحفر.

(نيسان/ أبريل 2019).