Print
إلياس فركوح

أمجد ناصر.. هكذا يدوم الحضور

16 يونيو 2019
آراء
أمجد ناصر، أو يحيى النميري النعيمي: الاثنان في واحد.

أدّعي أننا، أنتَ وأنا، حين لا نلتقي كثيراً، وجهاً لوجه، كلاماً يستجيبُ لكلامٍ، إنما نكونُ نعاكسُ سذاجةَ الافتراض الشائع: بعيدٌ عن العَين، بعيدٌ عن القلب! أدّعي أننا نخرجُ على منطوق هذه "الحِكْمَة" الشائعة بين الناس وكأنها حقيقة مطلقة، وخاصةً إذا ما أعدنا النظرَ في كلمة "القلب". فالقلبُ هنا يعني المحبّة، والمحبّة تغيبُ حتماً إنْ تمت خيانتها أو غدرَ بها الزمن، حتّى لو أدامَ صاحباها الحضورَ العَياني المباشر في المكان.
هذا ما أدّعيه.
وما أدّعيه لم يُبْنَ على نُزوعٍ قِوامُهُ العاطفة، أو الرغبة، أو النيَّة؛ لم يُبْنَ على القَصْد والإرادة المحسوبة. بعيٌد عن العين، حاضرٌ في الذاكرة التي كلّما طالَ عمرُها، زاد مكنوزها وتراكمت كنوزها! الذاكرة الواعية أقصد. الذاكرة المثقفة والقارئة أُشدد. وهذه لا تكون إلّا بميثاقٍ ووثيقة:
ميثاقُ الكتابةِ الطامعة في اجتراح جمالياتٍ ورؤى ومواقف تُضاف إلى ما كُنّا عرفناه.
ووثيقةٌ تتوالى صفحاتُها في كتبٍ نتداولها ونتبادلها ونُمْعِنُ التفكَّر بها.
هكذا يدوم الحضور.
هكذا تتحوّلُ المسافات إلى أوهامٍ يصدّقها الغافلون عمّا أشرتُ إليه. وتتعالى الكتابةُ في

نصوصها المتوالية أصواتاً تُفّعِلُها الذائقة، وتضاعِفها المخيلة. ولا تنقطُع آصرةٌ فُتِلَت حِبالُها من لُغةٍ خَبِرَت اختيارَ كلماتها، وأين تضعُ كلَّ واحدة منها.. ومتى.. ولماذا!
تكونُ الكتابة هكذا، فيعيشُ النصُّ نابضاً، وبذلك يحيا كاتبُه ويدومُ حضورُه أكثرَ عُمقاً، وأزهى معنىً.
".. لن تعزل الماضي عن الحاضر ولا ما خبرتَه شخصيَّاً عمّا سمعته من الناس أو قرأته في الكتب. ستترك للذاكرة أن تتداعى وللعين أن ترى، وقد تحلم في رابعة النهار".
هذا ما جاء في كتابك "فرصة ثانية"، حيث كان للذاكرة السيادةَ على كامله؛ إذ رأيتك تخاطبُ نفسك وواصفاً: "أيها المهاجرُ الذي يحلُّ ضيفاً على ذاكرته"، مقرراً بعد صفحات: "ثمّة ذهبٌ كثيرٌ في الذاكرة!".
نعم؛ ثمّة ذهبٌ كثير في الذاكرة، أيها المهاجرُ الحاضر: ذاكرتكَ، وذاكرتي، وذاكرة القافلة المتناقصة بأكثر من معنى. القافلة التي رافقَت الكلمةَ النزيهة كما عِشقت الأرض، مازجةً الاثنتين في واحد، وأطلَقَت عليه: عَيْشُ الحياةِ بروحٍ حُرَّة! الاثنتان في واحدٍ يغذّيهما ويتغذّى بهما، تماماً كما ضِفتان لنهرٍ واحد اسمه: الأردن! مياه تُضْمِرُ في أعماقها تاريخَ الاتصالَ والتواصل، رغم ما يظهرُ منها وكأنه شريطٌ فاصل!
وكنتَ، وما زلتَ، على العهد: لا تَكْذِبُ أهلكَ مهما تلوَّنت وجوههم، ولا تُتعبكَ نزاهتُك وإنْ جافاكَ مخالفوك، ولا تعوزكُ صراحةَ الموقف الواضح في زمنٍ اعتكار الرؤية/ الرؤيا.. عن قصدٍ أو عن عَمى.
والآن، وهنا، وفي هذا الراهن المقبوض عليه وأنتَ داخله حاضرٌ كُلّي الحضور، دعني أقول

لكَ ما جِئتَ به لَمْحاً في كتابك "فرصة ثانية": "العزلة ليست وصفة جاهزة للاستشفاء".
أوافقكَ تماماً، وأراهنُ على أنّ كسركَ لـ"عزلةٍ" لم تكن من اختيارك هو فعلٌ من أفعال "الاستشفاء". وإعلانٌ لحضور روحك التي لم يُصِب حريتها أيُّ داء. وجوابٌ منها عن سؤالكَ لي في إهدائك؛ إذ كتبتَ: "هل هناك فرصة ثانية حقاً؟".
نعم؛ في كلِّ دقيقة جديدة ثمّة فرصة جديدة حقاً.
إنها روحٌ تدركُ أبعادها وأقاصيها، ولأنها كذلك؛ ليست بحاجةٍ لمن يدلّها على مرتقاها.. قبل الأوان!
الروح الحُرَّة تعرف، وهي الدليل.

(*) نصّ الكلمة التي قُدِّمَت في الاحتفال التكريمي للشاعر أمجد ناصر في عمّان، مساء السبت 15/6/2019.