Print
محمود عبد الغني

الهوية والذات والوعي: جون لوك و"مقالة في الفهم الإنساني"

30 أبريل 2019
آراء
نشرت المجلة الفرنسية "فلسفة"، ضمن عدد ربيع 2019، دراسة فلسفية للفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704) بعنوان "مقالة في الفهم الإنساني"، نُشرت في طبعتها الأولى سنة 1689. وهي تُصنّف ضمن الأعمال الفلسفية الكبرى التي أنتجها لوك في إطار ما سُمي بـ"الفلسفة التجريبية" ضمن نظرية كبرى هي نظرية المعرفة، والقاضية بكون التجربة هي أصل كل أفكارنا. وقد نشرت هذه الدراسة الفلسفية المؤسسة العديد من الموسوعات والمجلات ودور النشر على مدى قرون متتالية. ولم يعبث الزمن ولا القرون ولا إعادات النشر المتتالية أو الإحالات المتكررة بهذه الدراسة الفذّة، بل لم تزدها الأزمنة إلا ترجمة ورسوخاً.
كل إنسان يعتقد أنه مؤقّتاً تحوّل إلى شخص آخر، أصبح يقوم بأفعال كما لو أنها تحت تأثير شخصية أخرى مختلفة عنه كلياً: إن الإفراط في الغضب يؤدّي إلى التقوّل بكلمات تثير الرعب، وذلك حتى في حق أعز الناس. وثمة تأثيرات خارجية على جوهرنا الذاتي تدفعنا إلى القفز نحو الضفة الأخرى من طبيعتنا الأصلية. من هنا يُخلق الإحساس بالغرابة تجاه أنفسنا. إن تفسير كل هذه التحولات التي تقف وراءها التجربة، يقدّمها الفيلسوف جون لوك بالبساطة الممكنة، والتي يمكن تلخيصها في مصطلح واحد: الوعي.

المؤلّف
ولد جون لوك في 29 أغسطس 1632 بورينغتون في الجنوب الغربي لإنكلترا. حين بلغ سن 15 عاماً ولج إلى مدرسة "ويستمينستر" بلندن، حيث درس اللاتينية، الإغريقية والعبرية. وفي سنة 1650 حاز منحة الملك التي مكّنته من الولوج، بعد سنتين، إلى جامعة أكسفورد. ورغم صعوبة وصرامة نظام التعليم في هذه المؤسسة، فإن لوك تمكّن من التأقلم. ورغم أن الدروس كانت تبدأ في الخامسة صباحاً، إلا أنه لم يبدِ أي مقاومة لهذه الطرق التعليمية. وحين طلب منه صديق إسداء النصح له بخصوص تعليم ابنه، نصحه بأن يرسله إلى "ويستمينستر أو إلى أي مدرسة أخرى تماثلها في الصرامة".
في جامعة أكسفورد بدأ جون لوك يهتمّ بكل شيء: الكيمياء، الرياضيات، علم النبات، الطب... لمع في هذه العلوم كلها حتى أصبح مفتشاً في فلسفة الأخلاق سنة 1663 في نفس المؤسسة.
في سنة 1667، وبعد وفاة والديه وتخليه عن فكرة الزواج، التحق بمصلحة النبالة في "شافتسبوري" بلندن كطبيب ومدرس. في هذه الفترة كتب عمله "رسالة في التسامح" (1668)، فكرّس لنفسه سمعة عالية باعتباره مربياً في الأوساط النبيلة. سافر إلى هولندا

وفرنسا، فبدأ بدءًا من سنة 1671 مؤلفه "مقالة في الفهم الإنساني". وحين عاد إلى لندن، أُقحم في صراع ضدّ الملك شارل الثاني. وحين شعر بأن حياته مهدّدة، هرب إلى هولندا ولم يعد إلى إنكلترا إلا سنة 1691، إلى أن توفي في أكتوبر 1704.
كلّفت كتابة "مقالة في الفهم الإنساني" عدّة سنوات، وفي عدّة أمكنة ابتداء من 1671. ولم تكتمل إلا في سنة 1683، حين كان ج. لوك هارباً من المؤامرات السياسية إلى هولندا. وقد قام بجهد فلسفي كبير من أجل اختبار مستويات المعرفة التي تكوّن هذا الفهم.

الهوية والاختلاف
في فصل خاص من كتاب "مقالة في الفهم الإنساني" يحمل عنوان "الهوية والاختلاف" يفحص لوك مفهوم الـ"هوية"، وعن كل ما يكوّن وحدة الفرد، بعد أن يكون قد تناول بشكل سريع "هوية الإنسان". إن وحدة هذه الهوية الفردية تكون دوماً مضمونة بالوعي. ويلخص لوك القضية كما يلي: "من البديهي أن الوعي البسيط، مهما بلغ أبعد نقطة ممكنة، وحتى في مراحل تاريخية ماضية، يجمع أنماط وجود وأفعال بعيدة في الزمن داخل شخص واحد كما يفعل بالضبط في الوجود والأفعال في اللحظة السابقة. بحيث أن من يملك وعي الأفعال الحاضرة والماضية هو الشخص نفسه الذي تنتمي إليه مجتمعة".
هل من شأن ذلك أن يساعدنا على فهم أننا في الواقع الشخص نفسه حين نتصرّف بطريقة تبدو لنا غريبة حين نعود إلى الوراء، أو حين يتعرّض جزء مهم من ذاكرتنا للتلاشي؟ هنا لا بدّ من استيعاب مفهوم الوعي حسب لوك باعتباره سيرورة حيوية من الوحدة، وليس باعتباره شيئاً أو "مادّة".

الهوية الشخصية
بعد عدّة مقدمات كان الغرض منها تحديد ما يكوّن الهوية الشخصية، أكّد لوك على ضرورة أن يوضع في الاعتبار ما يمثله الشخص، هذا الكائن الذكي والمفكّر، المتميّز بالمنطق والتأمّل،

والذي يمكن اعتبار ذاته كذات خاصة به، وفي نفس الآن اعتبارها شيئاً مفكراً في أزمنة وأمكنة مختلفة، وما ينتج عن هذا الوعي غير المنفصل عن الفكر، لأنه "من المستحيل لشخص ما أن يدرك دون إدراك بأنه يدرك. فحين نرى، ونسمع، ونحس عن طريق الشمّ أو اللمس، ونشعر، ونتأمّل أو نريد شيئاً ما، نحن نعرف بأننا نقوم بذلك". هنا يكمن أصل ما يسميه كل واحد "ذات". إن الوعي، يؤكّد لوك، يصاحب دوماً الفكر، وهذا ما يجعل الذات تختلف وتتميّز عن كل الأشياء الأخرى المفكّرة. لكن الهوية الشخصية لا تعني شيئاً آخر غير ذلك.

الذات متعلّقة بالوعي
إن الذات والفكر والوعي هي المصطلحات الكبرى في كتاب لوك. لا يملّ من ترديدها وتقليب أوجهها، وربطها ببعضها، وبغيرها. إن الذات هي ذلك الشيء الذي يفكر بوعي. والتفكير هنا يخص كل ماهية سواء كانت روحية أو مادية، بسيطة أو مركّبة، المهم هو وجوده، هذا هو المهم. ويضيف صفة أخرى لهذا التفكير الواعي: يجب أن يكون حساساً تجاه السعادة والألم، وقادرا على الإحساس بالفرح والألم، وبالتالي لا ينشغل بنفسه كيفما كان امتداده. ويستنتج لوك قائلا إن كل شخص، حسب هذا المنطق، سيجد أن إصبعه الصغرى، ما أن تدخل في هذا الوعي، تصبح جزءاً من الذات مثلها مثل أي شيء جوهري. وحين تبتر هذه الإصبع الصغرى، وإذا ما رافقها الوعي وغادر باقي الجسد، يكون من الواضح أن هذه الإصبع الصغرى ستصبح هي الشخصية، الشخصية ذاتها، ولن تصبح للذات أي علاقة مع باقي الجسد. ونفس الشيء في هذه الحالة، فإن الوعي هو ما يرافق الجوهر حين ينفصل جزء عن آخر يكوّن نفس الشخصية، ويشكّل فرديتها.
يتدرّج ج. لوك في تحليله ليصل إلى مجموعة خلاصات أهمها أن الوعي وحده هو ما يستطيع توحيد موجودات متباعدة داخل نفس الشخص، في حين لا تستطيع هوية الجوهر فعل ذلك. لأنه، يضيف شارحاً، كيفما كانت الجوهر وطبيعة تكوينه، بدون وعي لا وجود للشخص: وإلا فإن الجثة يمكن أن تكون شخصاً مثلما يمكن أن يوجد أي نوع آخر من الجواهر دون أن يمتلك الوعي.
وبخصوص فرضية وجود نوعين مختلفين من الوعي، يقول لوك إنه إذا استطعنا افتراض وجودهما، دون أي تواصل بينهما، لكنهما يحرّكان نفس الجسد، وعي طوال النهار، ووعي في الليل، ومن ناحية أخرى لنفترض وجود وعي واحد يحرّك بالتعاقب جسدين مختلفين، ألن نميل إلى طرح سؤال واقعي لمعرفة، في الحالة الأولى، ما إذا كان رجل النهار ورجل الليل هما شخصان مختلفان مثلما يختلف سقراط عن أفلاطون؟ وفي الحالة الثانية، ألا يوجد شخص واحد داخل جسدين مختلفين، مثلما يكون شخص واحد داخل بذلتين مختلفتين.
حسب هذين المثالين، يروم لوك الوصول إلى جوهر فكره الذي بلوره في الكتاب: إنه من البديهي أن الهوية الشخصية ستكون دوماً محدّدة بالوعي، سواء تعلّق هذا الوعي بجوهر فردي غير مادي أو لم يتعلّق. وإذا سلّمنا بأن الجوهر المفكر داخل الإنسان يجب بالضرورة أن يكون لامادياً، فإنه من البديهي بأن هذا الشيء المفكّر اللامادّي يضطر أحياناً للانفصال عن الوعي السابقّ، وأحياناً أخرى إيجاده، مثلما نرى في النسيان حيث الناس مثلا ينسون أفعالهم السابقة، ثم بعد ذلك يعثر العقل على ذاكرة الوعي السابق التي افتقدوها منذ عشرين سنة على الأقل. وإذا تصوّرنا أن هاتين المرحلتين من ذاكرة النسيان تتعاقبان بانتظام مثل النهار والليل،

سنحصل على شخصيتين بعقل واحد غير مادّي، كما وضّح لنا لوك سابقاً وجود شخصين داخل جسد واحد، بحيث أصبح واضحاً أن الذات ليست محدّدة بهوية أو باختلاف الجوهر.
لقد عمل كتاب ج. لوك على تحليل مفهوم الثابت والمتحوّل، في لغة الحضارة الحديثة، بأن تعدد الجواهر ليس بالضرورة تجلياً لتعدد الشخصيات. إن أطروحته ترتكز على الأساس الآتي: إن الشخص الواحد يقوم بأفعال كثيرة مختلفة تجعله متعدّداً، في الماضي والحاضر معاً. لكنه في النهاية نفس الشخص الواعي، أو القاصد، لأفعاله.
إن إعادة نشر كتاب جون لوك، بعد تأليفه منذ عدّة قرون، يعود تحديداً إلى الحاجة القصوى إلى إعادة التفكير في مفاهيم الاختلاف والوحدة، والهوية وما يلحقها من تغيرات متعاقبة، دون نسيان مفاهيم أخرى تتعلق بالذاكرة والنسيان. ولعل هذه المفاهيم هي السائدة منذ قرن لوك (السابع عشر) إلى قرننا الحالي الذي هو زمن الذاكرة والنسيان بامتياز. فكل شيء متعدد داخل جسد واحد. والجسد الواحد يسير وفق منطق وعيين مختلفين، لكن في المحصلة النهائية التفكير وفق هذه المفاهيم دون التخلي عن تفكيكها وإعادة فحصها في ضوء القرون المتعاقبة. إن قرننا الحالي هو قرن لوك، قرن التفكير في علاقة الوعي بالوجود، وقدرة هذا الوعي على توحيد أشياء مختلفة كثيرة. وستجد القرون القادمة أن جون لوك هو مفكر كل القرون، لذلك سيخضع كتابه هذا إلى فحص جديد على ضوء القرون المتعاقبة.