Print
هيفاء بيطار

الولاء للحقيقة.. عن "خريجي الحبوس"

8 ديسمبر 2019
آراء
في العامية السورية، يسمونهم (خريجو الحبوس)، والمقصود بهم سجناء الرأي الذين غصت بهم السجون السورية لعقود، والذين مات كثير منهم تحت التعذيب. فئة غير قليلة من المجتمع السوري تسمي هؤلاء المفكرين سجناء الرأي (خريجي الحبوس). ويتعاملون معهم إما باحتقار، أو بإنكار وجودهم، والتشكيك بمأساة سجنهم. والمؤلم أن نسبة كبيرة من المجتمع السوري، ومنهم المثقفون والمتحضرون، يرفضون كلياً التعامل مع هؤلاء الذين كانوا سجناء رأي، وينفرون منهم كأنهم وباء، ولسان حالهم يقول: إبعد عن الشر، وغنِّ له.

كلام مبطن
نجد على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات كثيرة تصور المسيحيين تكتظ بهم الكنائس وباحاتها، يحتفلون بأعيادهم ويكتبون بسعادة: هل يوجد بلد في العالم يحتفل فيه السوريون المسيحيون بأعيادهم مثل سورية!! أو نجدهم ينشرون صوراً وفيديوهات لمطاعم فاخرة تقدم المشروبات الكحولية بأنواعها وروادها من الجنسين، رجالاً ونساء. النساء سافرات، ومعظمهن كاشفات عن مفاتنهن، ويكون التعليق أيضاً: هل يوجد بلد في العالم العربي يسمح بهذا الاختلاط، وبشرب الكحول، مثل سورية؟. في الواقع، هذا الكلام مُبطن بكلام آخر يقرأه بوضوح من يعيش في الداخل السوري، ويلاحظ الشرخ الهائل في النسيج المجتمعي السوري، فهم يؤمنون أن النظام يحمي الأقليات، خاصة المسيحية، ويؤمنون بنظرية المؤامرة على سورية، ويطيش صوابهم من الغضب عندما أحد من الكتاب، أو الناس، يستخدم كلمة ثورة، ويقول بأن ما جرى في سورية ثورة. ينتفض هؤلاء كأن أفعى لسعتهم لدى سماعهم كلمة ثورة، وكأنها تهديد لأمانهم الفكري الزائف، أمانهم الفكري والنفسي يطمئنهم بأنهم على صواب، وبأن سورية هي الجنة. وأذكر لافتة عند مدخل مدينة دير عطية: إبتسم أنت في دير عطية. ولا نعرف لم علينا أن نبتسم، ربما لأن المسؤول في القصر الرئاسي هو من دير عطية، وهو يتمتع بنفوذ كبير وصلاحيات واسعة، بينما لا نجد في مدخل حلب الشهباء لائحة مكتوب عليها إبتسم أنت في حلب، ومن مثل حلب العظيمة يستحق الابتسام قبل أن تتحول إلى جحيم.

وهؤلاء السوريون المتماهون مع نظرية المؤامرة على سورية، وبأن أصحاب النفوس الضعيفة هي التي انجرت إلى المؤامرة، حين تتحدّاهم وتواجههم بحقائق لا يمكنهم إنكارها، مثل سوء التعليم في سورية، والفساد المستشري في كل دوائر الدولة، وانعدام حرية الرأي، يسرعون للقول بأن الفساد موجود في كل دول العالم، وبأن ثمة سقفاً لحرية التعبير في أوروبا وأميركا، ويستشهدون بمحاكمة روجيه غارودي، المثقف الفرنسي الكبير، ويستشهدون أيضاً بالكاتب السياسي الإنساني، نعوم تشومسكي، غير الراضية عنه السياسة الأميركية.
وحين تواجههم بشخصيات عاشت بينهم، وولدت علاقات جوار ومودة بينهم وبين عائلات سجناء الرأي، ولكنهم تنكروا لتلك الجيرة والمودة حال اعتقال أحد أبناء تلك العائلات بتهمة جريمة الرأي، كأن يكون منتمياً لرابطة العمل الشيوعي، أو غيرها، أو حتى من الإخوان المسلمين، ينقطع هؤلاء كلياً عن لقاء أسرة سجين الرأي، ويخافون أن يمسهم أذى ما، أو أن تشك بهم الأجهزة الأمنية وتستدعيهم للتحقيق معهم، فقد يكونون متورطين مع هؤلاء الخطرين على أمن وسلامة المجتمع بأفكارهم التخريبية المعادية للنظام، حتى إن بعض الأقرباء يقاطعون الأسرة التي ابتليت بسجن ابنها الشاب لسنوات طويلة، بسبب إيمانه بأفكار يكفرها النظام، ويجدها خطراً على سيادته. وحين تواجههم بحجج دامغة، كأن تقدم لهم رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، أو كتاب ياسين الحاج صالح (بالخلاص يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية)، أو بكتاب الدكتور راتب شعبو (ما وراء هذه الجدران)، أي أنك تواجههم بأشخاص من لحم ودم، يعرفونهم جيداً، ويعرفون عائلاتهم، بل كان أبناؤهم زملاء دراسة لسجناء الرأي، فإنهم يشككون بتلك الروايات، ويقولون: وما خفي أعظم!! أي أن ثمة جهات ما دفعت هؤلاء لكتابة هذه الروايات الصادقة النزيهة التوثيقية لما عاشوه، وبأنهم غير متأكدين من صحة المعلومات فيها، ويميلون إلى الاعتقاد أن ثمة جهات من الخارج، من أعداء سورية، تتواصل مع هؤلاء، وتؤثر في كتاباتهم!!

وقد ضجت اللاذقية بهجرة أحد أشهر وأنبل أطبائها، لأن أخاه كان سجين رأي في الثمانينيات، ثم في التسعينيات، فهج هذا الطبيب النبيل وأسرته إلى دولة لجوء خوفاً على نفسه من الاعتقال، وخوفاً على أولاده، وأغلق عيادته مصدر رزقه، وروعه الخوف من التهم التي يمكن أن توجه إليه، لأن أخاه كان ناشطاً سياسياً معادياً للنظام. وحين تواجه هؤلاء الذين يشتمون الأخ سجين الرأي مرتين، لا يخطر ببالهم أن يتساءلوا لماذا هرب أخوه الطبيب الذي لا علاقة له بالسياسة، بل ينهالون بالشتائم عى المعارض الخائن الذي دمر أسرته، وتسبب في نزوح أخيه! ولا يخطر ببالهم أن يتساءلوا ما سبب هذا الذعر والخوف لدى طبيب في عقده السادس كان (ولا يزال) لامعاً ومبدعاً وأكبر داعم للفقراء، وما الذي دفعه ليصحب أسرته ويهج من اللاذقية وسورية؟ يلقون باللوم على الأخ الخائن المعارض، ويحملونه مسؤوليه أذية إخوته، ودفعهم إلى الهرب وترك سورية، يتجاهلون أي ذعر تسببه كلمة أمن الدولة، أو الأمن السياسي، أو العسكري، وبدل أن تشيع كلمة أمن الأمان والطمأنينة في االنفوس، فإنها تجعل الفرائص تتقصف ذعراً لمجرد ذكرها.

إحدى زوجات سجناء الرأي، وقد اعتقل زوجها تسعة أعوام بتهمة الدفاع عن حقوق الإنسان، واعتقل أخوه الذي لا علاقة له بشيء سوى دكانه مصدر رزقه ثلاث سنوات، لأنه لم يُخبر عن أخيه! أي لم يش به، اعترفت بأن معظم أقربائها انفضوا عنها، وكذلك معظم أصدقائها، لأنها صارت موشومة بالخطر على أمانهم النفسي الزائف، لأنهم يخشون أن تعتقد الأجهزة الأمنية أنهم شركاء، وعلى اتفاق مع سجين الرأي. كانت المسكينة في طور النفاس، وابنها عمره عشرون يوماً، ولم يدعمها أحد، بل إن كثيرين لاموا زوجها واتهموه بأنه يتجاوز الخطوط الحمر، كما لو أن الدفاع عن حقوق الإنسان خط أحمر، واستعمل بعضهم تعبير: لازم النظام يكسر رأس هؤلاء، أي سجناء الرأي، لأن أفكارهم تخريبية، ونحن نعيش بأمان حتى لو كان أمان الدجاجات في القفص. طالما أنهم يشربون البيرة ويسبحون، ونساؤهم وعشيقاتهم يلبسن المايو، وأعراسهم مختلطة، ويحتفلون بالمناسبات الدينية في الكنائس بحرية مطلقة فهم سعداء، ووجود سجناء الرأي يهدد أمانهم الزائف، ويخلخل الثوابت الهشة التي يتشبثون بها كي لا يواجهوا الحقيقة، حقيقة أن الذعر من قبضة الأمن معشش في قلوب كل السوريين.



الكتاب والقيد
ومن المضحك أن جهة رسمية أطلقت مؤخراً شعار (الكتاب يفك قيدي)، وما أجمل وأصدق هذه العبارة، والمقصود بها إدخال الكتب إلى السجن كي يقرأ السجناء وتتنوّر عقولهم ويرتقي تفكيرهم، لكن شرط أن تكون هذه الكتب قد وافقت عليها الرقابة في سورية، وألا تكون كتباً سياسية، أو دينية، أو حتى تقترب أو تلامس تابو السياسة وتابو الدين، وأن يكون الكتاب مسموحاً به في سورية، والكل يعرف أن معظم الكتب القيمة ممنوعة في سورية، فأية كتب هذه سوف تفك قيد السجناء. وحين علق أحد المواطنين على هذه الخطة (الكتاب يفك قيدي)، وقال: لا يدخلون إلى السجن إلا كتب اتحاد الكتاب العرب، وكلنا نعرف كم هي تعيسة ومقاومة للإبداع لجنة الرقابة في سورية، فأية كتب سيقرأ السجناء، وكيف سيتنور عقلهم ويفك الكتاب قيدهم؟ أجاب أحد المستميتين في الدفاع عن النظام: يكفي أن يتعلم السجناء القراءة.

كم هو مؤلم هذا الشرخ في حياة السوريين، أن لا يدعم كل سوري أخاه في الوطن والإنسانية في أوقات المحن والمصائب، وأخطرها أن يُسجن الشباب في ربيع شبابهم لسنوات طويلة قد تصل إلى عشرين عاماً بسبب آرائهم، وأن يتنكر لهم أقرب الناس إليهم، بل إن الأمر يصل أحياناً لأن ينفض الأصدقاء عن أي شخص تستدعيه أجهزة الأمن، يُصبح في نظر أصدقائه خطراً عليهم، ويخشى أن تعتقد الأجهزة الأمنية أنهم متفقون مع الشخص المشبوه إياه، الذي استدعته الأجهزة الأمنية، أو منعته من السفر. ولا أحد ينكر أن ثمة إرهاباً متنوعاً ومتعدد الانتماءات في سورية، إرهاب الجماعات المتطرفة، التي يتخذ معظمها من الدين ذريعة لتبرير جرائمه، وكتب عديد الكتاب وفضحت الفضائيات جرائم تلك الجماعات الإرهابية التي تمارسها بحق الشعب السوري وتتخذه رهينة لتحقيق أهدافها، والكل يعرف أن معظمها يتلقى تمويلاً من الخارج، ومن دول تدعي أنها من أصدقاء الشعب السوري، بينما الشعب السوري يتيم وأعزل، وثورته التي ابتدأت ثورة نظيفة ضد الفقر والظلم والبطالة وانعدام الحرية ظلت يتيمة أيضاً، وانحرفت عن مسارها لأنها لم تُوفق بمعارضة تهمها فعلاً كرامة المواطن السوري وحريته، بل كانت غايتها الأساسية الوصول إلى السلطة، وتصريح معظم المعارضين في الخارج بأنهم مستعدون ليضحوا بآخر قطرة من دم الشعب السوري، كأن المواطن السوري يرغب بالانتحار والموت. والنظام اعتبر أن ما يحصل هو مؤامرة على سورية، بعد أكثر من ثماني سنوات على المأساة السورية. وبعد أن أثبت سجناء الرأي السوريون ذاتهم، بإبداعاتهم وثقافتهم العالية، وكتبهم وشهاداتهم، وبعد أن اعترف بهم العالم كله، وقدرهم، وترجمت أعمالهم، فإن ثمة شريحة كبيرة من الشعب السوري تنكرهم وتشكك بهم وبأجنداتهم. والبعض يشكك حتى في سنوات سجنهم.



ظاهرة الإنكار

ظاهرة الإنكار معروفة في الطب النفسي، وهي ظاهرة أبدع الدكتور مصطفى حجازي في تحليلها في كتابه: سيكولوجية الإنسان المقهور، وكتابه الثاني: سيكولوجية الإنسان المهدور. لكن من المهم، أو من الأهم، أن لا ننسى تلك الشريحة الكبيرة أيضاً من الشعب السوري التي احتمت بالصمت، ولا تنطق بأيه كلمة، أو تعبر عن موقف، وتتخذ من الصمت حماية لها، وصمت الخائف مهين ومُخز للكرامة الإنسانية ولحرية التعبير. فالإنسان حيوان ناطق، والكلمة تُحيي وتُميت. لا أنسى تلك العائلات الثرية التي تعرض أبناؤها للخطف في اللاذقية، وكيف دفعوا الملايين للخاطفين لإطلاق سراح فلذات أكبادهم، والكل يعلم من كان زعيم عصابة الخطف في اللاذقية، وكذلك كل من زار هذه العائلات ليبارك لها بعودة الأبناء المخطوفين سالمين إلى عيلهم.

وطبعاً بعد أن دفع أهلهم المليارات للجهة الخاطفة لم يجرؤ أحد من أفراد أسرة المخطوف أن ينطق بكلمة واحدة عن عملية الخطف والجهة الخاطفة، ولم يتجرؤوا على التفوه بأي كلام سوى عبارة: يكثر خير الله. كانت هذه العبارة جوابهم على كل الأسئلة التي طرحت عليهم. وفعلاً لم يبق للسوري من ملاذ سوى رحمة الله. لكن الكتب الإبداعية التي كتبها سجناء الرأي ستظل شاهد عصر على أنهم لم يكونوا أشباحاً، أو شياطين، وبأنهم خرجوا من السجن بأعلى درجات الثقافة والمعرفة، فوحدها الثقافة تقهر الظلم، ومنهم من صار من أهم المترجمين في العالم العربي. خسارة أن يخون الأخ أخاه، وأن لا يكون للإنسان من ولاء سوى الحقيقة. لكن الولاء للحقيقة خطير جداً في سورية.