Print
محمد جميل خضر

مسلسل "إنتي مين" وفيلم "كفر ناحوم".. إرهاصات الثورة اللبنانية

15 ديسمبر 2019
آراء
(بِدّي إلّك إني كتبت قرار موتي بإيدي لما تركت كل شي ورحت حارب؟ بِدّي إِلّك إني خسرت إجري كرمال زعما ما بيسوو إجري؟). هذه الصرخة/ الأسئلة التي أطلقتها الفنانة اللبنانية عايدة صبرا عبر دورها (نجوى) في المسلسل اللبناني "إنتي مين"، إنتاج قناة mtv إم تي في، ارتقت بوصفها ذروة العمل الدرامي الذي كتبته الفنانة كارين رزق الله، وخلاصة مقولته ورسالته حول مآلات الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).

أثناء تحديقه في النتائج الكارثية للحرب، يختار المسلسل الذي أخرجه إيلي ف. حبيب، زاوية إنسانية اجتماعية محمولة بنكهة لبنانية خالصة.
ليس مسلسل "إنتي مين" وحده بحلقاته الثلاثين، من يقرأ طالع الأفق الذي أطل على اللبنانيين أخيراً، بل يفعل ذلك أيضاً فيلم "كفر ناحوم"، نص وسيناريو وإخراج نادين لبكي بساعتيه السينمائيتين، فإذا بالمسلسل والفيلم يتجليان بوصفهما استشرافاً مضيئاً لما آلت إليه الأمور في لبنان منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، هذا التاريخ الذي يُلِحُّ اللبنانيون عليه ليصعد تاريخاً جديداً لاستقلالهم وتحققهم، وكسرهم حاجز الخوف، وفتحهم أبواب الأمل على مصاريعها جميعها.
يمور الفن الدرامي ويصعد ويبوح ويشي ويكشف ويشف، فإذا به يستشرف إرهاصات ثورة يبدو أنها في طريقها لتغيير قواعد اللعبة اللبنانية بشكل جذريٍّ جوهريٍّ كاسح.


صرخة احتجاج دامية التفاصيل
إن كان يصح أن نلخص "إنتي مين" بوصفه صرخة احتجاج دامية التفاصيل على النتائج الكارثية للحرب القذرة، ووثيقة إدانة للزعامات الطائفية المافيوية المكرسة مثل القدر الجاثم فوق صدور اللبنانيين، فإن "كفر ناحوم" يمكن أن يُلَخَّص بوصفه جولة مؤلمة داخل شوارع الفقر المريع والعشوائيات الممزقة والهويات الضائعة.
إلا أن ما يلتقي العملان حوله، هو هذا الحدس النبوئي بالغ الدلالة، حول استحالة بقاء الحال على ما هي عليه.

ملمح آخر مشترك بفجائعية مربكة، أنّ الجميع، تقريباً، في المسلسل وفي الفيلم ضحايا. ومع اختلاف سرديات هؤلاء الضحايا، إلا أنهم يلتقون جميعهم عند كمائن الحرب، ونقاط التماس، ومتاريس الذبح على الهوية، وبشاعة القطع العامودي الجائر لطبقات المجتمع الواحد.
تتلخص حدوتة "إنتي مين" في قصة جهاد (كارين رزق الله) التي تعيش حياة شبه معدمة ترعى فيها والدها (من كانت تظنه والدها) بدل أن يرعاها، بلا أم، ولا آمال تقريباً، تتدبر قوت يومهما من جنبات الطريق، مرتبكةً بأنوثتها وإحساسها بها، محدقة بانهيار منظومة أيامها وتسرّب أحلامها من بين يديها، ما يدفعها (بشكل دوريّ) لتبنّي محاولة انتحار جديدة، وفي كلِّ مرّة تقرر فيها الانتحار تكتب رسالة لوالدها:
"بيي.. كمان مرّة عم بكتبلك هالورقة لأقلّك إني حشتقلك كتير.. بس أنا مضطرة فِل.. تعبت بيي.. الحظ راكض قدامي والنحس وراي.. لوّشت بيي.. بيي؟؟ تركتلك الكردت كارد تبعتي.. اسحب منّا المصاري.. فيا 61 دولار.. وبجزداني في 16 ألف ليرة كمان خدهم.. بيي: انتبه عحالك بغيابي.. بحبك. بنتك جهاد. بخاطرك".
لوحة الخير والشر أعلى السرير الذي تمددت عليه تنتظر موتها بتأثير الدواء الذي شربته.
إنها المفارقة التي جعلتها تدخل مستشفى يديره الطبيب البروفيسور نسيم (عمّار شلق) لتتطوّر أحداث المسلسل دون أن نحرقها ففيها إثارة ذكية لمّاحة لمن رغب مشاهدة حلقاته، ولنصاب بدوار الحرب لا دوار البحر، الحرب بآثارها النفسية والاقتصادية والاجتماعيىة والعقائدية والمعرفية والقيمية، فإذا بالعمل من ألفه إلى يائه إدانة لتلك الحرب، وإدانة لإفرازاتها وفرزها الطائفيّ المناطقيّ الحزبيّ المافياويّ.

وإذا بالمسلسل الذي شارك فيه ممثلون بعضهم أصحاب مواقف ناصعة وتاريخ يساري ممتد (نقولا دانييل وعايده صبرا وجوليا قصار نماذج)، يتجلى بوصفه قراءة عميقة لـ (بالنسبة لبكرة شو). الجواب الذي يلحّ عليه المسلسل هو أن (بكرة) للثورة في الشارع، فبعض نتائج الحرب دامية ومن النوع الذي لا يمّحي، ولا بد من إعلان الحرب على مختلف مكونات تلك الحرب، وعلى مختلف مراجل أُوارِها داخل جواريب السحرة المعتمدين، ومختلف احتمالات عودتها للشوارع المحتفظة في كثير من مفارقها وزواياها ببعض ثقوبها وندبها وجراحاتها.
المسلسل لا يصنف ولا يخصص ولا يستثني أحداً، ما يجعل المتلقي يخلص إلى ما مفاده أن جميع فرقاء الحرب مشتركون في جريمة وصول الوضع اللبناني إلى ما وصل إليه اقتصادياً (كرّست زعامات الحرب الفساد بوصفه نهج حياة)، وما يشكّل مقاربة استباقية صادحة لشعار: (كلّن يعني كلّن).
في واحدة من حلقات المسلسل الذي شارك فيه إضافة لمن سبق ذكرهم: أسعد رشدان، أنجو ريحان وشربل زيادة وغيرهم، تقول نجوى (عايده صبرا) لعايده (جوليا قصار): (كان حلمي غنّي.. كان عبالي غنّي)، تقول لها: (شكلنا متل الداشرين.. شكلنا متل اللي ما إله حدا.. شكلنا ما حدا)، ثمّ باستنكار تقول لـ(المخبايه ورا وشها الآسي ولسانها الطويل): (نحنا أبطال! إحنا ما شي.. إحنا تنتين مزتوتين عالطريق.. معترين.. عا وشنا خسارة كل الدني.. الناس ما تحب الخسارة.. الناس ما تحب الخسرانين.. الناس بحبوا وبحترموا الربحانين).
لتنتهي تلك الحلقة من المسلسل المختلف بمعماره الدرامي ورؤاه الإنسانية، بأغنية جوليا بطرس: "يا قصص عم تكتب أسامينا عا زمان الماضي وتمحينا"، وهي طريقة مدهشة قرر زياد الأحمدية، صاحب الموسيقى التصويرية للعمل، أن يجعلها غير تقليدية، فلم تنته الحلقات بموسيقى ثابتة أو تتر واحد، وصولاً في بعض الحلقات لانتهائها على وقع أغنية أجنبية.
يلقي المسلسل ضوءاً ساطعاً على التناقضات جميعها، وعلى القطع الحضاري والمعرفي والطبقي المرعب الذي أحدثه الفساد ونهب المال العام، وعلى الاستقطابات الحزبية الطائفية المناطقية، التي وصلت لتقاسم مصالح الناس كما لو أنهم قطيع في زرائب هؤلاء المتنفذين الذين اغتنوا على حساب لقمة المواطنين، فاقتسموا حقوق بيع كهرباء الليل فالحكومة اكتفت بتأمين كهرباء النهار وعلى المواطن دفع فاتورة ثانية إن كان يريد بعض إنارة عندما يأتي المساء.
الفوران الذي يعم الشوارع ظهر واضحاً في الحلقات، تنقّل من حلقة إلى أخرى، ومن شخصية إلى أخرى، ومن مفصل من مفاصله إلى آخر. الفوران الذي صار اسمه 17 تشرين وبدأ يعد اللبنانيون (منذه) أيام خروجهم من القمقم.


"كفر ناحوم" وحساسيات لبكي المدهشة

ليس مسلسل "إنتي مين" وحده بحلقاته الثلاثين، من يقرأ طالع الأفق الذي أطل على اللبنانيين أخيراً، بل يفعل ذلك أيضاً فيلم "كفر ناحوم"



















الفقر المدقع والجهل المزري والعنف المجتمعي والعشوائيات المنسية تحت سماء بيروت، هي المشهدية التي تلقي عليها نادين لبكي ضوءاً بالغ الحساسيات في شريطها الذي وصل أبواب الأوسكار متنحياً في اللحظات الأخيرة لصالح green book أو "الكتاب الأخضر" بحسب ترجمة عربية ممكنة، والذي برغم أهمية الموضوع الذي يطرحه حول وحل العنصرية الأميركية، لا يرتقي لعبقرية رؤى لبكي الإخراجية، ولا لقوة طرحها، وزوايا كاميرتها، وفخامة إضاءتها، وشفافية ملامستها لقضايا إنسانية عالية المعاني. كما أن حبكة شريط لبكي على صعيد السيناريو وبناء الأحداث أذكى بكثير من حبكة الكتاب الأخضر. ولكن التفوق الأبهى الذي حققته صاحبة "وهلأ لوين" في فيلمها الجديد هو استثنائية حسن اختيارها فريق العمل (ما يسمونه الكاستينغ في لغة السينما).

في واحدة من مناطق بيروت الغارقة في مآسٍ اجتماعية طاحنة، يتتبع الفيلم حياة طفل يعيش في حي فقير، يقرر هذا الطفل التمرد على نمط الحياة الذي يخضع له، فيقوم برفع دعوى قضائية ضد والديه.
إنه زين في الفيلم وزين في الحقيقة (أدى الدور الطفل السوري زين الرافعي)، فكان الاكتشاف المبهر المدهش الذي وقعت عليه نادين لبكي ببلاغة مدوية.
يتقن اللهجة اللبنانية البيروتية الشعبية بمهارة تسرق الألباب، يتشرب موجبات الدور وحيثياته ولواجعه ومواجعه بما لا يقدر عليه فنانون كبار، يكاد يصبح صديقاً للمخرجة التي تؤدي في الشريط دور محاميته ومندوبة مؤسسة اجتماعية تُعنى بالأطفال والعمالة الوافدة. يهضم رؤى العمل وطرحه القيميّ الأخلاقيّ. نبكي لبكائه، نرافق معاناته داخل (الزريبة) التي قبل بها والده بيتاً، حيث كل شيء يحدث في مساحة ضيقة خانقة من الفقر إلى الجوع إلى الرقاد إلى تراشق ما يشبه اللعب إلى الشهوات الليلية بين زوج وزوجه إلى أول بلوغ شقيقته ومداهمة الدورة الشهرية لها إلى السهد والأرق والقلق والفوضى العارمة التي يصنعها هذا الحشد من الأطفال (الفائضين) عن الحاجة قياساً مع قدرات الوالد الإعاشية، والآفاق التي من شأنه أن يفتحها أمام هذه الأفواه الجائعة والأرواح الحائرة.
أليست أحوال أسرة سليم والد زين (فادي كمال يوسف) وحدها كفيلة بإشعال فتيل ألف ثورة وليست ثورة واحدة؟
قد لا يكون هذا سؤالاً بقدر ما هو إجابة مستوفية الشروط يحملنا الفيلم إليها عبر رحلة غارقة بالحرمان، مزكومة برائحة (الزبالة) التي طرحتها القوى المليشياوية على قارعة الطرقات. نفايات في كل مكان، عشوائيات نهضت على غفلة من أهل بيروت وكل لبنان، وهم الذين تعودوا على البيوت الشامخة فوق رؤوس الجبال، المتعربش حولها وفي فنائها الشجر والزهر وعبق الطبيعة الساحرة.
لم تكتف لبكي بعبقرية اختيارها زين، بل فعلت ذلك أيضاً مع يونس (بولواتيف تريزور بانكول) الطفل الإثيوبي الذي لا يتجاوز الثانية من عمره، فإذا به كما لو أنه هضم الدور الموكل إليه وأداه باحترافية عالية تشلع القلوب وتدمي الأرواح. امتد حسن اختيار لبكي لفريقها فشمل رحيل والدة يونس (يوردانوس شيفراو) وشمل سعاد والدة زين (كوثر الحداد)، وسحر شقيقته (كيدرا عزام)، فإذا بهم جميعهم ينصهرون داخل بوتقة رسالة الفيلم ومراميه القيمية والأخلاقية وفق مشهدية بصرية مدروسة اللقطات مشعة الدلالات.
-"بدّي أشتكي على أهلي" يقول زين للقاضي، يسأله القاضي لماذا، فيجيبه بأسى طفوليّ بليغ: "لأنهم خلّفوني".
حوارية تلخص كل شيء، وتصل سهام وجعها لكل المشاركين بجريمة كفر أطفال صغار بما فرض عليهم من واقع بائس.

أليس جيل زين هو نفسه الجيل الذي ينتفض الآن مضرباً عن الدراسة ورتابة التدريس الخالي من الدسم، منتقلاً من مدرسة إلى أخرى طالباً من باقي الطلبة مشاركته الرفض والغضب والثورة العارمة؟ أليس زين بشكل أو بآخر، هو أحمد الطفل الطرابلسي الذي قابلته راشيل مراسلة قناة الجديد بعد أن علمت من والده نيته حرق نفسه ولم يتجاوز بعد الرابعة عشرة من عمره، وعندما سألته لماذا، بكى وهو يصرخ وجعه ووجع والده وباقي أسرته؟
موسيقى "كفر ناحوم" هي موسيقى الروح الطالعة من المشاهد، حيوية الحوارات وصدقها وبلاغتها المحكية الآسرة، دفء التعابير فوق وجوه الشخصيات، حبكة المونتاج المنقادة لرؤية إخراجية أبقتنا في الفضاء الجوهري للعمل: قاعة المحكمة، وما آلت إليه نتائج محاكمة (مأمولة) لمخرجات الواقع الاجتماعي عندما ينغمس (تماماً) في الحضيض الإنسانيّ المعرفيّ المقهور.
لا شيء أبلغ من موسيقى وجع تصاحب عين كاميرا قادمة من السماء، لا معنى أكثر إيلاماً من إدارة العالم ظهره للفقراء المطحونين؛ لأحلامهم، للأمومة الساكنة أعماق وجدانهم، للحظات بَوْحهم، لأبسط حقوقهم في الحياة، مثل حق أن يلعبوا وقت اللعب، ويتعلموا وقت العلم، ويعملوا وقت العمل، وتتاح لهم فرصة لائقة لأن يعبّروا لشقيقاتهم عن حبهم لهن وخوفهم عليهن وأمنياتهم أن يصطحبوا تلك الشقيقات في نزهة خالية من الأسى والحسابات الصغيرة الموجعة مثل ثمن الساندويشة أو كلفة التحليق في مدينة الحياة.
تقدر الكمنجات حين تتوفر لها مخرجة من طراز نادين لبكي، أن تصدح بآهات بليغات ناصعات، تقدر الكمنجات بمختلف أحجامها بدءاً من الفيولا مروراً بالفيولين والتشيلو وصولاً للكونتر بفعله العميق. تقدر الصنوج والإيقاعات والهوائيات ليس ابتداء بالفلوت ولا انتهاء بالكوله وما أدراك ما الكوله.
هكذا تدخل الموسيقى أجواء الفيلم الحائز على جائزة التحكيم الخاصة في مهرجان كان 2019، من أكثر أبوابه دلالة وتجليات.
هل يمكن تسميتها موسيقى إنسانية؟ نعم إن كان يوجد هذا النوع من الموسيقى، فإن موسيقى "كفر ناحوم" إنسانية بما يصعد عالياً فوق ذرى الروح والتبصر والسفر الجريح.

 أليس جيل زين في فيلم "كفر ناحوم" هو نفسه الجيل الذي ينتفض الآن مضرباً عن الدراسة ورتابة التدريس الخالي من الدسم!

















مقولة وشرارة ووجع..
فيلم ومسلسل قالا كل شيء، ووضعا أيديهما على الجرح وقروحه جميعها. صحيح أن شريط زياد الدويري "قضية 23" (2017) لامس قضية وضع الفلسطينيين في لبنان ومآلات وجودهم هناك إنسانياً وسياسياً واقتصادياً وأخلاقياً، لكن فيلمه بقي أسير طروحات معقدة وشائكة حول ثنائية الضحية والجلاد، ولم يمتد بلمسة حدوبة على مجمل الوضع العام في لبنان، ولم يستشرف إرهاصات ثورة تمور تحت الرماد. هل يمكن النظر إليه بوصفه شرارة، خصوصاً مع عمق الحوارات التي دارت بين أطراف الصراع داخل أحداث الفيلم، وبين محامية تصدت للدفاع عن الفلسطيني في الفيلم، عندما دارت بينها وبين والدها الذي انبرى للدفاع عن عنصرية اللبناني فيه، حوارات معمقة حول إرث الحرب ونظرة الجيل الجديد إلى هذا الإرث؟
نعم يمكن النظر إلى "قضية 23" بوصفه الشرارة التي أشعلت فتيل "إنتي مين" و"كفر ناحوم" مع اختلاف الأدوات وتباين الدلالات وارتقاء الجودة لتصبح مقياساً قيمياً أخلاقياً جمالياً باتعاً، فالنوايا الصالحة وحدها لا تصنع فناً.