Print
ميسون شقير

لو كنت ميتا

4 نوفمبر 2019
آراء
أكتب لك كما لو كنت ميتا، لأننا حين نفقد شخصا مؤثرا حقيقيا في وعينا، شخصا عرفناه وتعاملنا معه قلبا لقلب، سنكتب إليه كما لم يخطر لنا أن نكتب من قبل، كما لو أننا نقول له ما كنا نريد دائما أن نقول، وما كنا نريد دائما أن يسمع.

منذ سنتين تماما كتبت مادة بعنوان الى أمجد ناصر ونهاياته الجارحة.. حينها لم تكن يا أمجد قد بدأت تعاني من أي مرض ولم تكن قد كتبت قصيدتك الأخيرة، قصيدتك التي حكمت علينا بالكي، وبقيت فينا كوشم.
اليوم أكتب إليك كما لو أنك ميت، محاكاة كمن يعيد بعضا من دين لا ينتهي، لدائن لم يطالب يوما بدينه.
لم يتردد لحظة في حمل دم المغدورين
إليك اليوم أمجد ناصر، إليك اليوم حيا وكتابك يتمشى في الحديقة، إليك ولم نعد نعرف نحن السوريين من سيحمل اليوم دم الآخر إلى آخر الأرض، وآخر الظلم والموت.
إليك وقد حملت دمنا أيها النبيل، حملته منذ حملت دم الفلسطيني حين كنت أصغر من حمل دم وقضية، يا من حملت أول شهيد في أول يوم للثورة السورية النبيلة، ووقفت في وجه سيل من المثقفين الذين أعمتهم أيديولوجياتهم الخشبية عن رؤية الظلم، وقفت ودافعت لأن حسك الإنساني العميق لم يتردد لحظة في حمل دم المغدورين.
إليك وقد ساهمت في صناعة وعي جيل كامل، فمذ كنا نحاول التعرف على أنفسنا، في بدايات الصعود العاطفي والفكري وبدايات السقوط الحر في الشعر وغواية الكتابة والقراءة، كاملين إلا من نقصنا فينا، كنا نتجه بكل شغف العاطفة وعمق الشعر معتقدين أننا سنغيّر جهة السماء، أو أننا نبعد هذي الأرض قليلاً عن مداراتها، حينها اجتاحتنا قصائدك لأننا كنا مدهوشين من أن يتجرأ شعر ما على زلزلة جدراننا التي تعبنا كثيراً كي نعمرها، وكي نعلق عليها صورنا مبتسمين وواثقين.
كان زلزالك قد بدأ فينا حين سقطت مجموعتك الأولى "الطريق إلى مقهى آخر" في قلوبنا، وأطل منها شاعر يرتدي قلماً حاداً، وروحاً برية وعرة، وكنتُ، ولفترة طويلة، كلما اشتقت للدهشة أفتش عن الجديد لدرويش، ولا أدري لماذا يعبر اسم أمجد ناصر باتجاه جبال بدوية وعرة، تربيت فيها، وتربت هي في شعرك حيث طاف نعناعها البري وطاف الشيح والقيصوم.
باغتني مرة ثانية يا أمجد حين صعدت معك  في "الصعود إلى جلعاد" ولم أكن قد أكملت الخامسة والعشرين حينها، لكن وقتها لم يكتفِ ذاك البدوي الذي هو أنت بالزلازل التي يثيرها، بل رمى على الطريق التي تفضي إلى الوعي، أنا الريفية البرية في العمق، عباءة من شعر رعوي واخز  كرائحة القهوة البدوية، ونهايات شعرية مباغتة، كنهاية طعم قهوة الأردن الجارح، ومن "سر من رآك" إلى "حياة كسرد متقطع"، كانت حدة قهوتك المرة البدوية تتحول إلى مزيج لاذع من الشعر والنثر، ومن كليهما في كليهما، وكان طعم النار التي حمصتها، يسكن في قعر الروح، ويعيد تشكيل صلصال جدراننا الهشة فينا. وحين قرأت "مرتقى الأنفاس" شيء ما في داخلي ارتعب وعرف أنني سأكون يوما كقصيدتك، كأني خفت حينها أن أرصد هوامش انكسار أبي عبد الله الصغير، وانكسارنا القادم، وكأني كنت أسكن في زفرة حسرته الأخيرة، أو كأني سكنت - من يومها- فيما كتبته يا أمجد، لأعرف أني الغريبة التي ستصل بلا ماضٍ وبلا مستقبل وعلى آخر نفس؛ "آه خفَّتي/ لقد وصل الغريب/ بلا بارحة أو غد/ وصل الغريب/ على آخر نفس".


تعرية ملامح جيل عربي كامل
بعد ذلك صدرت روايتك "هنا الوردة"، قرأتها بشغف كمن يكتشف ملامحه في بحيرة، وكعادتك في الشعر، عريت في الرواية ملامح جيل عربي كامل عاش ما بين سطوة العادات والدين والخرافة وبين المد الماركسي والحلم الخيالي الذي عشناه مع ديكتاتوريات قتلت فينا كل ما بقي.
كنت في البداية أعتقد أنك فلسطيني المولد، مثلما أنت فلسطيني الجرح والحلم، واليوم أعرف أن صوت الجرح الفلسطيني قد رحل لكن صداه يتمشى في دم كل من قرأك.
اليوم ونحن السوريين الذين وعينا على درويش وغسان كنفاني وأنت كبرنا كثيراً، ومتنا كثيراً، ورحلنا كالفلسطيني عن موتنا فينا، لم نستطع التعود على الرحيل، فالرحيل في القصائد موجع كناجٍ وحيد من المجزرة، وأصبحنا مثل شعرك ومثل كل الشعر الفلسطيني، نعتلي دمنا كي نصل إلى حريتنا، ومثله نصهل حين نموت، لكن صوت الأمهات وهنّ يزغردن للشهيد كان أكثر واقعية من الشعر، وكان أكثر وجعاً من الزغرودة الكاذبة. وكانت المسافة بين صوت الطائرات، وبين وصول القذيقة للأرض، أطول من كل مقاييس الانتظار، وأقصر من أن تؤجّل طفلة موتها خمس دقائق فقط، كي تكمل تمشيط شعر لعبتها الجميلة، أو كي يكمل الشاعر قصيدته.
اليوم أقرأ خبراً بأن أمجد ناصر قد أنهى قصيدته، ينثقب قلبي، وبالرغم من أنك كنت قد أعلنت أن الطبيب أخبرك بانتشار الإصابة، وبالرغم من أني صيدلانية، إلا أني أثق أن كل ذلك هو مجرد لعبة تلعبها مع الموت، ثم تنهيها كعادة نهاياتك الجارحة.
في نصك الأخير الذي لن يغادر الروح، مثلما روحك أيضا لم تغادر الجسد الخائن، قرأت نصا قادما من مجازات طاعنة الرمز والوضوح، معا تصرخ وتصمت في نفس اللحظة، نصا يخترق كل التسميات والمدارس الشعرية ليعيد للبدوي ناره وللنار دلالها وللدلة فناجين ترتشفنا عند كل صبح.
نعم يا أمجدنا
مالح هذا النشيد مالح، والصور في جيوب الغرقى مالحة
نحن السوريين والفلسطينيين الوحيدين في قاع البحر
لا نعرف كيف سنحمي قصائدك فينا
من أن تموت من العطش
لكننا نعرف أنك هنا، ونعرف أننا سنبقى نلوذ بشعرك كي نصل الى أرواحنا سالمين. فالوردة هنا، ومرتقى الأنفاس، وأنا سأبقى أخاطبك كما لو كنت ميتا.