Print
راسم المدهون

أحمد دحبور الشاعر الذي رأى

24 نوفمبر 2019
آراء
ولد أحمد دحبور في حيفا عام 1946 ولجأت عائلته إلى مدينة حمص السورية فعاش في مخيمها وتعلم في مدارسها وجاور أجيالا متلاحقة من شعرائها الذين سبقوه وأولئك الذين رافقهم في الشعر والحياة معا. حياته في مخيم حمص شهدت الكثير من ألوان القسوة وصعوبة العيش التي مرَ بها اللاجئون الفلسطينيون الذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام تكاليف العيش بلا عدَة وخصوصا في سنوات العقد الأول الذي أعقب نكبة فلسطين عام 1948 والتي صاغت إلى حد بعيد وعي الشاعر ونظرته للواقع والحياة وشكلت إلى حد بعيد خياراته الشعرية ونظرته للأشياء والوقائع والأحداث.


حكاية جيل النكبة
لو حاولنا اختيار عنوان لأعماله الشعرية الكاملة فلن نجد أصدق وأكثر شمولية وعمق دلالة من "حكاية الولد الفلسطيني"، المجموعة الشعرية الأولى بعد تجربة طفولية تخلى عنها بسرعة ودون أسف. "حكاية الولد الفلسطيني" هي إلى حد بعيد حكاية جيل النكبة بدءا من الخيمة وطوابير وكالة غوث اللاجئين، مرورا برحلة البحث المرير والشائك عن الشخصية الوطنية والوجود الوطني بكل ما حفل بها من تجارب بل ومن خيبات وهزائم عامة كانت بدورها تحفر في الروح وتترك ندوبا لا يمحوها الزمن.
كثير من ذلك سيحمله أحمد دحبور ويمضي به إلى تلك اللحظة التي لن تغادره العمر كله والتي كان يحلو له أن يطلق عليها لحظة "اكتشاف النار"، ولكنها هذه المرة نار الفلسطينيين التي تجسد إرادتهم وقرار وعيهم:        

"أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي

والمطر الذي يروي القمح لا يبلل الأطفال           

أذكر أن جارنا الحمال

توجني بكعكة

وقال لي: كن ملكا في الحال

وهكذا وجدت نفسي ملكا.. والذكريات جيشي

أذكر أن الجبل العظيم كان يمشي

من شفتي أبي إلى خيالي

وكانت الثمار في سلالي

كثيرة،

والنار ملء دهشتي وطيشي

وعندما تجمَع الأطفال والذباب حول بائع الحلاوة

ولم أجد في البيت نصف قرش

وعندما أمي بكت

(تنكر حتى الآن أنها بكت)

وعندما انسحبت من ملاعب الشقاوة

عرفت أن الجبل العظيم ليس يمشي

عرفت: كنت ميتا.. والذكريات نعشي

ساعتها.. وظفت ما أملكه من نار

ليحرق الذاكرة – الغشاوه

وقبل أسبوعين كان المطر المنسح

يسوط وجه طفلة وهو يروي القمح

معذرة يا سادتي.. فلست بالثرثار

إذا زعمت أنني حدثتكم عن فتح"


راوية المخيم
أبرز ما حملته مجموعة الشاعر الأولى "حكاية الولد الفلسطيني" صوت الراوية أو بدقة أكثر "راوية المخيم"، فأحمد دحبور برع في توظيف مخزون ذاكرته من الحكايا والأغنيات الشعبية وأغنيات الطفولة بالرؤى الفنية المتجددة والتي منحت شعره نكهة بالغة الخصوصية وجاءت كبشارة لزمن مختلف:

"اسمع أبيت اللعن راوية المخيم

افتح له عينيك وافهم

هذي الصفائح والخرائب والبيوت

فيها كبرت

بها كبرت

وفوضتني عن جهنم".

 

وفي مكان آخر:

"أنا الولد الفلسطيني

أنا الولد المطل على سهول القش والطين

ويوم كبرت.. لم أصفح

حلفت بنومة الشهداء،

بالجرح المشعشع فيَ،

لن أصفح".

 

هذه اللغة البسيطة والمركبة في آن ستعلي من غنائيتها لاحقاً، وبدءاً من مجموعته الهامة "طائر الوحدات"، وفيها ستعلو تلك العذوبة الجارحة التي توغلت في حداء حزين لكنه يحمل ألق النظرة المتفائلة، خصوصا في قصائد مثل "جمل المحامل" و"العودة إلى كربلاء" حيث نلحظ بنائية فنية تتأسس على تلك الغنائية التي تؤثث سلاستها بمشهدية شعرية أساسها الصور المتلاحقة والمتشابكة تضعنا أمام بلاغة السردية الغنائية حين تقبض على المشهدية وتضعها في مقام الشعر.
المعني الذي يتجوَل في شعر دحبور تحمله أجنحة مترفة بخيال خصب ومغمس برؤى الذات الفردية وما فيها من حلم يسكن روحه ويسير معه.
هنا تحضر "تجريبية" دحبور: هي تجريبية يقف الإيقاع الشعري في المركز منها إذ يندر أن "يلعب" شاعر ببنائية قصيدته بكل هذا البذخ من فسيفساء الأوزان، والتقسيم إلى شطرات، وتتابع الإيقاع باسترسال كذلك الذي نعثر عليه بقوة عند دحبور وهو الذي تحمل قصيدته كل تلك القدرة على إطراب سامعها وقارئها:

"آن أن تدركي أنني لا أسلمُ بالموتِ،

لا تضحكي،

قد أموتُ لمدة كأسين،

أو سنتين،

وإن شئتِ مجزرتينِ،

ولكن لي، بعد ثالثة، أن أقوم".
هذا الولع بالموسيقى و"موسقة" القصيدة نجده يتصاعد في مجموعته "اختلاط الليل والنهار" والتي نقلنا منها المقطع السابق وهي المجموعة التي صدرت عام 1979. دحبور في هذه المرحلة انتقل بدور "راوية المخيم" إلى ذروة أعلى ترى وتستشرف في زمن ذهبت فيه تراجيديا شعبه نحو مآلات أكثر قسوة احتاجت إلى قصيدة أكثر تركيبية تتجاوز "الغنائية الخالصة" التي طبعت قصائده الأولى (بما فيها قصائد مجموعته طائر الوحدات) وهي تركيبية قدم خلالها قراءات واقعية تحدق في السياسة وتطوراتها:

"من ثقب الباب

تأتيني الأرض مسطحة،

وأكورهُا فتدورُ،

ألازمها فأدورُ،

تقدم لي جزرا ومجازر،

صاروخا ودفاتر،

أسماءً ويداً،

تتقدم والدتي فتقول: غدا حيفا والبحر،

أقول: الحر شديد

ساعتها تستحضر بحرا طوع يديَ".

 


المشاهدة والنظر المباشر
في مرحلة لاحقة ستهبط فلسطين من علياء الحلم والمخيلة إلى المشاهدة والنظر المباشر حين يذهب دحبور إلى "الجزء المتاح" من فلسطين، كما كان يسمي مناطق السلطة الفلسطينية، حيث أمكنه من هناك الذهاب إلى مسقط رأسه ومدينة حلمه حيفا. ثمة شجن خاص سوف يصبغ حروف قصيدته فتميل إلى استحضار الوجع القديم، بل وجع العمر كله، فنراه يرى فيصدق ولا يصدق هو الذي كانت حيفا تأتيه من خلال سرديات أمه التي كانت تستعيد مدينتها بعين المحب المحروم فتحدثه عن الكرمل الذي كان يمشي والذي غابت عنه في مأساة اللجوء فعصف بها الحنين والفقر وشتات الأهل والأحبة.
علاقة دحبور بحيفا علاقة عشق من نوع آخر أجازف فأقول إنني لم أشهده بهذه الدرجة عند أي شاعر فلسطيني آخر:

"حيفا أهذي هي؟

أم قرينة تغار من عينيها؟

لعلها مأخوذة بحسرتي

حسرتها عليَ أم حسرتي عليها؟

وصلتها ولم أعد إليها".

 

تجربة أحمد دحبور حملت منذ البداية شغفا بكتابة شعرية تمور فيها تيارات روحية وفكرية لا تحصى إلى الحد الذي يجعل قصيدته تحمل مزيجا من الوطنية وهموم العيش اليومي إلى الحب والعاطفة.
المرأة لا تأتي لقصيدته باعتبارها "موضوعا" مستقلا بل تحضر في القصائد كلها وتكاد بحضورها الدائم تشكل بؤرة الضوء التي يبوح من خلالها الشاعر وتبوح القصيدة، والمرأة في الحالات كلها نشيده الدائم في رحلة حنينه الشعري والإنساني.
هو شاعر العاطفة التي تستفيد أيضا من التراث فتتفاعل معه كما رأينا في الكثير من قصائده وعبر مراحل مختلفة من تجربته الشعرية الطويلة والغزيرة وهو الذي كتب القصيدة العامية المغناة التي استند فيها إلى التراث الغنائي الفلسطيني.
هو شاعر التجربة الوطنية الفلسطينية بامتياز خصوصا وأنه نجح في إخراج القصيدة الوطنية من خطابها المباشر والصاخب وأخذها نحو المنابع العميقة لآلام الشعب إذ رسم خطوط الأمل بحبر المعاناة محتفظا طيلة الوقت بحساسية فنية عالية تنتصر لكل ما هو جميل تماما مثلما تنتصر للحياة والمستقبل، وتحتفل بالذات بالبسطاء والعاديين الذين هم مجموع الشعب وقوام الحلم المنشود الذي عبر عنه بلغة "راوية المخيم" فانتقل معه وبه إلى حالة فنية راقية تحترم الذائقة مثلما تحترم المضمون، إذ هو في التجربة كلها الشاعر الذي رأى.   


* قصيدة "زُليخَةٌ ما راودتني" بصوت الشاعر الراحل أحمد دحبور