Print
مها حسن

سورية الأوسع والأكبر التي رأيتها في نابولي

3 أكتوبر 2019
آراء
حروب الأبرياء

تحت هذا البند "حروب الأبرياء" وصلتني الدعوة إلى المهرجان الصحافي في مدينة نابولي الإيطالية في العشرين من شهر أيلول/سبتمبر الفائت، لأستغرب قليلاً تواجدي ككاتبة، رغم كتاباتي الصحافية، في محيط يركّز على العمل الصحافي فقط، في البلدان التي تقع فيها الحروب.
ووجدتني أحضّر مشاركتي، بطريقة مختلفة عما اعتدت عليه، حيث هذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى مهرجان بوصفي صحافية أولاً وكاتبة لاحقاً، وغرقتُ في الكثير من الأبحاث والمقالات بالعربية والفرنسية، والتنقيب لدى تقارير اليونيسف وأمنستي (منظمة العفو الدولية) ومراسلون بلا حدود، وغيرها، للتركيز في ورقتي البحثية على ضحايا الحرب السورية من المدنيين الأبرياء، وخاصة الأطفال والنساء، حيث طبيعة المهرجان، والتيمة الأساسية له، هي الأطفال والنساء.
ولأن المعلومات المتوافرة بكثرة متاحة للجميع، فقد حرصت على إعداد ما يشبه الشهادات، لأقدم نماذج من هؤلاء الضحايا، من خلال تجربتي الشخصية ككاتبة أولاً، وكمواطنة سورية، التقيت بالعديد من أصحاب هذه القصص غير المتوفرة في العالم المدوّن، ولا تزال أسيرة الذاكرة الشفوية.
وجدتني أمام عشرات الأوراق التي أعرف أنها ستشّوشني وتشتت تركيزي على المنصة، فلخّصت ما أرغب بتقديمه، حسب الأولويات، ضمن نقاط صغيرة، ووضعت رزمة الأوراق الكثيرة على جنب، من قبيل الاحتياط.

لم أفهم "لوغو" المهرجان الذي عُقد تحت عنوان: مكمّمون؛ حيث صورة السيارة الخضراء تتصدر جميع المراسلات اللاحقة من قِبل منظمي المهرجان: سيارة خضراء بموديل قديم.
قبل الافتتاح الرسمي، شرحت لي تيريزا، مذيعة تلفزيون "راي" الرسمية، حكاية السيارة الخضراء: سيارة الصحافي جيانكارلو سياني الذي تم اغتياله سنة 1985 في مدينة نابولي من قبل "كامورا" إحدى عائلات المافيا الإيطالية ذائعة الصيت.
عُقد المهرجان الدولي للصحافة المدنية، بدورته الخامسة، ليركّز على ضحايا الحروب من المدنيين، خاصة الأطفال والنساء، في سورية وليبيا وأفغانستان وغيرها من البلاد التي تشتعل فيها الحروب في الآونة الأخيرة.
في متحف "بان" في نابولي، حيث الكلمة هي اختصار للأحرف الأولى من قصر الفنون في نابولي، كانت حصّة سورية وأفغانستان وليبيا هي الأكبر.


كسر التوقعات
قبل ذهابي إلى نابولي، حُذّرت من أصدقاء فرنسيين وإيطاليين: انتبهي جيداً أنت ذاهبة إلى مدينة مليئة بالمافيا. حتى أن صديقتي الإيطالية التي كانت تقيم في روما قبل باريس، حيث التقينا قبل سنوات، قالت لي إنها كإيطالية، تخشى من السير وحدها في بعض الأحياء، خشية التعرض للمتاعب والأخطار ربما.
تخيلت فيلم "العراب" ورواية ماريو بوزو التي تحمل نفس العنوان، وذهبت إلى نابولي بإحساس القلق والحذر، لأصل متأخرة بساعتين عن موعدي، بسبب تأخر الطيران، فأجدني في منتصف الليل في مدينة أهابها، وأذهب إليها للمرة الأولى، قلقة من عدم العثور على السائق الذي جاء قبل ساعتين وربما غادر المطار.
إلا أنني وجدت الرجل المسن بانتظاري، لم يكن يتحدث الإنكليزية أو الفرنسية، لكنه ناولني الهاتف، لأجد "إيفا" على الطرف الآخر من الخط، تشرح لي أنها تتبّعت خط وصولي، وطمأنتني على سير الأمور بشكل مرتّب.
في الصباح، غادرت الفندق أحمل خارطة المدينة، وخرجت، كما أفعل كلما وصلت مكانا جديداً، أكتشف المكان الجديد عبر السير متتبّعة الخارطة، التي أحدد عليها فقط موقع الفندق، وموقع انطلاقي، ثم أطويها وأحفظها في حقيبتي.
بما يشبه ما نلفظه في فرنسا بساحة الشهداء، وجدت نقطة انطلاقي، حيث الفندق على مقربة من تلك الساحة، التي حددتها كعلامة في حال أضعت الطريق.
اختلطت مشاعري وأنا أحاول التعرف على المكان: أسماء المحال والشوارع بالإيطالية، لكن وجوه الناس وسحناتهم مشرقية، كما أن الطقس كان متوسطياً على الإطلاق، إذ ترتفع درجات الحرارة بأكثر من عشر درجات عن فرنسا، لأشعر أنني في بلد شرقي، كأنني في بيروت أو إسطنبول.

بعد ساعة تقريباً من تجوالي، رأيت البحر. البحر الذي لا يشبه الأطلنطي الذي أقيم قريباً منه، الأطلنطي بلونه الرمادي، أما هذا البحر، فهو أزرق داكن، والشاطئ المخصص للنزهات، يحمل بصمة بحر بيروت. الناس تسبح قبالتي، تحت حرارة الشمس الساطعة، كأنني خارج أوروبا. على الخارطة، تقع تونس قبالتي.. أنظر إلى العمارة المتدرجة بمواجهة البحر، كأنها بيوت ملونة منحوتة في الجبال، فأشعر بألفة ودفء إنساني، وأنسى كل الكلام السابق، الوهمي، عن الخوف والعصابات والمافيا.. أدخل إلى صيدلية، أتحدث مع الصيدلانية بالفرنسية التي تجيدها الشابة السمراء التي تبدو كأنها تونسية أو لبنانية أو سورية.. نتبادل بعض النكات حول اللهجة الفرنسية المنطوقة بالإيطالية، وأتابع اكتشافي للبشر المليئين بالحميمية والتلقائية وحُسن الضيافة العربية، أفكر بما سأرويه لصديقتي الإيطالية بعد عودتي: نابولي أحنّ على المشرقيين من أبناء روما، سوف أغيظها ونضحك ساخرتين من اختلاف خبرتينا.
صار ذهابي صوب البحر عادتي اليومية بعد قهوتي الصباحية في الفندق، أنزل لأثرثر مع الناس، بإنكليزية رديئة تجعل فهمهم لي مقبولاً إلى حد كبير، ألتقط الصور، وأحاول أن أتذكر أنني لست لا في بيروت ولا في تونس ولا في إسطنبول... سائق التاكسي يصافحني حين أغادر سيارته، النادل يفعل الأمر ذاته وأنا أغادر المطعم، هذا الترحاب المشرقي، يصعب العثور عليه في فرنسا المتجهّمة على الأغلب، أو في بلاد أوروبا الصارمة الملامح في وجوه مواطنيها المتذمّرين على الدوام.


فوق التوقعات
لم أكن قد سمعت بأي اسم من أسماء الصحافيين المشاركين معي في المهرجان، لا السوريين، ولا الآخرين. وحين نقّبت عن وجوه أصحاب الأسماء في محركات البحث عبر الإنترنت، لم أر الكثير من المعلومات بالعربية. شعرتُ ببعض الحذر، كما يحصل لي غالباً، قبل اللقاء بأي سوري أو سورية، لا أعرفه من قبل. هذا الحذر المشوب باحتياط الصدام في الموقف من النظام أولاً، ثم ما تتفرّع عنه من تفاصيل تتعلق بالنزاع القائم في سورية.

لم يحضر أحد من السوريين في حفل الافتتاح، الأمر الذي جعلني أتمسك باحتياطاتي من اختلاف مُحتمل، إلى أن التقيت قبل ندوتي بيوم بفؤاد رويحة، السوري الإيطالي الذي سيتقاسم معي المنصّة، لأكتشف خلال لحظات، أنه أعلى من سقف توقعاتي بكثير، ثم حدّثني عن الصبية الثالثة، أسماء، التي ستكون بيننا، وقال مازحاً: هي مثلنا تماماً.
في اليوم التالي جاءت أسماء. خلال دقائق التعارف الأولى، أحسستُ أن إحدانا تعرف الأخرى قبل سنوات: خطابنا وآراؤنا ومشاعرنا والهمّ الذي نحمله، كلها تفاصيل مشتركة، إضافة للكنتها الحلبية، التي جعلتنا نضحك طويلاً، فأنا أيضاً ابنة حلب.
بعد انتهاء الندوة الرئيسية التي شاركتُ فيها عن سورية، قال لي جاك، الصحافي السوداني: لقد عرفتُ سورية اليوم بشكل أفضل عما قبل، بفضل كلامكم أنتم السوريون. قلت لجاك: أنا أيضاً تعرفت على سورية التي لا تشبه تلك التي عرفتها، سورية أوسع وأكبر من أن نعتقد أننا نعرفها جيداً.
فؤاد المولود في سورية، والمهاجر مع عائلته في سن سبعة أشهر، وأسماء التي لا تكتب بالعربية، لكنها تقرأها، وتتحدث باللهجة الدارجة، كانا نموذجين مهمين لي، لأتعرف على سوريين غير اعتياديين. مواطنان إيطاليان، يتحدثان بالإيطالية، في البلد الذي كبرا فيه، وينتميان إلى سورية، بالقلب والفكر والهمّ الإنساني والأخلاقي.
عدت إلى فرنسا، لا لأمدح فقط نابولي التي شعرت فيها بأمان أكبر مما أشعر فيه في باريس، بل لأشكرها على تنبيهي إلى خطأ الفكرة المسبقة التي أقع فيها قبل اللقاء بالآخرين، بالبشر قبل المدن.
تفاصيل كثيرة حدثت، جعلت الكثير من الإيطاليين القادمين ليعرفوا المزيد عن سورية، يرون وجوه سورية الأخرى، تلك التي يعتّم عليها الإعلام، وهو يقدم الصور المضللة عن نزاع بين ديكتاتور علماني وفريق من الإرهابيين، الذين هم نحن، فؤاد وأسماء وأنا.. نحن الشعب الإرهابي الذي وقف مع صرخة أطفال كتبوا عبارة على الجدران، لتسقط البيوت على أصحابها، ويموت الأطفال تحت القصف، وعلى الحدود، وفي المخيمات، وفي بلاد النزوح، وتحدث جرائم مروّعة، تقودها مافيات خفيّة، يحق لي اعتبارها أشد خطورة من مافيات تحيا في الظل في نابولي، لم أرها، ولا أقلل بالتأكيد من خطرها، لكنها تخاف على الأقل من أصوات الصحافة، بينما مافيات الحرب الأكبر، تقتل أطفال سورية، واليمن، وليبيا، وأفغانستان، وفي جميع البلاد الرازحة تحت الحروب، بشرعة دولية، وفي ظل الصمت على الإجرام.

(فرنسا)