Print
أحمد العمراوي

نجيب خداري:الثابت والملحَق

2 يناير 2019
آراء

" ومن مزيجِ الحُبّ والخوف، تخلقت لدي حالٌ من تهيُّب النشر. حال لم تُكسبها السنون إلا استقرارا، لتصبح مَقاما. هو مقامُ الهيبة. ولكنَّ أحِبًّة كُثرا، قريبين وبعيدين، لم يستسيغوا أبدا أن صوتا رافقهم، منذ أواسط السبعينات، لم يُصدرْ مجموعة بعد".

نجيب خداري، يد لا تسمعني، دار الثقافة، 2005، ص: 125

 

-1-

هل الملحقُ هو التابعُ للثابت؟ نقول: ملحقة إدارية، ملحق بالسفارة، أو بالوزارة فهل للثقافة ملحقها؟ ألحقتُ الشيء بالشيء إذا أضفت التَّابع للأصل، فهل ينطبق الأمرُ نفسه على الملحق الثقافي؟ الملحق الثقافي لجريدة العلم، الملحق الثقافي للشرق الأوسط، للنهار، للسفير أو غيرها.

على مستوى الاسم يظهرُ أنَّ الملحقَ هنا هو تابعٌ للثابت وهو الجريدة السياسية، إلا أنه في العمق يأخذ استقلاليته من القيمة نفسها للملحق. ولكن لنتصور الأمر هكذا في البلدان العربية على الأقل: الملحق الثقافي هو الأصل، والتابع هو السّياسة. أي أن الجرائد تتحولُ كلّها إلى جرائد ثقافية تنشرُ الشعرَ والأدب والفكر والمتابعات يوميا عبر 20 صفحة، والتابع هو الملحق السياسي الذي يَصْدر أسبوعيا يتضمن بعض الأخبار والصور، والأنشطة الحكومية والوزارية، وأحداث القتل والاغتصاب وحوادث السير والغش والتدليس وما شابه.

لا بُدّ أن في الأمر خَللاً ما. أو أننا نَحِنّ لزمن الشاعر لسان القبيلة، أو للمثقف العضوي، أو للكاتب الأديب الذي يقامُ له ويُقعد. ليس هذا قَصْدُنا طبعا، فالثقافة هي عُمقٌ يعيش في السياسة أو هذا هو المفروض. هي طعامها في طبقٍ لن يتمّ إلا بها، فلمَ هذا الإصرار على جعلها ملحقة له؟

-2-

هل تستقلُّ الثقافة عن السياسة أثناء تثبيتها على جريدة ما؟ الجريدة الحزبية يمينة كانت أم يسارية، الجريدة المستقلة، ولكن أي استقلال؟ الاستقلال المادّي هو غير استقلال الموقف. السياسة حاضرة هنا وهناك، قد يختلف الأمر في الظّاهر ولكنَّه قد يكون غير ذلك في العمق.

المفروضُ أنَّ الجريدة المستقلة تميلُ لجهة الثقافة ولتعزيز الملحق الثقافي أكثر من جرائد الحزب. فما الذي يحصلُ في الواقع؟ نحن في سوق تحكمه النفعية. لا شيء يتحقق إلا بها ماديا أو معنويا. والثقافة، بملحقها الخاص، أين سنضعها؟ هي أيضا تخضع للنفعية ولذلك قد نصرخ مع تودوروف: الأدب في خطر. هو في خطر خارج الجريدة، في المؤسّسات الرسمية، في الجامعات، في المعارض التي تقام للكتاب، فلم نتأسف عن غياب ملحق ثقافي قارٍّ لجريدة ما؟

 

-3-

نجيب خداري شاعرٌ وكاتبٌ مغربي تميز بإصراره على الإشراف على ملحق العلم الثقافي لجريدة العلم مدة طويلة امتدت من سنة 1982 وإلى سنة 2004. خاض تجارب وحروب ثقافية معلنة وخفية. اكتسب ثقافات، وأقام علاقات وعداوات أيضا. فإشرافٌ بلا عداوة لا طعمَ له، لا بدَّ من صراع حتى يسير الوضع الثقافي على الوجه الذي عليه أن يسير عليه.

ينتظر القراء والمختصون اليوم المنتظر لصدور الملحق الثقافي لجريدة العلم الذي كان السَّبت وهو ملائمٌ لتصفح الملحق في الساعات الصباحية مع قهوة الصباح. مقالاتٌ ودراسات ومتابعات، والقصيدةُ حاضرة في كل عدد تكاد لا تغيب إلا عند الضرورة القصوى، حين يخصص العدد لشخصية أو موضوع مستقِلٍّ. الملحقُ الثقافي المستقل على مستوى الشكل والمضمون معا يحقِّق انفراجا للكتّاب بمختلف حساسياتهم. لكي تُنشر لك مادة ما على الملحق الثقافي يلزم أن تمتلك زمام اللّغة. ونجيب خداري كان في الكثير من الأحيان يتكلف بتصحيح الأخطاء الصغيرة للكتاب التي تأتي سهوا أو بسبب الطبع أو غيرها. كما يحرض على إيصال المادة في وقتها.

ما هي الخدمة التي تقدمها الملاحق الثقافية لجريدة ما؟ التعريف والتثبيت وإيصال الفكرة، وأذكر كيف داوم بعض الشعراء على النشر بالعلم الثقافي منذ الخمسينيات. أذكر عبد الكريم الطبال على سبيل المثال لا الحصر، إدمانٌ لذيذٌ. الكاتب ينشر على الملحق لا لمزاحمة السياسي وإنما لإثباتِ الوجود ولملْءِ منطقة فارغة لن تُملأ إلا بهذا المكتوب الذي نسميه الأدب والفكر وما ينتمي إليهما.

-4-

الملحقُ الأسبوعي سيتحوَّل إلى ثابت في الزمان والمكان، وإصرار بعض الكُتّاب على مداومة النشر عبر الملحق الثقافي يأتي استجابةً لرغبة إنزال الملحق محل الثّابت. الالتفات إلى الأدب والثقافة داخل السياسة أمر هامٌ. بعض الصحف تخصص صفحة يومية للثقافة ولكنّها لا تنشر القصيدة أو الدراسة النقدية. تكتفي بالمتابعات، وقد يتمُّ الخلط بين الأدب ومتعلقاته كالسينما والفن التشكيلي.

الملحق الثقافي يجب أن يأخذ استقلاليته التامة شكلا ومضمونا واستمراريةً لكي يتحول إلى ثابت يُغطِّي المناطق الفارغة في خبايا المجتمع.

نجيب خداري من الممارسين الثقافيين القلائل الذين تحملوا عبء الثقافة داخل السياسة. لم ينشرْ ديوانه الأول سوى سنة 2005 أي سنة بعد خروجه من تجربة الإشراف المباشر على الملحق. سماه يدٌ لا شهيني. يدُ الشاعر ويدُ المشرف على الشأن الثقافي في ملحق ثقافي. يَدان مختلفتان إحداهما كبَّلت الأخرى. إنَّه اختيار خدمة الآخرين أولا قبل خدمة الحاجة الذاتية لإصدار مجموعة ورقية . في ص 113 من الديوان تقول يد الشاعر:

ليدٍ من تراب

أن تحملَ الرُّوحُ انطفاءاتها

ليدٍ من تراب

أن تحفر قبرا

أن تودع القلب

جنة الماء.

لعلَّه حصار المحبة كما يسميه الشاعر المتألم بألم الآخرين. كل شاعر هو نائب عن الآخرين ألما واشتعالا باليد والقلب. يقول في نهاية مجموعته: " وها أنذا أفك حالة الحصار تلك، فاقترح عليهم في مجموعة يد لا تسمعني نصوصا لم ير أكثرها نور النشر من قبل، كتبتها سنتي 2003 – 2004. ولن أنسى، أبدا، كم يكون حصار المحبة لذيذا "[1].

          بعد ذلك بسنوات سيصدر الشاعر مجموعة شعرية متميزة هي يبتل بالضوء 2009 عن دار النهضة العربية ببيروت. إصرار يستحق التحية في زمن تكاد كل دور النشر تلغي نشر الأدب والشعر لصالح الإثارة والسياسة والجنس وما يحقق الربح المادي السريع. هي في الحقيقة يد تبتل بالضوء، يقول نجيب خداري في مستهل بابه البلل ولكن بالحب والضوء والنور:

  بالباب

وقفتُ

هل أدخلُ

وسراجي مطفأٌ؟[2]

هو دخول خافت هادئ، دخول تجربة التجميع الذاتي ( الديوان )، بعد تجربة تجميع كتابات الآخرين ( الإشراف على الملحق الثقافي للعلم ) . لذلك يصرح الشاعر في آخر مجموعة يبتل بالضوء

كي تعبر

          هذا الجسر الطويل.. إليكَ

            سر دون حفيف

كي تطير

عاليا

نُطّ من قلبك

كي ترى

            ابك كثيرا

            ودع أشجار اللوز

                        تُزهر في عينيك.[3]

 

 

 



[1] يد لا تسمعني، ص :125.

[2] يبتل بالضوء، دار النهضة العربية، بيروت ، 2009، ص: 65.

[3]  نفسه، ص: 65 – 66.