Print
د. مازن أكثم سليمان

سُؤال الهُوِيّة في شِعر خليل حاوي

30 مايو 2018
آراء

هذه مُحاوَلة نقديّة وفقَ (المَنهج النِّسْيَاقيّ) الذي ما زالَ طور البناء والتَّشكُّل عندي، والذي آملُ أنْ يساهم الإطار التَّطبيقيّ في بلورتِهِ تجريبيّاً إلى جانب الإطار النَّظَريّ بطبيعة الحال، حيثُ أبحثُ هُنا في تحوُّلات سُؤال الهُوِيّة عند خليل حاوي من النّاحية (المَعرفيّة/الرُّؤيويّة) الذّاتيّة والجَمعيّة، وذلكَ عبرَ رصْدٍ إجرائيّ لحركيّة (الدّازن الشِّعريّ) نِسْيَاقيّاً، بما هوَ المَوجود البشريّ الذي يعيش جدَليّة فَصْمِ الذات، وصراعَها الوجوديّ/الشِّعريّ بين الذّات الشّاعرة في عالَمها الوقائعيّ، والذّات الشِّعريّة في عالَمها الافتراضيّ؛ فالنِّسْيَاق عالَمٌ ينفتِحُ على مُجاوَزة ثُنائيّة (سُلطة المؤلِّف _ موت المُؤلِّف) بما هيَ ثُنائيّة مُؤسَّسة على الفَهْم الحدِّيّ التَّقابُليّ والميتافيزيقيّ لثُنائية (الخارِج/القراءة السِّياقيّة) و(الدّاخِل/القراءة النَّسَقيّة)، ليحُلَّ محلَّهُما هذا العالَم الجديد الذي أسمّيهِ بِـ: (عالَمُ النِّسْيَاق)؛ وهوَ عالَمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج نحْوَ المُحتمَل والمَجهول، والذي يُخلِّف في (قصديّة) تخارُجِهِ المُنفصِم جدَليّاً تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللُّغة عن الوجود، والتي كانَتْ ترى عالَمَ النَّصّ إمّا بوصفِهِ فعْلاً تعبيريّاً أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سِياقيّة) واعية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُسَبَّقاً ومُتعالياً عبرَ (مَركزيّةُ المُؤلِّف: السُّلطةُ الشُّموليّةُ للذّات)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شُعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالَم (موتُ المُؤلِّف: المَحْوُ الشُّموليُّ للذّات).

على أنَّ هذهِ القراءة (النِّسْيَاقيّة) تؤكِّد أنَّ مُقارَبة حركيّة سُؤال الهُويّة في شعر خليل حاوي بما هيَ مُقارَبة إجرائيّة؛ لا تعني وجود خُطوط حدِّيّة حاسِمة بين جميع مَراحِل الانبثاق الشِّعريّ، حيثُ إنَّ فَجوة تخليق القصيدة ليسَتْ سوى ذلكَ السَّديم الإبداعيّ المُكثَّف والمُتراكِب والمُعقَّد، والذي يتدخَّلُ النَّقد النِّسْيَاقيّ لتفكيك بعض ملامِحِه النَّصِّيّة، بما هو تفكيكٌ ناهِضٌ على طبيعة حركيّة فَصْمِ الدّازِن الجدَليّة في عالَم كُلّ قصيدة وكُلّ شاعر، لا بما هو تفسيرٌ مُنجَز ونهائيّ يُصادِر المُنفتَح الشِّعريّ بجهاز مَفاهيميّ قَبْليّ.

 

أوَّلاً: سُؤال الهُوِيّة الوقائعيّ، والبَحث عن الذّات:

 قال خليل حاوي:

"مرارةٌ وعارْ

تفلٌ بلا طَعْمٍ

بقايا الحُبّ، تفْلُ الحقدِ في القرارْ".

تُهيمِنُ على نسبة غير قليلة من شعر خليل حاوي حالة الضَّياع الوجوديّ النّاجمة عن التِّيه الهُوِيّاتيّ، ويتحوَّلُ هذا التِّيه ليسَ فقط إلى شُعور حادّ بالدّونيّة واليأس والنُّكوص النَّفسيّ، بل إلى إحساس عارم بالحقد على الذّات يصلُ إلى حُدود مازوشيّة أو ساديّة تنعكِس عليها بالوحشة والتَّوحُّد والانغلاق، كأنَّ الشّاعر يتقمَّصُ أحياناً آخَرَ ذاتِهِ، أو آخَرَ قومه، في علاقة تمزُّق مُتعدِّدة الطَّبقات. قالَ حاوي:

"عمِّق الحُفرةَ يا حفّار

عمِّقها لقاعٍ لا قرار".

يبلغُ اليأسُ الوجوديّ عند الشّاعر مبلغ التَّماهي مع فكرة الموت، فالرُّؤى السَّوداء تتقدَّمُ على نحْوٍ عدميٍّ لأنَّ الأسئلة الهُويّاتيّة عندَهُ لا تجدُ أجوبةً تمنحُهُ التَّوازنَ الفكريّ والحضاريّ، والمَسألةُ لا ترتبط بهُوِيّةٍ مُنجَزة ومُكتمِلة مُسَبَّقاً ينهَضُ عليها أناهُ الفرديّ والجَمعيّ فحسب؛ إنَّما ترتبِطُ أيضاً بانغلاق الأُفُق الوجوديّ، والعجز عن افتتاح حركيّة هُوِيّة فاعِلة في العصر، وهو الأمر الذي كانَ مُهيمِناً على مُعظَم الشُّعراء العرب في القرن العشرين، لهذا نجد الشّاعر يقول:

"لماذا اختنقَتْ بالصَّمتِ والغُبارْ

صحراءَ كلسٍ مالحٍ بَوَارْ

وبعدَ طَعْمِ الكلسِ والبَوَارْ

ألْعَتْمةُ الْعتْمَةُ فارَتْ مِنْ

دهاليزي، وكانَتْ رطبةً

مُنْتِنةً سخينهْ".

من المُفيد الوقوف دلاليّاً هُنا عند مُفردتَي "الصَّحراء" و"العتمة"، فهُما تُؤطِّران الجرح النَّرجسيّ الوجوديّ عند الشّاعر، ذلكَ أنَّ "العتمة" هيَ ما يلفُّ أسئلةَ الهُوِيّة برؤى اليأس والقنوط والضَّياع، في حين أنَّ "الصَّحراء" هيَ رمز العروبة الثَّكلى حضاريّاً في المُستوى الوجوديّ الوقائِعيّ، مع التَّذكير بتحوُّلات الذّات الشّاعرة (إيديولوجيّاً) عند خليل حاوي من الفكر السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ إلى الفكر القوميّ العربيّ في مرحلة لاحِقة، وهذا أمرٌ يُمكِنُ تأويل المقطع الشِّعريّ الآتي بناءً عليه:

"أتُراهُ كانَ لي يومٌ مُعافىً ونضيرْ

أم حكاياتُ ثلوجٍ مدَّها

البُحرانُ في وهْجِ الهجيرْ؟

كُلُّ ما أذكرُهُ أنِّي أسيرْ،

عُمرُهُ ما كانَ عُمْراً،

كانَ كهفاً في زواياهُ

تدبُّ العنكبوتُ

والخفافيشُ تطيرْ".

يتساءَلُ حاوي الباحث عن هُوِيَّتِهِ الذّاتيّة والجَمعيّة من حيثُ المبدأ قائِلاً: ""أتُراهُ كانَ لي يومٌ مُعافىً ونضيرْ/ أم حكاياتُ ثلوجٍ مدَّها/ البُحرانُ في وهْجِ الهجيرْ؟"، لكنَّ هذا التَّساؤل المُنطوي على رغبة إيجاد توازن هُوِيّاتيّ حضاريّ عبرَ استحضار الماضي الجَمعيّ الجَميل، لا يكادُ يخطرُ على بالِهِ حتّى يتلاشى أمامَ حجم الخُذلان الوجوديّ الوقائعيّ، فَالتَّجربة الذّاتيّة في ماضيه الشَّخصيّ أو في الرّاهن العام تدفعُهُ إلى القول: "كُلُّ ما أذكرُهُ أنِّي أسيرْ"، وهُنا مكمن الأزمة الحضاريّة العربيّة التي تُحيط بالذّات الشّاعرة التي لا تجدُ بصيصَ ضوءٍ تُطلُّ عبرَهُ على مُستقبَلٍ مُغايِر، وعلى العكس من ذلكَ تُهيمنُ مُطابَقاتُ الرُّؤى السَّوداء المُغلَقة على الشّاعر، ولا يعايش إلّا تشظِّي ذاتِهِ الوقائعيّة في ضوء تشظِّي الذّات القوميّة الجَمعيّة. قال حاوي:

"قبلَ أنْ تنحلَّ أشلاءُ السَّجين

رُمَّةً، طيناً، عِظاماً

بعثرَتْها أرجُلُ الفيرانِ

رثَّت من سنينْ

كيفَ تلتَمُّ وتحيا وتلينْ

كيفَ تخضرُّ خُيوطُ العنكبوتْ".

إنَّ تشظِّي الهُويّة عند حاوي "السَّجين" مثله مثل الذّات القوميّة الجَمعيّة المُتشظِّيّة والمُمزَّقة والمُبعثَرة، لا يمنَعُهُ على الرَّغم من كُلّ عدَميّة الرُّؤى السّوداويّة المُغلَقة من البَحث عن منفذ ما أو مَخرَج ما يُقدِّم حلّاً كيانيّاً (حضاريّاً) مُزدوَجاً لذاتِهِ الفرديّة وللذّات الجَمعيّة، وهذا أحد أهمّ مَحاوِر حركيّة هجرة سُؤال الهُوِيّة عندَهُ من العالَم الوقائعيّ إلى عالَم القصيدة الافتراضيّ كما سأوضح في الجزء الآتي.

 

 ثانياً: حركيّة هِجرة سُؤال الهُويّة من العالَم الوقائعيّ إلى عالَم القصيدة:

قالَ الشّاعر:

"وحدي على انتظارْ

أفرَغْتُ داري مرَّةً ثانيةً

أحيا على جمرٍ طريٍّ طيِّبٍ وجوعْ

كأنَّ أعضائي طُيورٌ

عبَرَتْ بحارْ

وحدي على انتظارْ".

لم تستطعْ الذّاتُ الشِّعريّة الافتراضيّة للشّاعر (وللوهلةِ الأُولى) أنْ تتحاشى طُغيان مركزيّة سُلطة الذّات الشّاعِرة الوقائعيّة عبرَ سَطوة أسئلة الهُوِيّة الوقائعيّة، لذلكَ هاجَرَتْ هذِهِ الأسئلة إلى عالَم القصيدة، لكنَّ أساليبَ وجودِها أظهَرَتْ نوعاً من الالتزام الكيانيّ الوجوديّ بالبَحث عن مَخرَج حضاريّ للاستعصاء التّاريخيّ الذي تعيشُ بهِ الذّات القوميّة الجَمعيّة، وهو التزامٌ يشوبُهُ الشُّعور العارِم بالاغتراب: "وحدي على انتظارْ"، لكنَّ ذلكَ لا يمنَعُ الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة من تبنّي الهَمّ الجَمعيّ كما نُلاحظ في المقطع الآتي:   

"في ليالي الضِّيقِ والحرمانِ

والريحِ المُدوِّي في متاهاتِ الدُّروبْ

مَنْ يُقوِّينا على حَمْلِ الصَّليبْ

مَنْ يَقينا سَأمَ الصَّحراءِ،

مَنْ يَطْرُدُ ذلكَ الوحشَ الرَّهيبْ

عندما يزحَفُ من كهفِ المغيبْ".

لعلَّ هِجرة سُؤال الهُوِيّة في هذا المقطع بوصفِهِ سُؤالاً قوميّاً جمعيّاً ينتقلُ من الهَمّ اليوميّ العابِر إلى الهَمّ الكونيّ الكُلِّيّ عند خليل حاوي، تظهَرُ (أي هذِهِ الهجرة من الذّات الشّاعرة الوقائعيّة إلى الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة) مَحمولةً على (نا) الدّالّة على الجَماعة، حيثُ يَمتزِجُ الذّاتيّ بالجَمعيّ، ويتحوَّلُ الرّاهنُ إلى وجودٍ يتحسَّسُ كيانَهُ التّاريخيّ الكُلِّيّ انطلاقاً من تشظِّي الذّات الشّاعِرة الوقائعيّة وتمزُّقِها العارِم بفعْلِ سُؤال الهُوِيّة الذي هاجَرَ إلى الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة، فلم تستسلِم إلى الأُفُق الوقائعيّ العدَميّ المُغلَق، بادِئةً رحلة الدِّفاع عن الكينونة، والبَحث عن مُمكِناتٍ وجوديّةٍ ما كما يُبيِّنُ المقطع الآتي:

"إخرسي يا بُومةً تقرَعُ صدري

بومَةُ التّاريخِ منِّي ما تُريدْ؟

في صناديقي كنوزٌ لا تَبيدْ:

فرحي في كُلِّ ما أطْعَمْتُ

من جوهرِ عُمْري".

وعلى هذا النَّحو، تنبسطُ أساليبُ وجود (الالتزام) عند خليل حاوي، لا بما هو التزامٌ إيديولوجيّ؛ إنَّما بما هو التزامٌ حضاريّ يُنقِّبُ عبرَهُ عن مَخرَج هُوِيّاتيّ قوميّ يُنهي انغلاق الذّات والتّاريخ الجَمعيّ، ولذلكَ نجده لا يفصلُ في الكثير من أساليب وجود ذاتِهِ الشِّعريّة الافتراضيّة بينَ تشظِّي ذاتِهِ الوقائعيّة، وتشظِّي الذّات الجَمعية، فها هو ذا يقول في المقطع الآتي: "وجهيَ المنسوجَ من شتّى الوجوهْ/ وجهَ مَنْ راحَ يتيهْ"، ذلكَ أنَّ (التّيه) تيهٌ وجوديّ كيانيٌّ حضاريّ يُخفي أصالةَ الذّات الحضاريّة التي تنتظِرُ فرصةَ انفتاح أُفُق العودة إلى الحُضور كما يتمنّى الشّاعر. قال حاوي:

"أدري أنَّ لي وجهاً طريّاً

أسمراً لا يعْتريهْ

ما اعترى وجهي

الذي جارَتْ عليهِ

دمغَةُ العمر السَّفيهْ

وجهيَ المنسوجَ من شتّى الوجوهْ

وجهَ مَنْ راحَ يتيهْ".

 

ثالثاً: حركيّة هِجرة سُؤال الهُويّة من عالَم القصيدة إلى العالَم الوقائعيّ (الهِجرة المُعاكِسة):

قال الشّاعر:

"بيني وبينَ البابِ أقلامٌ ومِحبَرَةٌ

صَدَىً مُتأفِّفٌ،

كُوَمٌ من الوَرَقِ العتيقْ.

هَمُّ العبور،

وخطوةٌ أو خطوتانِ

إلى يقينِ البابِ، ثُمَّ إلى الطَّريقْ".

تسعى الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة إلى اقتراحِ أساليب وجودٍ مُغايِرة عند خليل حاوي، وتدفَعُ بهذِهِ الأساليب إلى عالَم الذّات الشّاعرة الوقائعيّة في حركيّة عكسيّة تنجمُ عن مُكابَدةِ هُوِيّاتيّة وحوارٍ (مَجازيّ/اغترابيّ) عاشَ الشّاعرُ هَمَّهُ في عوالِم قصائِدِه، باحِثاً عن المَنفذ الحضاريّ المَفقود الذي يُمكنُ أنْ يحقِّقَ التَّوازن الهُويّاتيّ الفرديّ والجَمعيّ، ولهذا تبدو الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة كأنَّها عبرَ التزامِها بِـ "هَمُّ العبور"، تُبشِّرُ بمَخرَجٍ حضاريّ ما لم يعُد يفصل الشّاعر عنه سوى خطوة أو خطوتين: "وخطوةٌ أو خطوتانِ/ إلى يقينِ البابِ، ثُمَّ إلى الطَّريقْ"، لكنْ ما ماهيّة هذا اليقين المُوصِل إلى الطَّريق، وما الذي يراهُ الشّاعر، ولا يراهُ غيرُهُ حينما يقول:

"هل تحوَّلْتُ إلى طيفٍ

يَرَى ما لا يُرَى؟".

وفي الإطار نفسِهِ، ما دلالة المَنبع الذي يراهُ الشّاعر في المقطع الآتي، وما مَعنى مَوسِمُ غضَبِ الرّيح الذي يُبشِّر به قائلاً:

"وأرى الرِّياحَ تسيحُ، تنبعُ

من يدَيْها:

منبع الريحِ المُعطَّرة الجنوبْ

ومنابعَ الريحِ الطَّريّةِ والغضوبْ

للريحِ موسمُها الغضوبْ".

إنَّ القلَق (الالتزاميّ/الاغترابيّ) الذي كابَدَهُ الشّاعر، فأغلَقَ أُفُقَ عالَمِهِ الوقائعيّ على الضَّياع واليأس والعدَميّة، ثُمَّ مُتابَعة دِربة الصِّراع ضدَّ هذا التِّيه عبرَ مُكابَدات أساليب وجودِ ذاتِهِ الشِّعريّة الافتراضيّة في عالَم القصائد، دفَعَ بهذِهِ الذّات إلى إنجاز (هِجرة مُعاكِسة) نحو العالَم الوقائعيّ هيَ في جوهرِها (ردّ هُجوميّ) على التَّشظّي والتَّمزُّق الهُويّاتيّ الذّاتيّ والقوميّ الجَمعيّ، (أي ردّ على الرُّؤى السّوداويّة العدَميّة والشُّعور بالهزيمة الحضاريّة)، بفكرة (الانبعاث التَّمّوزيّ) بوصفِها حامِلاً رمزيّاً لأساليب وجود تخليق الهُوِيّة القوميّة الحضاريّة، فها هو ذا يقول:   

"... ذلكَ الغولُ الذي يُرْغي

فيُرغي الطّينُ محموماً، وتنحَمُّ المواني

وإذا بالأرضِ حُبلى تتلوّى وتُعاني

فَوْرَةً في الطّينِ من آنٍ لآنِ

فَوْرَةً كانت أثينا ثُمَّ روما...!".

وهكذا، اكتمَلَتْ أخيراً حركيّة سُؤال الهُوِيّة عندَ خليل حاوي، وقامَتْ ذاتُهُ الشِّعريّة الافتراضيّة بالرَّدّ على اغتراب ذاتِهِ الشِّعريّة الوقائعيّة في مُجتمعِها القوميّ الذي استعصَتْ ولادتُهُ الحضاريّة، ببسط هذا الانبعاث الشَّبيه بانبعاث حضارة أثينا وروما، حيثُ يُبشِّرُ الشّاعر بتخليق الهُوِيّة الحضاريّة العربيّة من جديد، وبعالَم الغد الإبداعيّ الخصب الذي ينهَضُ انطلاقاً من هدْمِ العالَم القديم البالي، ليُقدِّمَ الشّاعرُ ما يُشبِهُ (غنائيّة الهِجرة المُعاكِسة: الولادة الجديدة) المُنطوية على (كشف) الذّات الفرديّة والجَمعيّة القوميّة، وإعادة خَلْقِها، خَلْقاً يحتفي بالمُمكِن والمُحتمَل والمَجهول، ويليقُ بالعُمْق (الوجوديّ/الحضاريّ) لشعب هذِهِ المنطقة الذي يحقُّ لهُ أنْ يجدَ أجوبةً مَفتوحة وحُرّة وحيويّة تفتَحُ أُفُقَ وجودِهِ التّاريخيّ الفاعِل، وتُنهي الانغلاق العدَميّ لطبقات الهُوِيّة الحضاريّة المَهدورة عبرَ قرونٍ طويلة، قالَ خليل حاوي:

 "يا إلهَ الخصبِ، يا بعلاً يفضُّ

التُّربةَ العاقِرَ

يا شمسَ الحصيدْ

يا إلهاً ينفضُ القبرَ

ويا فصحاً مجيدْ،

أنتَ يا تمُّوزُ، يا شمسَ الحصيدْ".

وقالَ أيضاً:

"يا إلهَ الخصبِ، يا تمُّوزُ، يا شمسَ الحصيدْ

باركِ الأرضَ التي تُعطي رجالاً

أقوياءَ الصلب نسلاً لا يَبيدْ

يَرِثونَ الأرضَ للدَّهرِ الأبيدْ

باركِ النَّسْلَ العتيدْ

باركِ النَّسْلَ العتيدْ

باركِ النَّسْلَ العتيدْ

يا إلهَ الخصبِ، يا تمُّوزُ، يا شمسَ الحصيدْ".

  

* شاعر وناقد سوريّ