Print
محمود عبد الغني

اليوميات الخاصة: هل يجب كتابة كل الحقيقة؟

8 ديسمبر 2018
آراء
 مرّة أخرى يحفر الفرنسيون في المكان ذاته. فبعد أعمال هائلة يصعب حصرها، فهي تصل إلى الآلاف بين كتب ومقالات ودراسات وتحقيقات وببلوغرافيات، ارتبطت بأسماء بعينها: فيليب لوجون، بياتريس ديديي، ميشيل برود، وآخرون، عادت المجلية الفرنسية الفصلية "لير" لتخصصملفا لجنس "اليوميات الخاصة"، تضمّن حواراً مع رائد ومنظّر الكتابات الذاتية "فيليب لوجون"، ومقالات أخرى تمحورت حول حقيقة خطاب هذا النوع من الكتابة، وطبيعة ضميرها النحوي "أنا".

      إن هذا الدفتر الساحر الذي نكتب عليه يومياتنا، ووقائعنا الخاصة، وأسرارنا التي يصعب البوح بها، والذي نضعه قرب رؤوسنا ونحن ممددون على الأسرة، في مراهقتنا أو شيخوختنا، سواء كنا إناثاً أو ذكوراً، ونخط عليه أحزاننا ومخاوفنا وأحلامنا، هو ليس فقط كرّاس أو مجموعة أوراق نحبّرها في نهاية كل يوم، أو بداية كل مساء، إنه كذلك وأكثر قليلاً، إنه طبيب نفسي، إنه وعاء نفسي لا شبيه له أبداً.

  لكن السؤال الذي طرحه محرّر العدد هو: إذا كان سرد حياتنا يوماً بيوم هو نشاط ينتمي إلى الكتابة، فهل ذلك كافٍ لجعل اليوميات الخاصة جزءاً من الأدب؟ ثم ترك الإجابة الفعلية لسبع مقالات وحوار أثبت جميعها أن اليوميات الخاصة كتابة قوية ومختلفة ذات شكل فعّال وذلك ما يجعلها تحتل مكانتها المعتبرة داخل مملكة أجناس الأدب. وقد لمّح منذ البداية لأسماء كبيرة رفدت الأدب بعبقرية خاصة: آن فرانك، فرانز كافكا، أندري جيد، فيرجينيا وولف، بول ليوتار، جيل رونار، هيرفي غيبير... 

ازدراء "برونتيير" و"تيبودي" ودفاع أناتول فرانس

    إلى حدود القرن الثامن عشر كانت اليوميات الخاصة لا تحضى بالاحترام. ولم تكسب شرعيتها الأدبية، مثلها كتب الاعترافات والسيرة الذاتية، إلا مع انبثاق مقولات الفضاء الخاص وانتشار مفاهيم التحليل النفسي.

  في سنة 1880 ظهر إلى العلن كتاب يوميات أثار الانتباه يحمل عنوان "شذرات من يوميات خاصة"، نشره أستاذ لمادة الفلسفة من سويسرا يدعى "هنري فريدريك أمييل" (1821-1881). جاء الكتاب في 17000 صفحة كتبها على مدى ثلاثين سنة، عبّر فيها عن شقاء كائن ينهشه التأمّل ونزعة التأجيل، ممزّق بين المسيحية والهندوسية:" نوم الرغبة، عطالة الطاقة، تراخي الوجود، كم أعرفكم. أحبوا، احلموا، أحسوا، تعلموا، استوعبوا، أستطيع التخلي عن كل شيء إذا جُرّدت من الرغبة."

   بعد هذه اليوميات، ظهر كتاب آخر صدم العقليات المحافظة، لصاحبته الفنانة الروسية "ماري باشكيرتسيف" (1858-1884)، التي توفيت وهي في سن الخامسة والعشرين. كتبت في يومياتها عن حياتها المليئة باللذات في المدن الأوروبية الكبرى، وعن حبها لشاب ينتمي لعائلة من النبلاء الإيطاليين، عن لقاءاتها مع الروائي الفرنسي إيميل زولا، وغي دي موباسان، والأخوين غونكور.

 ورغم نشر هذه اليوميات بطريقة تكاد تكون مجهولة، إلا أنها أثارت انتباه النقاد. لكن كان هناك من وقف موقف العداوة من هذه الكتابات، هو "فيرديناند برونتيير"، الأستاذ بجامعة السوربون ومدير "مجلة العالمين". ف"الكتابات الشخصية" في نظره هي مجرد جنس بسيط، أنثوي، طفولي. وبعده جاء ناقد آخر لا يقلّ شهرة هو "ألبير تيبودي"، الذي ساند "برونتيير"، وأكّد أن "السيرة الذاتية" جنس أدبي مزيّف، واليوميات هي "فنّ من ليسوا فنّانين، والرواية فنّ من ليسوا روائيين". لكن "أناتول فرانس" قدّم مرافعة بقيت معزولة:" ننتقد الناس حين يتحدّثون عن أنفسهم، رغم أن ذلك هو الموضوع الذي يجيدون تناوله بطريقة أفضل."

عصر الأنوار، الطبقة البورجوازية ومفاهيم الفرد

      بقيت "اليوميات"، لوقت طويل، مجرّد تأشير يومي على أحداث خارجية، دون رغبة في النشر. لكنها سرعان ما اتخذت أشكالاً أخرى مع كتاب "مقالات" ل"مونتين"، و"الاعترافات" لجان جاك روسو. وفي نهاية القرن الثامن عشر، مع مجيء ، والطبقة البورجوازية، وظهور الشخصية الفردية، تشجّع الأدباء، والناس عموماً، على كتابة اليوميات الخاصة ونشرها.

  لكن اليوميات الخاصة لم تنل شرعيتها الأدبية ("المخطوط" يصبح "كتاباً") إلى عشية الحرب العالمية الثانية مع افتتاح المكتبة الجديدة "لابلياد" بنشر "يوميات أندري جيد" وهو على قيد الحياة. نقرأ في السطر الأول، المؤرّخ في 10 شتنبر 1939، تسعة أيام على اجتياح بولونيا من طرف "الفيرماخت" (قوة الدفاع الألمانية):"نعم، كل ذلك يمكن أن يختفي، هذا المجهود الثقافي الذي كان يظهر لنا محبوباً...". وهذا دليل على أن اليوميات يمكن أن تكون خاصة دون أن تكون حساسيتها هي الموضوع.

  في سنة 1935 نشرت الفيلسوفة الفرنسية "سيمون وايل" (1909-1943) "يوميات معمل"، ألم تكن يوميات عن الشرط العُمّالي، حيث ال "أنا" غائبة؟ وما القول عن يوميات فرانز كافكا، التي كتبها بين 1910 و1923؟

    وعكس ذلك، كانت الرغبة في "الاعتراف أمام الملأ ببعض نقاط الضعف حيث تخجله بعض الوضاعات" هي مشروع "عصر الإنسان" للشاعر الفرنسي ميشيل ليريس، والتي نُشرت سنة 1939. وبعد أربع سنوات نشر "بول ليوتار" "يوميات مختلفة" تحدث فيها عن مغامراته الغرامية مع "ماري دورموا" كاتبته، وطباخته، وعشيقته.

  وشهدت الستينيات تحرير القول الشخصي على أثير الإذاعة والتلفزيون، كما أن تعميم مبادئ التحليل النفسي شجّع، من جهة أخرى، "الكتابة الذاتية".

  هذا هو المناخ الأدبي والنفسي الذي ساهم في انتشار كتابة اليةوميات والسير الذاتية، وقد بدأ الكتاب والمنظرون يعودون إلى مقولات قصيرة لا تتعدّى الجمل: "أنا هو الآخر" لرامبو، و"السيدة بوفاري هي أنا" لغوستاف فلوبير.