Print
محمد م. الأرناؤوط

التنازع على نسبة القهوة والربابة إلى ثقافة شعب ما

28 ديسمبر 2018
آراء
في آخر مقالة لأمجد ناصر ("هزّ الفنجان" في "العربي الجديد" 26/11/2018 ) تناول تقاليد شرب القهوة والشاي من الأردن إلى المغرب، وما يرتبط بهما من طقوس ورموز ثقافية، وتساؤل بحق عن إهمال الباحثين لهذا الجانب الثقافي للقهوة في المجتمعات العربية. وفي حدود ما أعرف فإنّ أمجد ناصر أفضل من يكشف عن تقاليد شرب القهوة في مضارب البدو بشرق الأردن قبل أن يصبح إمارة ودولة، تلك التقاليد التي استمرت حتى الآن تقوم بدورها في الجاهات وحلّ النزاعات في المجتمع الحضري الأردني. وعلى الرغم من هذه التقاليد الراسخة لـ "لقهوة العربية" (المُرّة) في التاريخ الثقافي للمنطقة، والتي انتقلت منها في القرن السادس عشر (بعد الفتح العثماني) إلى اسطنبول ومنها إلى بقية أرجاء أوروبا، فقد سبقت تركيا غيرها بتسجيل "القهوة التركية" وما يرافقها من طقوس في منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (اليونسكو) باعتبار تراثا إنسانيا  في دورة تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، وهو ما لم تتحفظ  عليه دولة من دول المشرق التي عرفت القهوة أولا وحافظت على طقوسها الثقافية في المجتمع.

إلا أن الأمر يتكرّر الآن بشكل مختلف مع تراث ثقافي (إلقاء الشعر الملحمي مع الرباب) منتشر في غرب البلقان من ألف عام ونيف بعد أن قامت صربيا بتسجيل هذا التراث في الدورة الأخيرة لليونسكو، الذي عقدت في مدينة بورت لويس بجمهورية موريشيوس في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم. فما أن انتشر الخبر حتى قامت ردة فعل فورية من الدول التي تحتضن هذه الثقافة، التي تتمركز في سلسلة الجبال الدينارية وتغطّي حاليا دول سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وصربيا والجبل الأسود وكوسوفو وألبانيا، في احتجاج على قيام صربيا بتسجيل هذا التراث باسمها فقط. ومن هنا فقد بادرت ألبانيا والجبل الأسود (مونتنيغرو) إلى المبادرة والتواصل مع الدول المعنية للقيام بعمل جماعي للدفاع عن هذا التراث الثقافي الذي أصبح فجأة مسجلا باسم دولة واحدة فقط.

وفي الواقع إن الباحثين منقسمون حول اسم الآلة الموسيقية التي تتألف من وتر واحد، وتكون دائما في وضع أفقي تستند إلى حضن الذي يعزف عليها وهو يردّد الشعر الملحمي الذي يتناول الشخصيات البطولية الأسطورية التي دافعت عن الشعب في وجه "الأعداء". ففي اللغات السلافية الجنوبية (السلوفينية والكرواتية والبوسنوية وغيرها) تمسى هذه الآلة "غوسله" gusle ويسمّى المنشد الذي يعزف عليها ويردّد الشعر الملحمي عن الأبطال الأسطوريين "غوسلار" guslar، بينما تسمى في الرومانية والألبانية "لاهوت" lahut.

وعلى حين يذهب قسم من الباحثين إلى أن هذه الآلة الموسيقية جاءت البلقان مع قدوم القبائل السلافية إلى شبه جزيرة البلقان في القرن 5-6 للميلاد واستيطانها هناك بعد معارك كثيرة من أبناء المنطقة الأصليين، يذهب القسم الآخر في الغرب وعلى رأسهم ف. ساكس F.Sachs إلى أن اسم الآلة الموسيقية يدلّ بوضوحها على الأصل العربي لها (العود) الذي وصل وانتشر في غرب البلقان مع الوجود العربي المجاور في صقلية وغيرها منذ القرن التاسع الميلادي.

وكان الألبان، الذين يعتبرون إنشاد الشعر الملحمي عن الأبطال الأسطوريين بمصاحبة الرباب من تراثهم الذي يعود إلى ألف سنة، قد أعدّوا في كوسوفو منذ 2013 الملف المطلوب لتقديمه إلى اليونسكو لتسجيله ضمن التراث الإنساني العالمي. ولكن نظرا لأن كوسوفو لم تكن عضوة في اليونسكو فقد تم تأجيل الطلب إلى 2015 حين تقدّمت بطلب للعضوية، ولكن عدم انضمامها حال دون ذلك.

ومن أشهر المنشدين/ العازفين على الرباب في كوسوفو الآن عيسى الياسي، الذي يعيش في قرية كوشوتان بمنطقة روغوفا بغرب كوسوفو المجاورة لألبانيا، وهي المنطقة المتداخلة مع ألبانيا التي تعتبر الأكثر غنى بهذا التراث الشعبي الذي حافظ على نفسه حتى الآن بفضل هؤلاء المنشدين/ العازفين. ومع أن المنشد/ العازف عيسى الياسي يبلغ من العمر الآن 73 سنة إلا أنه حين يسأل عن عمره يجيب بأنه أكثر من 300 سنة لأنه يحفظ حوالي 3500 بيت من الملاحم الشعرية المتعلق بالأبطال الأسطوريين عند الألبان.

وكما هو الأمر عند الشعوب الأخرى، فإن الشعر الملحمي الألباني عن الأبطال الأسطوريين يتناول أيضا الدفاع المجيد لهؤلاء الأبطال عن شعبهم في مواجهة "الأعداء". ومن الواضح هنا أن هؤلاء الأبطال الذين يذكرون بأسمائهم وأعمالهم التي خلّدتهم لهم أصل تاريخي في الحروب التي دارت بين شعوب البلقان خلال أكثر من ألف سنة، ولكن الملاحم تعلي من شأنهم كثيرا وتنسب إليهم بطولات أسطورية. ولكن، من ناحية أخرى، لا يوجد شك في أنه هذه الملاحم الشعرية التي كانت تُنشد في المناسبات المختلفة كان لها أثرها في تعزيز الانتماء إلى الجماعة في مواجهة "الأعداء".

ومع التقدير الكبير لهذا التراث الملحمي الذي يصل إلى مئات الألوف من الأبيات الشعرية لدى شعوب البلقان، الذي كان يمكن أن يكون إرثا ثقافيا مشتركا، جاءت المبادرة الصربية لتثير الحساسيات من جديد بين شعوب البلقان في هذه الفترة بالذات التي تتسم بخلافات ونزاعات قديمة- جديدة تعيد إلى الأذهان أجواء التسعينات للقرن الماضي كما أشارت إلى ذلك جريدة "الفيغارو" الفرنسية قبل عدة أيام (عدد 7/12/2018). ومن يتتبع صحافة البلقان يجد أنه لا يمر يوم دون تصريحات عن هذه النزاعات القديمة- الجديدة بين صربيا من ناحية وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود وكوسوفو وألبانيا من ناحية أخرى، أي في الدول التي تعتز بهذا التراث الشعري الملحمي المصاحب لعزف الرباب والتي تستعد الآن لإثارة هذا الموضوع.       

وبعبارة أخرى، إن الرباب بين شعوب البلقان هو كالقهوة بين شعوب الدولة العثمانية ، فيها ما هو مشترك وفيها ما هو خاص بكل شعب من الاسم (القهوة العربية، القهوة التركية، القهوة البوسنوية، القهوة اليونانية إلخ) وحتى الطقوس المصاحبة لإعدادها وتقديمها، وهو ما يمكن أن يسمح بإدراج الرباب ضمن هذه المقاربة دون أن يعني هذا احتكار دولة ما لثقافة الآخرين. ومن هنا قد يحل هذا الإشكال الطلب الذي قُدّم من قبل أربع دول بلقانية (كرواتيا والبوسنة والجبل الأسود وألبانيا) إلى اليونسكو في مطلع هذا الشهر لضم التراث الشعبي في هذه الدول إلى ثقافة إنشاد الشعر الملحمي المصاحب للعزف على الرباب.