Print
محمد م. الأرناؤوط

الإبداع الشعري عند العرب والفرس

17 ديسمبر 2018
آراء
صحيح أن "الشعر ديوان العرب"، لكن الفتوحات العربية الإسلامية ثم الفتوحات العثمانية وسّعت دائرة الشعر العربي من ناحية وقاربت بين شعراء العرب والفرس والترك سواء من حيث الشكل (بحور الشعر العربية) أو من حيث الموضوعات المطروقة (تقليد "قصيدة البردة" إلخ). وما إن يُذكر هذا الموضوع حتى يرد إلى الذهن العالم المصري حسين مجيب المصري (1916-2004) الذي أسّس لقاعدة معرفية في هذا المجال بدءا من كتابه "صلات بين العرب والفرس والترك" و"الأسطورة بين العرب والفرس والترك" وحتى كتبه الأخيرة "مصر في الشعر التركي والفارسي والعربي" و "القدس الشريف بين شعراء الدول الإسلامية" وغيرها.

 لكن مع هذا الكتاب الصادر مؤخرا عن جامعة سراييفو (سراييفو 2018) للأكاديمي أسعد دوراكوفيتش بعنوان "الشعر الكلاسيكي في العربية والفارسية والتركية: مقاربة جمالية" تتوسّع دائرة البحث ونتائجه في هذه الآداب الثلاثة. ففي البوسنة أيضا، كما في أرجاء أخرى من البلقان، برز خلال الحكم العثماني الطويل شعراء يبدعون في هذه اللغات الثلاث تأثرا بما وصل إليه التراث الشعري عند هذه الشعوب الثلاثة. ومع تأسيس قسم الاستشراق في جامعة سراييفو ومعهد الدراسات الشرقية في سراييفو في 1950، تطورت النظرة إلى هذا التراث الشعري البوسنوي المكتوب باللغات العربية والفارسية والتركية بعد أن أصبح يُعتبر من التراث المحلي أيضا، وأصبح موضوعا لرسائل ماجستير وأطروحات دكتوراة ودراسات متعددة تدرسه وتترجمه وتقارنه بغيرها إلخ.

 إلا أن الكتاب الجديد للأكاديمي دوراكوفيتش الذي صدر بمناسبة بلوغه السبعين يحمل جديدا على مستوى المقاربة المنهجية وليس فقط فيما يتعلق بخريطة هذ التراث الشعري، ألا وهي المقاربة الجمالية التي جاءت جزءا من العنوان. وفي الواقع كان اهتمام دوراكوفيتش بعلم الجمال، الذي يبدو غير كاف لمصطلح البويطيقا Poetics، منذ بدايات دراسته الجامعية في قسم الاستشراق ببلغراد وخصّص لها أطروحته للدكتوراة "نظرية الإبداع المهجرية- دراسة في أدب المهجر" التي تُرجمت ونُشرت في دمشق، ثم تابع ذلك في كتابه المهم "علم الشرق" الذي صدر في العربية عام 2010 ثم في لندن عام 2015 بعنوان "نظرية الإبداع في الأدب العربي القديم والكلاسيكي- علم الشرق".

   في هذا الكتاب الجديد يستعرض دوراكوفيتش في الفصل الأول "تاريخ الأدب و/ أو الجمالية" ما أُلّف في البوسنة من شعر في هذه اللغات وما كتب عنها من دراسات بمقاربات مختلفة تاريخية وفيلولوجية وموضوعاتية، جاءت في سياقات مختلفة، كما هو الأمر في المشرق مع كتب د. المصري كـ "مصر في الشعر العربي والفارس والتركي" إلخ. ففي البوسنة، عندما كانت جزءا من يوغسلافيا السابقة (1918-1992)، كان الوضع مختلفا حين كان الجيل الأول من المستشرقين يتعاملون مع هذا التراث البوسنوي باللغات العربية والفارسية والتركية بنظرة مركزية أوروبية، على حين أنّ الأمر تغيّر مع جيل دوراكوفيتش الذي أصبح ينظر إلى هذا الإبداع باعتباره من التراث البوسنوي. ومن هنا فإنّ الجديد في كتاب دوراكوفيتش، بعد الدراسات التي ركزت على الجوانب التاريخية والفيلولوجية، هو التركيز على المقاربة الجمالية لهذا الأدب الكلاسيكي".

 في الفصل الثاني "المصطلحات الأساسية التاريخية- الجمالية في الأدب الكلاسيكي" يستعرض دوراكوفيتش بعض المصطلحات التي تتعلق بالإبداع في اللغات الشرقية والتي تغيرت دلالتها مع مرور الزمن كالأدب والصنعة إلخ. فالأدب كان في السابق أوسع مما هو يستخدم لأجله الآن، حيث إنه كان يشمل التعلّم والتهذيب والإبداع إلخ. وفي هذا السياق كان لابد أن يتناول أيضا علاقة الدين/ الإسلام والإبداع. فقد تشكّلت صورة نمطية عن نظرة الإسلام إلى الشعر بالاستناد إلى ما ورد في القرآن الكريم، لكن مقاربة الرسول اختلفت مع تقديمه البردة للشاعر كعب بن زهير تقديرا لشعره، وهي ما تحوّلت إلى مثل أعلى للشعراء العرب والفرس والترك الذين تباروا في تقليدها. لكن هذا الجانب من الدين والإبداع اغتنى أكثر عندما تحول المسلمون إلى سنة وشيعة، وأصبح لكل جانب إبداعه وشخصياته المختلفة إلخ.

 ويؤكد دوراكوفيتش في الفصل الثالث "مصطلحات الإبداع والجمال في الأدب الكلاسيكي" على عدم صلاحية أو مناسبة قيام الباحث بالنظر إلى الأدب الكلاسيكي بمعايير الحاضر، ويشير إلى المشاكل التي تنشأ عن مثل هذه المقاربة في فهم الجمال في الأدب الكلاسيكي".

 أما في الفصل الرابع "نحو مورفولوجيا الأجناس الأدبية / الشكل: استقرار النظام الجمالي" فتناول دوراكوفيتش القصائد العربية القديمة (الجاهلية) باعتبارها الشكل الأصلي الذي تم منه اشتقاق أشكال جمالية أخرى في الشعر العربي والفارسي والتركي. ويرى المؤلف أن شكل القصيدة العربية كان عامل تماسك حافظ عليها من التفكك تحت ضغط تعددية الموضوعات فيها. ومع تحولات القصيدة القديمة عبر القرون، التي انتقلت إلى التراث الشعري حتى البوسنة kaside، فقد كان الشكل هو الذي كان يضمن معرفة نقطة البداية المشتركة لها. ومن هنا يرى دوراكوفيتش أنه من المهم لفهم الأدب الكلاسيكي في العربية والفارسية والتركية بحث مورفولوجيا وتاريخ الشكل الأدبي.

  في الفصل الخامس "الشعر الصوفي: منعطف جمالي كبير" يعيدنا دوراكوفيتش إلى جدلية الدين والإبداع من ناحية أخرى. فبعدما أطلق الرسول مع عباءته طاقة كبيرة لدى الشعراء فإن الإبداع الشعري حظي بطاقة جديدة مع شعراء الصوفية للوصول إلى الحقيقة الدينية أو الحق نفسه. ولأجل ذلك عمدوا أيضا إلى الخيال باستلهام ما هو دنيوي ( الغزل) للتعبير عن الحب الإلهي في الشعر الصوفي الذي أصبح له أعلامه في هذا المجال.

 مع هذا الكتاب الأخير، الذي توّج به دوراكوفيتش عشرات الكتب من ترجمات لأمهات التراث (القرآن الكريم والمعلقات وألف ليلة وليلة) والأدب العربي الحديث، يفتح هنا مجالا جديدا يكشف فيه عن أهمية التركيز على نظرية الإبداع وعناصرها وتجلياتها لفهم أفضل للإبداع الشعري عوضا عن تقسيماته التاريخية (جاهلي وأموي وعباسي إلخ) أو الجغرافية لتتبّع المنبع الذي استلهمه الشعراء العرب وتأثر بهم غيرهم من الشعوب المجاورة، وبذلك فإنه يستحق الترجمة إلى العربية للتعرف على ما فيه من جديد.