Print
ناصر السيد النور

عن سُلطة النُصوص اللغوية العربيّة

7 أكتوبر 2018
آراء

إنَّ ما أحاط بالنصَّ العربي اللغوي المكتوب والشفاهي والمنزل (وحيًا) من جدل في دائرة المعرفة العربية التراثية والحديثة بتعدَّد مصادره الأدبية والدينية، مثّل ضربًا من الاحتجاج بما يتجاوز تأويل نصوص، حيث تنبثق النصوص وسلطتها وفقًا لمرجعية التأويل إلى تكوين سلطة عميقة الأثر في الفكر العربي عبر قرون من الزمان. وربما اكتفى النصّ العربي بما ثار داخله من توتر جدلي حادّ لا ينتهي عند المتكلمين وشراح النصوص قديمًا أو دارسي ومفككي النصوص حديثا؛ فإذا لم يقارب هذا الاتجاه في التفكير النقدي العربي بمدخل فيلولوجي يربط بينه وبين نصوص المعرفة الإنسانية العامة على الرغم من تتاخمها مع المقدس كما تحده قدسيّة النصوص الدينية (قرآن وحديث)، فإن التفاعل الداخلي التطبيقي لمقامات النصوص العربية تبقى رهينة لما استقرت عليه بنيتها التراثية ونظمها المعرفية المرتبطة بسلطة نصوصها.

وإذا كان تعبير أو اصطلاح سلطة النص-The Authority of Text - لا يخلو من لبْس في الثقافة العربية إلا في توفر تفسير محدود في واقع المطابقة الاصطلاحية، فهو مع ذلك يشيع توغلًا مفاهيميًا تحدَّر من فكر ما بعد الحداثة إلى الثقافة النقدية العربية ليظلَّ حالة من الحكم المتأرجح في طبقات النتاجات العربية الثقافية تُرسخ ممارسته صورة من صور التداخل في أقصى مفارقة بين الاصطلاحات التي تنتجها ثقافة ما وتلك التي تأخذ بالنقل ومحاولة التطويع داخل سياق مغاير. واندرجت سلطة النص في قوة التعبير التي ينفذ من خلالها النص ويتموقع ضمن خارطة الهيمنة في صراع الأفكار وشرعية نصوصها. ولم تبق النصوص في حيزها التعبيري المحدود بفضاء تجليها لكن تبنتها سلطات تفاوتت قدرتها على التأثير، بما يشي بالأثر المباشر لمفهوم السلطة وقوة تأثيرها وهيمنتها، فموقف الخليفة العباسي المأمون في مناصرة المعتزلة ضد خصومهم وفرض آرائهم لم يكن موقفًا معرفيًا يقتضي تدخل السلطة في أخطر القضايا التي تفجرت غداة التأسيس لاتجاه عقلاني في الحوار الفكري والفلسفي. ومن ثَمَّ التفتت السلطة في البيئة العربية إلى أهمية المدافعة عن نصوص بعينها وأثرها في الواقع الثقافي وبالتالي منع ما يهدِّد سلطانها ليتجدد الرَّصد السلطوي في أطوار السلطة المختلفة وأشكال مؤسساتها ولكن بقيت النصوص وحقُّ تفسيرها بيد السلطة أو من يمثلونها في دائرة النص والكلمة إلى اليوم؛ وليس بعيدًا ما حدث في بدايات القرن العشرين من تصادم النصوص وسلطة النصوص، كما حدث مثلًا مع "في الشعر الجاهلي" لطه حسين و"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق.

وترتبت هيمنة النصوص ذات السطوة كما التدرج الهرمي للسلطات ذات الشوكة في تاريخ الثقافة العربية، إلا أن ثمة نصًا أوحد ترَّسب في الذهنية الثقافية وبنيتها الفكرية وظل لقرون مهيمنًا بالتراكم التاريخي فاكتسب قوة الاستحواذ على ما عداه من نصوص وأمسى معيارًا تقاس عليه شرعية النص المنتج ومدى استجابته لشروط وحدود النص الأسمى. وظل هذا النص يشكل الثقافة السائدة كما عرفه المفكرون العرب بالأيديولوجيا العربية. إنه النص الذي كونته المعاجم العربية في نسختها المستقرة التي لم تمسها يدُ التغيير منذ أن وضعت وتُضاف إليها مكونات البيان اللغوي (البلاغة، العمود الشعري) والميراث الفقهي ومعلقات الشعر الجاهلي وكل ما ارتقى إلى التراث بجدارة التطاول الزمني إلى مصاف النص الأسمى وبالتالي موقعه داخل إطار المرجعيات الكبرى؛ وهو ما يطلق عليه محمد عابد الجابري العلوم الاستدلالية الخالصة.  واتساقًا مع نظرية (سلطة النص)، فإن العوامل الخارجية لها فاعلية في التأثير على النص الأدبي (البياني) تفوق الطاقة التعبيرية للنص! وهنا يستدعي التفكير النقدي حزمة من المؤثرات تفضي إلى المقاربة البنيوية في وحدتها المتجزئة بالشكل الذي ظهرت به نتاجًا لحقل الدراسات اللغوية وصولًا إلى سلطة النص وموت المؤلف. فكافة النصوص المنتجة تعّد نصوصًا سردية في الفكر والقانون والبحث العلمي؛ أي أن النص هو الكتابة ومباحثها الإجرائية والوظيفية، تتعدد تمظهراته باختلاف الحقل المعرفي والدلالي.  

ومثلما تتمسك السلطة في خطابها السائد بحق السيادة والقيادة كسلطة قابضة وتتنقل هذه الآلية إلى حقل نصوص المعرفة، فغالب الإنتاج المعرفي لا تنتجه السلطة لكنها تعمل على الإحاطة به وبالتالي تقوّم مدى درجة تأثيره في دائرة نفوذها. ومن جانب آخر فإن للنصوص سلطتها التي لا تتنازع وإن اختلفت عن سلطة الحاكم في الممارسة ولكنها لا تختلف في رؤيتها في الإخضاع في موازاة قهر الرعيّة أو محاكمة النصوص. وتكاد تنطبق فرضية احتكار ممارسة العنف، وهو درجة في تعريف الدولة (السلطة) في أبعادها السياسية، على النصوص العربية، خاصة تلك المهيمنة منها في احتكارها أيضًا للحقيقة في تفسير النصوص وتأويلها وشرحها. وقد أفضى هذا التداخل إلى حزمة من المحاذير التاريخية وحساسية بالغة تجاه النقد العقلاني في الحضارة العربية مما أدى بسبب الفعل الإقصائي للنصوص المهيمنة إلى تغييب النتاج العلمي ومن ثم تقوَّت ظاهرة ثقافة النقل بثنائيتها المتناقضة، نقلًا عن تراث مُصَّمت توقف فيه التجديد، أو نقلًا عن الثقافات الأخرى دون مساهمة فاعلة. ويمتد أثر النصوص السائدة إلى ثقافة النقل نفسها في إضفاء الشرعية ووثوقية النصوص المنتجة إذا لم تأخذ بالنصوص المهيمنة مما يضعها في قائمة النصوص المرجعية المهمة أيًّا تكن المادة المعالجة إبداعية أو فكرية أو علمية بحتة.

إن ظاهرة سلطة النص في الثقافة العربية لا تقترب مما يعرف في النظريات الأدبية من فك شيفرات ودلالات النص والعلاقة بين المنتج والمتلقي، لكن دائمًا ما يحمل النص مكونات السلطة في نسختها العربية، أي نصّ لا يسائل، ويفرض وجوده، ويتصور مسبقًا العلاقة بين النص والقارئ في حدود المقروئية. وتبقى سلطة النص السائد هي ما يشكل مستويات القراءة أو القيمة الفكرية والإبداعية للأعمال المنتجة خارج سياق الإطار المرجعي الرَّاسخ.

إن ظاهرة سلطة النص العربي في الثقافتين العربية والإسلامية بحاجة إلى مراجعة شاملة من قبل المثقفين العرب، من خلال إعادة الضبط المفاهيمي، والتحرر من سلطة نصوص جامدة. 

*كاتب ومترجم سوداني