Print
نبيل سليمان

عن الكتاب المدرسي السوري

6 أغسطس 2017
آراء

(إلى محمد م. الأرناؤوط)

أثار الصديق محمد م. الارناؤوط الأشجان والمرارة بما كتبه عن كتب التاريخ المدرسية، ابتداءً بكتاب أنس سولستاروفا (الإسلام يعني الشرق - رواية الأمة وأوروبا والإسلام في الخطاب العام والنصوص المدرسية للتاريخ)، ثم بكتاب شكلزن غاشي (تاريخ كوسوفو في الكتب المدرسية في كوسوفو وألبانيا وصربيا والجبل الأسود ومكدونيا)، والكتابان طازجان (2016).

يتصادى ما جاء في عرض الكتاب الأخير عن التاريخ العثماني في الدول البلقانية مع هذا التاريخ في (بلاد العرب أوطاني). وإذا كان ذلك قد تفجر بقوة في الفضاء البلقاني قبل عقدين، فها هو يتفجر بقوة في الاحتلال التركي لشطر من الشمال السوري، أسوة بالاحتلالات الروسية والأميركية والإيرانية، و(ما حدا أحسن من حدا).

عندما لفظ الرجل المريض - أي الإمبراطورية العثمانية - أنفاسه بانقضاء الحرب العالمية الأولى، بدأت النوستالجيا الإسلامية تفعل في الأدب والسياسة العربيين. لكن ذلك لم يطل، ثم تلاشى حتى أسفرت الأردوغانية عن نزوعها السلطاني الإخواني - نسبة إلى الإخوان المسلمين.


فتح أم احتلال؟

يشير محمد م. الأرناؤوط إلى أن العثمانية ذات القرون الخمسة ولّدت ولا تزال خلافات وتناقضات تكرسها الكتب المدرسية تبعاً للنظام الحاكم والمزاج العام، ومن ذلك، هو السؤال عما إن كانت العثمانية فتحاً أم احتلالاً.  وقد كان السؤال حاضراً في الكتاب الجامعي السوري، سواء في قسم التاريخ أم في قسم اللغة العربية وآدابها، وكذلك في التعليم الثانوي، كما أذكر، سواء في دراستي الجامعية أم أثناء عملي في التدريس حتى عام 1979. أما سؤال الفتح والاحتلال، فقد شغلني عندما كتبت رواية (في غيابها) التي صدرت عام 2003، وحاولتْ أن تحفر في التاريخ الأندلسي، وانتهت إلى أن الاستعمار هو الاستعمار، سواء أكان فتحاً عربياً إسلامياً للأندلس أم فتحاً إسبانياً مسيحياً لأميركا، وسواء أعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب أم لم يعرف. ومن أسف أن أصداء ذلك تتردد اليوم، على استحياء مرة، وبفجاجة مرات، بصدد التدخل التركي في سوريا، والذي بلغ حد الاحتلال.

يذكر الصديق محمد م. الأرناؤوط أن الاهتمام يزداد في السنوات الأخيرة بالدراسات التي تعنى بالكتاب المدرسي - وبخاصة كتب التاريخ - في ألمانيا وفرنسا وتركيا واليونان والقبرصان التركية واليونانية. وأن مؤسسة غردا هيكل الألمانية تُعنى بآليات تأليف وتدريس وتسويق الكتاب المدرسي، كنص شبه مقدس يقوم على حقائق ثابتة في دولة ما، بينما يكون العكس في دولة مجاورة.

لقد أعادني هذا القول أربعين سنة إلى الوراء. ففي سنة 1978 صدر كتابي (النسوية في الكتاب المدرسي السوري) والذي كنت قد كتبته بين دمشق وحلب في سنتي 1975-1976، وبعد صدور الكتاب انتقلت إلى اللاذقية مدرساً في دار المعلمات، حيث عاجلني وسواي قرار (تبعيث) الجهاز التربوي، أي تنقيته ممن ليس عضواً في الحزب الحاكم: البعث العرب الاشتراكي. وقد بدأ تطبيق التبعيث - ثمة من حرّف في الكلمة متظارفاً أو متباذئاً فأبدل الثاء بالصاد - بدور المعلمين والمعلمات، فَنُقِلْتُ إلى التعليم الثانوي، ونُقِلَ إلياس مرقص إلى التعليم الإعدادي، وبعد ستة أيام، قلت للمهنة التي أحببت: وداعاً.

بالعودة من ذلك الماضي البعيد إلى يومنا، إليكم ما كتب الدكتور سامي مبيض في جريدة الوطن الرسمية (عدد 2/2/2017) كمراجعة لكتاب (تاريخ الوطن العربي الحديث والمعاصر)، الصادر عن وزارة التربية، والمقرر لطلبة البكالوريا الأدبي للعام الدراسي 2016-2017.

مهّد الكاتب المعروف بثراء أرشيفه ومراجعه، وبمكنته العلمية. لمراجعته بإعلان رأيه في عدم صلاحية التعليم المؤدلج "والموجه سياسياً لهذا الزمان والمكان وتحديداً في هذا الظرف الاستثنائي الذي نعيشه كسوريين". وفي التمهيد عبّر سامي مبيّض عن ذهوله لكثرة الأخطاء الموجودة في الكتاب المعني، وعدّ "تشويه التاريخ في المناهج جريمة لا تقل وضاعة وفظاعة عن تدمير واجهة مسرح تدمر الأثري مثلاً، أو أسواق حلب القديمة".


أخطاء وإغفال

يبدأ مبيض بمشكلة المراجع العلمية للكتاب الذي يستشهد بروجيه غارودي وباتريك سيل، ولا يذكر مؤرخاً سورياً ممن هم أقدر على كتابة تاريخ سورية الحديث مثل قسطنطين زريق أو ساطع الحصري أو محمد كرد علي أو.. كما يتجاهل الكتاب العلماء الكبار الذين كتبوا في هذا التاريخ مثل نقولا زيادة أو فيليب حتي أو... ويتجاهل الكتاب أيضاً الشخصيات السورية التي كان لها دور مهم في التاريخ السوري الحديث، مكتفياً بعدنان المالكي وسلطان باشا الأطرش، وبكلمات عن فارس الخوري ويوسف العظمة وعبد الرحمن الشهبندر... ويغفل شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وأديب الشيشكلي و...

إثر ذلك يعدد مبيض عشرين خطأ، أظن أن أياً منها خطأ قاتل، ابتداء بكتابة الأسماء باللغة الأجنبية، مثل سايكس وبيكو ودالاس ولويد جورج وسان ريمو ووارسو.. ويخطئ الكتاب بعيد الاستقلال فيذكر أنه كان في 7 آذار - مارس 1920، والصحيح هو اليوم التالي الذي أُعلن فيه أيضاً الملك فيصل ملكاً على المملكة السورية. ولعلها واحدة من المصادفات الكبرى والنادرة التي يمكر فيها التاريخ أي مكر، إذ يجعل يوم الاستقلال والملكية هذا، بعد ثلاث وأربعين سنة، هو يوم (ثورة الثامن من آذار) التي جاءت بحزب البعث العربي الاشتراكي إلى عرش سورية سنة 1963، وإلى... غير أن ما لم يشر إليه مبيض هو أن الثامن من آذار 1920 كان يوم الاستقلال الأول، أما يوم الاستقلال الثاني فقد كان في 28/9/1941، حين عيّن الفرنسيون الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً لسورية المستقلة.

عن مشاركة النساء في الحقل الوطني، يأخذ مبيض على الكتاب المعني أنه اكتفى بذكر زوجة الشيخ صالح العلي وشقيقة إبراهيم هنانو، حتى بلا اسم، وأغفل من كان لهن دور كبير، مثل عادلة بيهم الجزائري رئيسة أول اتحاد نسائي وسارة مؤيد العظم زوجة عبد الرحمن الشهبندر، وماري عجمي صاحبة مجلة العروس، ونازك العابد بطلة معركة ميسلون، وثريا الحافظ التي كانت أول سيدة تترشح للمجلس النيابي، ومن الكاتبات إلفة الإدلبي ووداد سكاكيني وسلمى الحفار الكزبري..

ومن مهازل أو فضائح الكتاب المعني أنه جعل قيام دولة سورية في عام 1922، والصحيح أن الاتحاد السوري الفيدرالي هو ما قام عام 1922 وليس دولة سورية التي جاءت عام 1925 على أنقاض ذلك الاتحاد، وفيها توحدت دولتا حلب ودمشق، واستمرت دولة العلويين ودولة الدروز وسنجق إسكندرون. وكنت قد كتبت في جريدة الحياة سنة 2011 مقالة أرّخت فيها - مع الصور - للأعلام التي عرفتها سورية منذ 1918، ومنها أعلام دول دمشق وحلب والعلويين والدروز، وصولاً إلى سنة 2011. 



 حجر الزاوية

لقد اعتبر جان بوفييه المدرسة (طفل الدولة) الذي يرضع من لبان العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ورأى في المدرسة أداة إعداد أدوات العمل مستقبلاً، من جهة أولى، وأداة الحفاظ على الأيديولوجية الرسمية، من جهة ثانية. ومن بين عناصر (المدرسة) يبرز الكتاب المدرسي حجر زاوية في العملية التربوية برمتها. وهذا ما تنبهت إليه عصبة الأمم المتحدة في عام 1926 إذ أصدرت قراراً يحث الأعضاء على مراجعة الكتب المدرسية، بغية تنقيتها من كل ما ينفر الشعوب من بعضها. وقد نفذت اليونسكو القرار بعد ربع قرن (فقط) من تاريخه. وفي عام 1940، فرضت السيطرة النازية على فرنسا تعديل المناهج المدرسية وتعديل الكتب ومراقبتها بصرامة. وهذا عين ما فعلته إسرائيل في الضفة الغربية إثر حرب 1967، حيث منعت 78 كتاباً مدرسياً من أصل 121. ولما رفعت القضية إلى اليونسكو، نصّ تقريرها عام 1969 على أن كتب الجغرافيا والتاريخ والدين توجه نحو العنف، وضرب مثلاً بكلمات (تحرير، عودة، تطهير...) وطالب بإلغاء 18 كتاباً، وإعادة توزيع 48، لكن سلطات الاحتلال رفضت ذلك. أما إذا أسرعنا إلى يومنا، فها هي السلطات التركية تفرض حظرها على الكتاب المتحفي: نظرية الأنواع لداروين.

من النادر أن كان الكتاب المدرسي السوري موضع نقد أو درس. ولعلي لا أبالغ إن ذهبت إلى أن الكتاب المدرسي العربي بعامة هو كذلك. وإذا ما مضينا من الكتاب المدرسي السوري الرسمي إلى نظيره في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، ففي الحدود المحدودة التي أمكن الاطلاع عليها، هيمن الخطاب الأيديولوجي أيضاً هيمنةً بلغت أقصاها الفاحش في دولة (فانية وتتبدد) أي في دولة الخلافة الداعشية، حيث بلغ التحريم دروس الكيمياء مثلاً!

لقد عمدتُ إلى تبديل عنوان كتاب (النسوية في الكتاب المدرسي السوري) في الطبعة الثانية فصاعداً، فأصبح (أيديولوجية السلطة)، توكيداً على استهداف كشف الأيديولوجية السائدة التي تتزاوج فيها (البعثية) بالإسلامية، مما تومئ إليه مجاورة كتب (التربية القومية الاشتراكية) لكتب التربية الدينية. ولئن كانت وكل الكتاب من طبعة إلى طبعة هو: النسوية، فلأن ما في الكتاب المدرسي عن المرأة في الأسرة أو العمل أو الزواج أو الطلاق أو الأمومة أو التربية الجنسية - وقد خصصت للأخيرة فصلاً - ما يكشف البنية الأيديولوجية، المجتمعية والسلطوية، سواء في كتب التاريخ أم المطالعة أم التشريح أم... ولست أنسى هنا ما جاء في كتاب جوران ثربرون (أيديولوجية السلطة وسلطة الأيديولوجيا) والذي ترجمه إلياس مرقص، من أن الفردية والذكورة والأنوثة والإثنية والقومية والأخلاق متشابكة ومتمفصلة تاريخياً، وهل الكتاب المدرسي الدولتي أو في التعليم غير الرسمي، إلا حوجلة لتفاعل كل ذلك كيميائياً؟