Print
هشام أصلان

جدل بوجدرة المتكرر.. تجاوزات أم صراحة رأي زائدة؟

22 أغسطس 2017
آراء

لمحمود درويش عبارة حول أن القاهرة هي المدينة الوحيدة التي رآها لا تتحدث بغير العربية. لست متأكدًا من أنها الوحيدة في المُطلق، لكن المدن العربية التي زرتها تنتشر فيها لغات أجنبية، خصوصًا الفرنسية في المغرب العربي. المسألة تتجلى في الجزائر العاصمة، وإن ذهبت الأجيال الأدبية الجديدة لمحاولات التعريب المعروفة واستعادة الهوية.

تذكرت مشهدًا أثناء متابعة الجدل الأخير للروائي الجزائري رشيد بوجدرة، الذي ثار مؤخرًا بعد حوار تلفزيوني أطلق فيه نيرانًا ليست جديدة عليه باتجاه عدد من الكتاب الجزائريين على أرضية الكتابة بالفرنسية عند البعض ونزعة نشر العربية عند البعض الآخر.

المشهد داخل القاعة الرئيسية في المكتبة الوطنية بالعاصمة الجزائرية. كنا جميعًا من العرب، رغم ذلك وجدتني مضطرًا لوضع سمّاعات الترجمة على أذنيَّ حتى أفهم ما تقوله المنصة التي تحدث الجالسون عليها جميعًا بالفرنسية. يومها رأيت صاحب "الحلزون العنيد" للمرة الأولى. المناسبة هي الاحتفال بالذكرى الخمسين لرحيل الكاتب والمناضل مولود فرعون. قال رشيد عبارة أو اثنتين ترحيبًا بالحضور ثم لم يتحدث في باقي جلسات الاحتفالية لعدة أيام رغم حضوره أغلبها. فهمت في ما بعد أن المنظمين حرصوا على وجوده من باب إثقال الحدث، حيث وصفه المشرف على الملتقى حاشي سليمان، بأنه "أهم كاتب جزائري على قيد الحياة". وقتها لم أكن تعرفت على كثير من الأدب الجزائري. بعد سنوات ستصادفني لقاءات وسهرات مع عدد من الروائيين من الأجيال الأحدث، مثل بشير مفتي وسمير قسيمي. وسأتعرف على كتابات واسيني الأعرج والطاهر وطار.

الروائي المعروف كان في لقاء تلفزيوني، وأثنى على سعيد بوتفليقة، مستشار رئيس الجمهورية، لوقوف الأخير معه في تضرره من أحد برامج المقالب مؤخرًا ما أثار جدلًا كبيرًا في شهر رمضان الماضي، قبل أن يتطرق إلى مناطق النشر والأدب في الجزائر.

قال إن "منظومة النشر في الجزائر لا تضمن لك العيش، فأنا أعيش على مداخيل ما أكتب، وعدت للكتابة بالفرنسية لأضمن دخلًا محترمًا وتوزيعًا مهمًا لأعمالي. عملت مع دور نشر جزائرية أكلت حقوقي واضطررت أكثر من مرة لمقاضاتها. الناشر الجزائري زيادة على أنه غير مثقف ولا يقرأ، فهو أيضًا يتعامل بمنطق صاحب الفضل عليك في النشر، كل هذه الظروف جعلتني أقرر التوقف عن الكتابة بالعربية وعدت للكتابة بالفرنسية".

إلى هنا، ولو استبعدنا عراك العربية والفرنسية في الجزائر عمومًا، سيبدو الكلام عاديًا يقوله أغلب الأدباء في الوطن العربي في ملاحظات لا تنتهي عن طبيعة صناعة النشر لدينا، وليس كلامًا في طريق عدم الانتماء أو مهاجمة أبناء الوطن لصالح ثقافة خارجية.

يستكمل رشيد كلامه، وفق موقع "المدن"، مشيرًا إلى أنه "رغم كل العراقيل والعقبات التي صادفت طريقه إلا أنه أصر على الاستمرار في الكتابة بالعربية وقدم 12 رواية باللغة العربية، لافتًا إلى أنه حورب محاربة شرسة من طرف الراحل الطاهر وطار"، ذاهبًا إلى أن الأخير راح يقول: "بوجدرة لا يكتب بالعربية وإنما يكتبون له. كما حاربني أيضاً الفرانكوفونيون في الجامعة، على غرار السيدة حدة ودليلة مرسلي وآخرين هاجموني لأني كتبت بالفرنسية".

بوجدرة له رأي في الجزائريين الذين يكتبون اليوم بالفرنسية: "أمين الزاوي كتب بالفرنسية المليئة بالأخطاء، ولغته ضعيفة جدًا، وبوعلام صنصال حاقد على الجزائر بشكل رهيب، حتى أنه أصبح يقذف الثورة ويقول إن كل ضباط الجيش الجزائري من النازيين وهذا خطير. كمال داود أيضًا في رواية (ضد الغريب) يكتب عن كامو ويبرر فيها موقفه الذي كان ضد استقلال الجزائر".

وبالعودة لمسألة الدفع في طريق الكتابة بالعربية، لا أتصور أن بوجدرة كان يقصد أكثر مما قال في عودته للفرنسية. المسألة تخصه هو ولا تخص رأيًا ضد مبدأ الدفاع عن استعادة الهوية. وكنت سألته في لقاء على هامش ملتقى مولود فرعون عن أزمة الهوية تلك، ومحاولات التعريب والانتصار على انتشار اللغة الفرنسية بين الأجيال الجديدة فى الجزائر، والحقيقة أنه أجاب بانتشاء وملامح للتفاؤل بأن "الأجيال الجديدة بدأت بالفعل في التخلص من هذه المشكلة"، نعم وصفها بالمشكلة! مدللًا على انسحابها بأن مبيعات الصحف الجزائرية المكتوبة بالعربية تصل إلى 7 ملايين نسخة "عام 2012" في مقابل مليوني نسخة فقط من مثيلاتها المكتوبة بالفرنسية.

غير أن بوجدرة، الذي بدا واضحًا يومها انحيازه للفريق الذي يدعم التعريب، لم يبرر عودته للكتابة بالفرنسية بأزمة النشر التي تحدث عنها منذ أيام، ولكن قال إنه عاد إليها بسبب انتشار الإرهاب فى التسعينيات "ولكن حدث ذلك بعد أن حققت شكلًا كبيرًا من التوازن وإشباع الحاجة عبر الكتابة بالعربية".

وحكى: "في البداية كانت الكتابة بالفرنسية شكلًا من أشكال الهروب من الرقابة التي كانت مستتبة ومنتشرة في العالم العربي بشكل كبير، من مشرقه إلى مغربه، وحدث أن وقعت عقدًا مع دار نشر فرنسية ينص على تأليف ستة كتب هناك، لكنني كنت أتشوق للكتابة بالعربية، وأشعر أنني بحاجة إليها لعمل شكل من التوازن النفسي، وعندما عدت إلى الجزائر كانت الرقابة لا تزال موجودة بشدة، لكنني كنت حققت قدرًا كبيرًا من الشهرة وتمت ترجمت أعمالي إلى 24 لغة في أربع سنوات فقط، وكتبت سيناريو فيلم سنين الجمر الذي فاز بالسعفة الذهبية في كان عام 1974، وكان من الصعب ملاحقتي رقابيًا، فتمكنت من الكتابة بالطريقة التي أريدها".

بصراحة، لا أستطيع تحديد سياق لما أطلقه رشيد بوجدرة مؤخرًا، هل هو تجاوز في حق الغير كما قال كثيرون وغضبوا؟ أم أن المسألة هي حرية رأي لم نعتد، في مجتمعاتنا، أن يكون صريحًا هكذا، وإن كنا لا نستطيع تجاهل أن صاحب "ألف عام وعام من الحنين" يحمل كثيرًا من الوضوح في إعلان اعتزاز مدهش بالذات، تجلى في كلامه عن أن الأجيال الجديدة من الكتاب الجزائريين لم يستطيعوا، حتى الآن، تجاوز التابوهات "التي كسرناها". ولمّا كان يتحدث بصيغة الجمع، سألته عمن استطاعوا كسر هذه التابوهات، قال بأريحية: "في الجزائر، لم يستطع أحد التعرض لهذه التابوهات غيري أنا".