Print
أشرف الحساني

فريد الزاهي قارئًا عبد الكبير الخطيبي

12 ديسمبر 2017
آراء

وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال، بدأ يطفو على صفحة الذاكرة كلام المفكر الراحل عبد الكبير الخطيبي فيما يشبه الدهشة والحلم والخوف في آن واحد، وهو يخط إهداءه "إلى فريد، رفيقي في درب الكتابة والفكر، هذه المقدمات المتواضعة عن الفن المعاصر العربي، في انتظار جماليات تصوغ أفقه"، وذلك على صفحات كتابه الطليعي "الفن العربي المعاصر: مقدمات" الصادر باللغة الفرنسية عن معهد العالم العربي، والذي ترجمه فريد الزاهي إلى العربية سنة 2002. كما بدأت تتقافز إلى ذهني جملة من الأسئلة الموضوعية المؤجلة، والتي تشكل مدار اهتمامنا ومقاربتنا في هذه الفسحة الميتا نقدية، وهي من قبيل: ما الذي يجعل من المسار العلمي والمشروع الفكري لدى الناقد والباحث الأنثروبولوجي فريد الزاهي مميزًا ومثيرًا للجدل والانتباه؟ هل هي ترجماته العلمية التي بدأها وهو طالب في الملحق الثقافي لجريدة أنوال المغربية من خلال ترجماته لأغسطو بوال وبيير بورديو، ثم بعدها في فرنسا خلال دراساته العليا، التي توجت بترجمات عديدة لكبار المفكرين كريجيس دوبريه، جوليا كريستيفا، ميشيل مافيزولي؟ أم مشروعه الأنثروبولوجي الذي استوحى بعض ملامحه ومفاهيمه وخصائصه من المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، والممتد أكثر من عشرين سنة، ويبدو ذلك واضحًا في كتب فريد الزاهي الأولى، والذي يهدف أساسًا الى الحفر والنبش في ثنائية الصورة والجسد في علاقتهما بالمتخيل والإسلام، ثم بالممارسة الفنية داخل الثقافة العربية الحديثة منها والمعاصرة؟

لم تقتصر كتابات فريد الزاهي على الصورة والجسد فقط، بل شملت حتى جماليات الفن العربي المعاصر. فقد ظل اسمه من العلامات البارزة والمتميزة ومن الأقلام اللامعة في المشهد الفني والجمالي العربي. شكلت كتاباته في هذا الصدد، أفقاً جديداً للبحث العلمي الأنثروبولوجي.

بدأ فريد ناقدًا أدبيًا وسينمائيًا في أواخر السبعينيات ليقوده شغفه وعشقه الخاص والحميمي للغة وكتابات الخطيبي، إلى أن تنصب أبحاثه نقدًا وتحليلاً وتنظيرًا، خلال فترة ثمانينيات القرن الماضي حول الجسد والصورة في الثقافة والنص والمجتمع العربي الإسلامي، ليصبح بذلك أحد أهم الباحثين الأنثروبولوجيين العرب في وقتنا الراهن. والحقيقة أن فريد الزاهي بما قدمه من كتابات وترجمات عن الصورة والفن العربي عمومًا، كان يعمل ليس فقط للتأسيس لبعض المفاهيم المشكلة والمتصلة بمشروعه الأنثروبولوجي المنبني على ثالوثه الأكبر: الصورة والجسد والمتخيل، فضلاً عن مفهوم التأويل كخيط منهجي ناظم بين تلك المفاهيم، وإنما أيضًا لصياغة وبلورة مشروع فني عبر اجتراح وعي نقدي فني جديد  للفن العربي المعاصر.

 

يعد مشروع الباحث الأنثروبولوجي المغربي فريد الزاهي بالنسبة لي، من المشاريع الفكرية الرائدة والمتفردة في العالم العربي، نظرًا إلى عنايته الكبيرة منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم بجملة من الموضوعات والمفاهيم المشكلة لمشروعه الفكري، والتي ظلت مكبوتة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، وعلى رأسها مفهوما الصورة والجسد. ويعتبر كتابه "الجسد والصورة والمقدس في الإسلام" من أهم الكتب الفكرية النظرية، التي أغنت حقل البحث الأنثروبولوجي المغربي منذ السبعينيات إلى اليوم، ويمكن اعتبار هذا الكتاب دون منازع بمثابة فصل حاسم في المسار الفكري لدى فريد الزاهي، ففيه تظهر قيمته المعرفية والتنظيرية عبر بلورة تصور فينومينولوجي جديد للجسد، وانزياحه الكلي عن كتابات عبد الكبير الخطيبي، متساويًا بذلك في قيمته المعرفية مع كتابي "الشيخ والمريد" لعبد الله حمودي و"الاسم العربي الجريح" لعبد الكبير الخطيبي، وبعض كتابات السوسيولوجية الراحلة فاطمة المرنيسي. كاشفًا من خلاله عن حس علمي نقدي يقظ، وعلى درجة عالية من التأصيل لمفهومي الصورة والجسد في علاقتهما بالمتخيل والإسلام، وما يتميز به أيضًا من كثافة مصادره ومراجعه المتجددة، وغنى مفاهيمه المبتدعة، وخصوبة تأويلاته المتجددة.

إنه كتاب يضعنا أمام مرآة ماضينا وحقيقة تراثنا العربي، وما يحبل به من أسرار إيروسية. فهو يغرقنا في سيل من الأفكار والاستيهامات التي تتقاطع فيها الأنثروبولوجيا بالتاريخ وعلم النفس بالأدب، لما يكتسيه مبحث الجسد والصورة من تشابك وتعقد منهجي مرتبطين بالمنزلة التي تنزلاها في الثقافة العربية الإسلامية، نظرًا إلى سياسة الحظر والتهميش التي ظل يعاني منها المفهومان في الثقافة العربية الإسلامية، ومرد ذلك أيضًا، إلى كون هذين المفهومين ظلا من بين المفاهيم الموزعة التي تتقاسمها جملة من التخصصات المندرجة تحت العلوم الإنسانية. كما أنهما مفهومان جديدان في الثقافة العربية يعودان في طابعهما الفلسفي والنظري لسبعينيات القرن الماضي. ففي ما قبل، كان يتم الحديث عمومًا عن الجنس والأنثوية بخصوص الجسد وعن التشكيل والسينما وغيرها بخصوص الصورة". والحقيقة أنه آن الأوان اليوم لأن يتوقف الحديث عن موضوع تحريم الصورة في الثقافة العربية، لأن مسألة الخلق في نظر الباحث نورالدين أفاية مسألة دينية محضة، ومسألة كلامية لها إطارها المرجعي الخاص ومجالها السجالي، ويصعب حرق مسافات الزمن والتاريخ لفرضها مجددًا.

الجميل والمميز في الكتابة الفنية لدى فريد الزاهي وعبد الكبير الخطيبي، هو قدرتها على اختراق العمل الفني عبر ما سماه لي فريد الزاهي يومًا في حديث معه بـ"المغامرة في التأويل". وليس التأويل هنا إسقاط فكري وذاتي على اللوحة، بل هو خطوة ناجعة لتمرير موقف الناقد ورؤيته. حيث يتبدى الناقد وكأنه جزء من العملية الفنية، أو أنه قد شارك في بناء العمل الفني أو في مضاعفة إبداعيته. إنه بمثابة "احتلال" أو استيطان (شكل من أشكال الاستعمار) لموقع وذاتية الفنان وتوجيه عمله إلى أبعاد فلسفية وجمالية لم تخامر الفنان أبدًا وهو بصدد الاشتغال، هذه الميزة التي تتميز بها كتابات فريد الزاهي والخطيبي هي التي جعلت منهما نقادين كبيرين بقراءاتهما الفنية والجمالية المتفردة (وليست الأدبية) من خلال الغوص في جسد اللوحة بشتى تركيباتها لسبر أغوارها واستشكال معانيها وتفجير مكنوناتها، وهذا النوع من القراءة يعمل حتمًا على اختراق سطحية وظاهرية العمل الفني إلى باطنيته للوصول إلى البعد الجمالي الذي تنضح به اللوحة وإلى الشفرات الملغزة المتضمنة في العمل الفني، وهذه الشفرات تختزن رسالة مركبة ما، تقوم على تساند تركيبي بتعبير جاكوبسون.