Print
يوسف وقّاص

يالّا إيطاليا ...

8 نوفمبر 2017
آراء

لم يجابهوا ما جابهناه، الجيل الثاني. ليست المعاناة ما أقصده، فذلك أمر كان يبدو محتوماً، إنما التهوّر الذي أردنا أن نصل من خلاله إلى قرارة أنفسنا، أن نتجاوز واقعاً هربنا منه، فلحقنا وأمسك بنا من خناقنا، هنا وهناك. هجرة مزدوجة، العودة، ومن ثم النزوح على وقع القنابل والبراميل المتفجرة. تحاول هنا، مدفوعاً من غريزة البقاء وتجارب راكمتها الظروف، أن تتأقلم مع الواقع الجديد مرة أخرى، ولكنك لا تستطيع أن تنزع جلدك، أن تدفن ذاكرتك في حضن امرأة ليل، أو تحت جدران مصنع مهجور، فندقك الأول قبل أن تُنصَبَ حارساً في زاوية حديقة، ثم مروّجاً للمخدرات في الشوارع الخلفية للمطاعم التي يرتادها في الليل "زهرة زهور المجتمع"، كما يقولون هنا.

ثم تجد نفسك بعد برهة في تلك الزنزانات القذرة، بين رجال المافيا، الكامورّا، لاندرانغيتا، أكاديمية رجال الشرف، شرف القتل، السطو على البنوك وباقي الأمور التي هي مثل صناعة البيتزا، وصفة لا يخرج عنها سوى الإنكليز والأميركان، عندما يضيفون فوقها الكاتشب، وفي حالات يقال إنها متطرفة جداً، صلصة الخردل أيضاً! وكما في كتب روبرتو سافيانو وليوناردو شاشا، بعد عدة أيام، بينما أنتَ غارق في الفوضى، تقابله هكذا بالصدفة في الفناء، وجهاً لوجه، بكل غطرسته قبل أن يبعث لك ﺒ "وِلْدانِهِ" ليؤازروك بعلبة دخان، وربما بعد فترة ببدلة رياضة وحذاء أديداس. "مِنَ الزعيم"، يهمسون بنبرة تهديد، ومَنْ بوسعه أن يرفض؟

أنت الآن رأس حربة، وحالما تخرج، ربما ستقودك قدماك إليهم دون أن تدري. تصبح جندياً تحت إمرتهم، تتلقى الأوامر، تنفّذ، تسقط، وفي المحكمة يصرخ بازدراء مَنْ وضع المسدس في يدك: ومَنْ يكون هذا؟ ... سيدي القاضي، نحن لا نتعاطى مع هؤلاء البؤساء ... كنّا نتصدّق عليهم فحسب!

 كنت أقلّد ما رأيته في فيلم "التجاوز" لدينو ريزي، تقول للمحقّق بفخر مشوب بالحياء. يضحك من سذاجتك، هو يعرف كل شيء، ويسألك بسخرية فيما إذا كنت تتذكّر النهاية! تكتشف متأخراً، كما في فيلم "ميمي العامل المطعون في شرفه"، أنه هو أيضاً يملك ثلاث شامات على خده الأيمن! وتكتشف، متأخراً أيضاً، بعد أن قذفوا بك من الزورق على شواطئ لامبيدوزا، أنك، هناك أيضاً، كنت رأس حربة، ولكن هذه المرة لخدمة مافيات من مستوى آخر، رجال أقوياء يكذبون وهم ينظرون في عينيك مباشرة. تنكر كل شيء: لم أكن لا مع المعارضة ولا مع النظام. تنزع ثيابك وتظهر خدوش الرصاص وشظايا القنابل. كارونيا! (جيفة) يصرخ في وجهك رجل الأمن، ثم يكتب بخط سريع على البطاقة الصفراء: مشبوه.

لم يجابهوا ما جابهناه، الجيل الثاني والثالث، عندما وضعوا كُرّاسات وأقلام في أيدينا وطلبوا منّا أن نكتب، أن نعبّر عن أحاسيسنا، عن مشاعرنا، كيف كنّا نعيش وماذا كنّا نحلم. نلج طوعاً مخبر التجارب، نكتب ونكتب، ثم، كما في قدّاس الأحد، يحضر خوري السجن ليبارك كتاباتنا: لأنكم تجاوزتم المحنة، ولأنكم عرفتم كيف تواجهون هذا الواقع المرير، بشجاعة نادرة وإرادة قوية. نخرج إلى الفناء في "أربعاء الرماد"، يتقدّمنا الخوري وهو يدعو المؤمنين للصيام والامتناع عن أكل اللحوم، ومنها اشتق الإيطاليون كلمة "كرنفال" (من اللاتينية Carnem levare، أي تجنب أكل اللحوم)، ونعاود الموكب في أحد الشعانين ونحن نحمل أوراقنا وسعف نخيل تذكّرنا بأوطان بعيدة لا نعرف حتى كيف نستحضرها.

نسخر منهم في كتاباتنا، وهم يدّعون أنهم يكتشفون أنفسهم عبرنا، نحن المهاجرين، لندرك بعدئذ أنها كانت طفرة، موجة ركبتها دور نشر، جمعيات خيرية ودوائر إحصائيات وباحثون أكاديميون لسبر ما هو خافٍ تحت الطبقة القاسية من البؤس المبطّن. هؤلاء الأخيرون، بعد أن هدأت العاصفة، بدأوا بإرسال عشرات الطلاب ممن يُحضّرون رسائل التخرّج لكي نتحدث إليهم عن تجربتنا. يطرحون أسئلتهم بمواربة لطيفة، دون أن ينزعوا عن وجوههم تلك المسحة الخفيفة من الإشفاق: وبعد؟ وبعد؟ ... لا شيء ... ها نحن نعيش سعداء في شقق البلدية (المساكن الشعبية)، نتناول الكابوتشينو والكرواسان في الصباح، نراهن على المباريات وسباق الخيول يوم الأحد، نأكل المعكرونة ولا نتزوج أكثر من امرأة واحدة. مثلكم تقريباً.

مقدّمة لبقة للحصول على مبتغى بعيد. فمنذ فترة وهم يناقشون ذلك القانون في مجلس النواب، ولربّما كانوا قد صادقوا عليه مؤخراً، لولا تلك المهاجرة التي حصلت لتوّها على الجنسية الإيطالية، كوثر برغوت التي تدرس في كلية الحقوق: "أن تلد في الأراضي الإيطالية، هذا لا يعني أن تكون إيطالياً. أنا ضد هذا القانون"، قالت بكل ما تمليه عليه واجباتها كمواطنة جديدة، تمارس حقها المقدّس في التعبير عن رأيها. واشتكى آخرون، مهاجرون أيضاً، من التلوث البصري الذي أصبح أشد خطراً من التلوث البيئي: أفارقة في كل مكان يشحذون أمام المخازن الكبرى، المطاعم والفنادق والبارات. يالّا، هذه ليست إيطاليا التي نعرفها!

 ليست عنصرية بالمعنى المعروف، إنّما مجرد تنافس على أماكن أصبحت محدودة جداً: فرص العمل أصبحت ضئيلة جداً، إن لم تكن معدومة، والحصول على شقة من البلدية أصبح بالفعل كحلم إبليس في الجنة، بينما الدعاة، وما أكثرهم، يرعدون ويزبدون ويترقّبون بهوس الساعة المنتظرة، لا لشيء سوى لأننا لا نستطيع أن نلحق بالركب، إذن علينا وعلى أعدائنا يا ربّ!

فيتّوريو زغاربي، أحد أبرز نقاد الفن الإيطاليين ووزير للثقافة في حكومة برلوسكوني السابقة، يبدي معارضة شديدة لاندماج الأجانب في المجتمع الإيطالي، والحل الوحيد برأيه هو الاختلاف، لأن قيمنا تكمن فيه، وليس بأن نكون متوافقين في العقيدة وفي الفكر. وكان ذلك ردّاً على مونولوغ أدّاه شاب إيطالي من أصول مغربية خلال برنامج تلفزيوني، ختمه بالقول موجهاً كلامه للإيطاليين: من أنتم لتقولوا لنا من نكون؟ نحن إيطاليا الجديدة! ورغم أنه ولد وترعرع في إيطاليا، إلا أن زميلاته في المدرسة، لا يتورّعْنَ عن الصراخ في وجهه: أنت مغربي ولن نخرج معك أبداً!

يبقى الاندماج الورقة الوحيدة لمجتمع توقف عن إنجاب الأطفال-كما يقول ماسّيمو غراميلليني في افتتاحية على الصفحة الأولى من جريدة كورييري ديللا سيرا الواسعة الانتشار – وتجد نفسها مضطرة لتقاسم المكان مع مَنْ ينجب بكثرة. طفلة من مدينة مودينا وجدت نفسها وحيدة بين 18 طفلاً من جنسيات مختلفة، يعزلونها أثناء حصّة الألعاب، يتكلمون لغات مختلفة، لا يحضرون حفلة عيد ميلادها ولا يدعونها إلى حفلات ميلادهم. الأم اضطرت لنقل ابنتها إلى مدرسة أخرى، هي الأخرى في الضواحي، حيث تشكلت غيتوهات بات الإيطاليون، كما تقول الأم، يشعرون بأنهم غرباء في بيوتهم!  

يأتي الفرج في لحظة غير مواتية للبعض، وخلاص معنوي ونفسي للبعض الاخر، من شاب لم يكمل بعد العقد الثاني من العمر. يقدّمونه على أنه إيطالي مئة بالمئة، وهو يضيف أن اسمه "غالي" وأبويه تونسيان، ويغني الراب ليترجم أحلام جيله، وليثبت للآخرين، وهو ليس واثقاً بعد إن كان قد أصبح واحداً منهم أم لا، أن الاندماج مسألة لغة وتأقلم مع الواقع الجديد، ويضيف عبر مقطوعته المعنونة "نينّا نانّا" التي حصدت 75 مليون مشاهدة على يوتيوب:

أنا خرجتُ من الوحلِ،

من اسطبلٍ إلى نجمةٍ،

سأشتري فيلّا لأمي،

وبعدها سوف أفكّر بإفريقيا.

ابن بوّابة مدرسة أنا،

وأبي مُلقى في زنزانة،

ليس من أجل النقود، أقسمُ، والله.

 

أخرج متأخراً من البيت. شمس الخريف تتسلل بخمول من بين الأغصان العارية. أتذكر بأنني يجب أن أجري اتصالاً مع أحد الأصدقاء. يدي تخرج فارغة للمرة المئة من جيب السترة. أعراض الزهايمر مُبكّر، أفكّر، أو ربّما إحدى نتائج استراتيجية النسيان التي رسمناها لأنفسنا، وانتهينا بأن ننسى كل شيء؟ يقطع أفكاري صوت منال وهي تصرخ من البلكون المقابل: يالّا يا سميرة، عايزة تروحي الميركاتو (السوق) وإلّا لأ. طبعاً حأروح، تجيبها سميرة من البلكون في الطابق الثالث: بس عايزة أروح الكومونة (البلدية) قبل، وبعدين لازم أمرّ عالفارماتشيا (الصيدلية) كمان! بينما من الجهة الأخرى، كلاوديا تمدّ رأسها من بلكون الطابق الأول وتنادي أولادها الذين يلعبون الكرة في الأسفل: يالّا بَامْبيني، آ تافولا! (يا الله يا أطفال، إلى المائدة). إنها مسألة لغة فحسب، تمازج وتبادل أدوار، ريثما يأتي الأفضل. يالّا إيطاليا!