Print
نجيب مبارك

جوستاف

30 أغسطس 2019
قص
وصل "جوستاف" ليلاً إلى هذه البلدة الساحلية، ولم يفكّر أن يسأل أحداً عن المخيّم الّذي ينوي أن يقضي فيه ليلته الوحيدة، قبل استئناف السفر إلى جبال الريف. سبق له أن زار هذه البلدة رفقة بعض أصدقائه منذ سنين طويلة، خلال منتصف سبعينيات القرن الماضي. وهو ما زال يذكر جيداً أنهم كانوا خمسة شبّان. "جون" هو الذي قاد السيارة السياحية من نوع "فولسفاكن كامبر" موديل 1970 من تولوز إلى سبتة، ومنها إلى الساحل المتوسطي عبر "واد لو"، وصولاً إلى مرفأ صغير يطلق عليه اسم "الجبهة"، حيث قضوا هناك أسبوعاً رائعاً في ضيافة الشمس والبحر والجبال.
مع تقدّم العمر بـ"جوستاف"، ازداد ألق هذه الذكريات الجميلة توهجاً، وفي أحيان كثيرة راودته الرغبة في استعادتها، ولو باقتفاء مسار تلك الرحلة الفريدة أيام الشباب، رجوعاً إلى أبعد نقطة من الماضي الخالد في الذاكرة. وها هو اليوم يبدأ في تنفيذ ما حلم به دائماً، وخطط له على مرّ السنين، ولولا التقاعد الّذي حصل عليه مؤخراً، والذي لم يمرّ عليه سوى شهرين فقط، بعد خمس وأربعين سنة من العمل الشاقّ، لظلَّت إمكانية زيارة هذا الساحل شبه مستحيلة أو بعيدة المنال. كان "جوستاف" تلك الأيام شاباً خجولاً، ولم تكن لديه اهتمامات كثيرة، ترك مقاعد الدراسة مبكّراً ليبحث عن عمل. اشتغل في إحدى شركات نقل الأثاث، وهناك قضى سنوات خدمته الطويلة إلى أن أُحيل على التقاعد. لم يسافر كثيراً في حياته، باستثناء رحلة إلى إسبانيا وأخرى إلى إيطاليا، رفقة زوجته السابقة. وهو ما زال يذكر أنّ الدافع الذي حمّسه وأصدقاؤه للمغامرة، في تلك الفترة الثّورية التي اجتاح فيها الهيبيون ودعاة التحرّر جميع أنحاء أوروبا والعالم، هو الوصول إلى منبت عُشبة خضراء بسيطة، تبدو للناظر عادية وتافهة، لكنها كانت ذات شعبية أسطورية آنذاك، لأنها استثارت خيال جيلٍ بأكمله من الشباب.
توقّف "جوستاف" عند حانوت موادّ غذائية للتزوّد بما يحتاجه للعشاء: مياه معدنية وعلبة حليب. لكنّه حين وصل إلى نهاية الكورنيش لم يجد أيّ علامة تدلّ على وجود مخيّم، كما يشير إلى ذلك جهاز التحديد الجغرافي على يمين لوح القيادة، أو حسب مطبوع الخريطة السياحية المفتوحة على المقعد المجاور للسيارة. لاحظ "جوستاف" أن المكان تغيَّر كثيراً. لم تعد هناك أرض خلاء واسعة تطلّ على الشاطئ، وامتدّ في مكانها كورنيش حديث وبنايات ومقاهٍ
وفيللات. كما أنهم اجتثّوا تلك الغابة الجميلة التي كانت تطوّق المكان من كلّ الجهات. يبدو أن البلدة صارت تعيش ازدهاراً سياحياً في السنين الأخيرة، رغم أنّ لا أثر لسياح أو سيارات أجنبية على الطرقات. يذكر "جوستاف" أنّه قرأ شيئاً عن جاذبيتها في الصيف، بسبب شاطئها الساحر الّذي تقصده للاصطياف آلاف الأسر من كلّ مدن البلاد. أمّا في الشتاء، فهي تبدو شبه خالية ومقفرة كأنّها بلدة أشباح.
بدأ الجوُّ ينذر بسقوط مطرٍ شديد وانخفضت درجة الحرارة بسرعة كبيرة. وأشارت عقارب الساعة إلى السادسة مساء حين خلَت الشوارع من المارّة والسيارات. قام "جوستاف" بجولة طويلة في البلدة من أقصاها إلى أقصاها ولم يصادف أيّ لافتة تشير إلى وجود مخيّم "الشمس والبحر" القديم. ربما قام المسؤولون في البلدية بهدمه لحاجتهم إلى مساحة أكبر من الأراضي، لتُبنى عليها منازل جديدة، ولم يتبقّ منه سوى اسم يتيم على الخريطة، ما زال محفوراً في الذاكرة، أو ربما قد يكون السبب ببساطة هو انقراض عادة التخييم في هذه المناطق، بعد ازدهارها لعقود طويلة. ركن "جوستاف" العربة على جانب الطريق، وهو يفكّر أين سيقضي ليلته، هل في إحدى محطّات البنزين أم على رصيف أحد الشوارع الفارغة؟ في الأخير، انتهى إلى قرار أيقظ بداخله حماساً غامضاً: ما دام قد وصل إلى هذا الساحل القصيّ، بعد سفرٍ طويل وشاق، فعليه على الأقلّ أن يُجاور البحر وينام على هدير أمواجه. لهذا، حصر كلّ بحثه في بعض الشوارع والممرّات القريبة من الكورنيش، شرطَ أن تسمح له برؤية البحر.
وفيما هو يتجوّل بعربته البيضاء "سويفت إسكايب" موديل 2010، صادف على واجهة أحد الأسوار كلمة "باركينغ" بالأحرف اللاتينية، مصبوغة بطلاء أسود مائل على جدار أبيض، وتحتها كلمات بالعربية لم يفقه منها شيئاً. قاد العربة بهدوء إلى مدخل الباركينغ، بينما الظّلام بدأ يخيم بسرعة على المكان، ولم يجد في الداخل سوى سيارتين قديمتين وشاحنة ضخمة مفشوشة العجلات، ولا أثر لحارس أو شخص يمكن استفساره أو طلب الإذن منه لقضاء الليلة هناك. كان المكان يبدو مقفراً بسبب قساوة البرد وهطول المطر. ثمّ سرعان ما اكتشف، عبر ضوء مصابيح العربة، أنّ الباركينغ يتّسع في الواقع لعدد أكبر من السيارات، ومع ذلك فهو يبدو شبه فارغ تماماً. اختار أقصى الزاوية حتّى لا تزاحمه سيارة أخرى من الجانبين. وحين أوقف المحرّك، قال مع نفسه: "سيأتي الحارس بالتأكيد وأسلّمه أجرة المبيت، يبدو أنّه غائب الآن لسببٍ ما، وربما سيعود بعد قليل".
بعد لحظة قصيرة، دخل غرفته الصغيرة في خلفية السيارة، أضاء المصباح الصغير على الطاولة، قبل أن يلتهم عشاءه البسيط ويرتشف بعض النبيذ. عندما انتهى من الأكل، فتح كتاباً سياحياً، لم يفارقه منذ خروجه من تولوز، وظلّ يقرأ مدة ساعة تقريباً إلى أن غلبه نعاس ثقيل جرّاء تعب السفر المتراكم لأيّام. وما إن استسلم "جوستاف" للنوم، حتى داهمه حلمٌ غريب: رأى نفسه يرقص مع أصدقائه القدامى على رمال شاطئ "الجبهة"، وهم متحلّقون حول نار صغيرة، تحت سماء مرصّعة بنجوم لا حصر لها، بينما البحر منبسط مثل سجّادة متلألئة، وهسيس الموج الهادئ يتواتر كأنّه عزف آلة موسيقية كونية، لامرئية وساحرة. كانوا يدخّنون لفافات تبغ مغموسة في نكتار عشبة الجبال المطلّة على الشاطئ، وهم في حالة نشوة كبيرة، ومن حولهم يعبق المكان برائحة نفّاذة، كأنّها أريجٌ يهبُّ من بستان الجنّة. كانت رائحة قويّة، حرّيفة، مثيرة ولذيذة، لا تملّ النفس من استنشاقها بعمقٍ إلى ما لانهاية، بينما الجسد يغرق ببطء في إحساس مدغدغ خفيف وأثيريّ، كما في حالة فقدان الجاذبية.
فجأة، استفاق "جوستاف" من غفوته مذعوراً، وهو يشعر بألمٍ في رقبته بسبب وضعية النّوم غير المريحة. كان هواء العربة يعجُّ برائحة قويّة والرّيح تعصف في الخارج، مع مطرٍ شديد يهطل ويسبّب ضجيجاً لا يحتمل فوق سطح العربة. بسرعة تلاشت نشوة الرّقص على الشاطئ، وانقلبت الرائحة المثيرة المخدّرة إلى رائحة كريهة جدّاً ومقرفة بشكل فظيع. نظر حواليه بحثاً عن ما قد يكون سبباً، أو مصدراً، لانبعاث هذه الرائحة، فلم يجد شيئاً. شاهد بقايا الطعام، حملها بيده وتشمّمها، ثمّ قال: لا ليست هي. أجال بصره في زوايا الغرفة الصغيرة، كلُّ شيء ما زال على حاله. فكّر أنها ربّما آتية من مكان آخر. أطلَّ من نافذة العربة على الخارج، وهنا فقط تأكّد أن الرائحة أقوى بكثير من الداخل: فعلاً، إنّها آتية من الخارج. لكن من أين بالضبط؟
كان المطر عنيفاً في الخارج. يستحيل معه الخروج لاستطلاع مصدر الرائحة، خشية الإصابة بنزلة برد قوّية. نظر "جوستاف" من نوافذ عربته الهامدة، فلاحظ أنه صار محاصراً من كلِّ الجهات. على يمينه شاحنة بيضاء متوسّطة الحجم، ومن خلفة مباشرة شاحنة أخرى من الطراز نفسه. أمامه السور القصير الذي يطلّ على البحر، وعلى يمينه جدارٌ عال من الإسمنت. فكّر أن الحلَّ الوحيد هو أن يبقى بداخل العربة حتّى مطلع الفجر. استسلم للأمر الواقع وتكوّم فوق سريره منزعجاً، واضعاً يده على أنفه وهو يقشعرّ من البرد. لم يكن يتوقّع أن بداية رحلته إلى أرض الذكريات الجميلة ستنقلب إلى كابوس حقيقي من أوّل ليلة. أربعون عاماً من الحلم، من الانتظار يوماً بيوم، عاماً بعام، ليجد نفسه في ورطة سخيفة، بين رائحة فظيعة ومطرٍ عنيف لا يتوقّف، وربّما فيضانات تجتاح البلدة بعنف، أو هو الطوفان نفسه، لأنّ العربة صارت تتأرجح يميناً ويساراً بفعل الرياح والسيول القوية، حتى أنّ بعض المياه تسرّبت ببطء من الأسفل. كأنها لعنةٌ ونزلت دون سابق إشعار فوق رأس "جوستاف" المسكين، وذنبه الوحيد أنه قرَّر ذات جنون أن يفتح صندوق الذكريات المقفل منذ سنوات طويلة، فإذا به ينبش قبراً حقيقياً في مكانه، لم تمر سوى أيام قليلة على دفن صاحبه.
بقي "جوستاف" على هذه الحال ثلاثَ ساعات وكأنّه في الجحيم. وحين أطلّت خيوط الشمس
الأولى مع الفجر، توقّفت زخّات المطر القوّية وانخفض مستوى المياه تحت العربة. فتح الباب وخرج، لكنه سرعان ما وقف مندهشاً من المشهد. كانت ثمّة صفوف أخرى من الشاحنات تملأ الباركينغ عن آخره. كان يظنّ أنهما شاحنتان فقط تطوّقانه من اليمين ومن الخلف، لكنّه اكتشف أنّ عددها أكبر ممّا كان يظنّ. إنّها شاحنات نظافة مزدحمة عن آخرها بالأزبال والنفايات من كلّ نوع، وهذا من دون شك هو مستودعها الوحيد بعد أن تعود من مطرحٍ ما خارج البلدة. لم يكن الأمر يحتاج إلى تفكير طويل ليستنتج "جوستاف" أنّه دخل إلى الباركينغ الخطأ، بسبب جهله باللغة التي كُتبت بها اللافتة، فالمكان مخصّص لشاحنات النظافة وليس مرآباً عمومياً. ولا بدّ أنّ جميع الطرق مقطوعة خارج البلدة، لهذا عادت كلّ الشاحنات إلى المستودع في انتظار توقّف المطر وفتح المسالك. كلّ هذا أيضاً سوف يتأكّد منه "جوستاف" بعد ساعات قليلة، عندما اتّصل برقم الزبائن المدوّن تحت شعار شركة النظافة. أخبروه أنّ الشاحنات لن تتحرّك ذلك اليوم، وستمكث في المستودع حتّى الغد على الأقلّ، وهذا يعني أنّها ستظل في مكانها بكلّ ما فيها من أكوام الأزبال والنفايات المقرفة وما تثيره من روائح كريهة وفظيعة. حاول "جوستاف" استعطافهم لكي يطلبوا من سائقي الشاحنات المتاخمة لسيارته أن يفسحوا له ممرّاً للخروج. رفضوا ذلك بدعوى أنّه هو المخطئ عند دخوله إلى مستودع الشركة، وعليه أن يتحمّل النتائج، علماً أنّ السائقين رحلوا إلى بيوتهم البعيدة قبل ساعات، ومن الصّعب أن يتم استدعاؤهم لأمرٍ تافِهٍ كهذا، لأن كلّ الطرق مقطوعة بسبب السيول والأمطار التي لا تتوقف. "يجب أن تصبر حتّى الغد، إنّها ليلة واحدة وستمرّ". قالت له فتاة الشركة، بلغة فرنسية ركيكة، وصوت متثاقل فيه مزيجٌ من التهكم واللامبالاة، ثمّ أقفلت الخطّ. هزَّ "جوستاف" رأسه كالمجنون: "ليلة واحدة فقط، يا بنت العاهرة!؟... ليلة أخرى مع هذه الرائحة الفظيعة!؟".
ما إن مرّت نصف ساعة تقريباً حتّى نفد صبر "جوستاف". جهّز بسرعة حقيبة يدوية صغيرة، جمع فيها كلّ ما يحتاج لقضاء يوم وليلة، ثمّ انطلق في اتّجاه مركز البلدة، تاركاً عربته محاصرة بين أطنان من الأزبال والنفايات. تمشّى لمسافة طويلة عبر شوارع فارغة من البشر وأرصفة مغمورة بمياه مجاري الصرف الصحّي والجرذان والوحول والقاذورات من كلّ صنف، وهو يندب حظّه العاثر الذي أوصله إلى هذا المكان البئيس، حتّى وقف أمام باب الفندق الوحيد بالبلدة، وهو فندق صغير ومتواضع جداً، وشكله حقير لدرجة لا توصف، لكن على بوابته الصغيرة نُقش اسمٌ غامض بالأحرف اللاتينية: "فندق عشبة الخلود".