Print
مصطفى تاج الدين الموسى

أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر

16 مايو 2019
قص
للحرب أعاجيبُها التي تعجز العقول عن استيعابها، ومن عاش في مدن الحرب يدرك هذا الشيء تماماً. يُقالُ إن الزمن كفيلٌ بترتيب فوضى الأشياء، ولو بدرجةٍ متواضعة، وهذا ما بدأ الناس يلمسونه مؤخراً، بعد سنوات من الحرب، وهم يتذكرون أحوالهم في السنة الأولى من المعارك.
عندما اندلعت الاشتباكات في مدينتنا حصلت فوضى عارمة، لكن الحرب سرعان ما انتظمت مع مرور الزمن، شيئاً فشيئاً، وتم ترتيب أمورها بين الأحياء الشمالية التي سيطرت عليها تلك الطائفة، والأحياء الجنوبية التي سيطرت عليها هذه الطائفة، لتنحصر المعارك الدامية بمنطقة السوق، وسط المدينة، بعد أن تبادل الطرفان تهجير المختلفين طائفياً عنهم، أو قتلهم، أو أسرهم ثم مبادلتهم، حتى الاشتباك وتبادل النار ما عاد يحصل في كل يوم، فالطرفان اتفقا على يومي عطلة كلّ أسبوع، خصصا يوماً منهما لتبادل القتلى والأسرى، على قرف، ويوماً آخر لتبادل بعض السلع التجارية على عجل.
تولى الطبيب "سليمان" مهمة ترتيب الجثث، وتسجيلها وتغليفها في مركز طبي مخصص لهذا الغرض، بعد استلامها من المقاتلين، ليشرف على تسليمها، في منطقة السوق، للطبيب محمود الذي يتولى المهمة ذاتها مفوضاً من الطرف الآخر. ومن ثمّ يرجع كلّ طبيب منهما مع الجثث التي تخص جماعته إلى مركزه، لفحصها ومعرفة طبيعة التعذيب الذي تعرضت له قبل الوفاة، وتسجيل ذلك في تقرير لقيادة المقاتلين، ثمّ الانكباب على رتق جراح الجثث، وتنظيفها، وتكفينها، ليتم تسليمها أخيراً إلى ذويها.
على الرغم من أن الطبيبين كانا من دفعةٍ واحدة في الجامعة، لكن ولادتهما في طائفتين مختلفتين أجبرتهما، منذ بداية الحرب، على التوجه إلى الأحياء التي تناسب طائفتهما، كما
أجبرت عشرات الآلاف من الناس على الفعل ذاته.
ذات يوم، أثناء تسليم الجثث بين أنقاض الشارع الرئيسي في السوق، دسّ الدكتور سليمان ورقة مطوية في يد الدكتور محمود، همس له بكلمات جدية، وهو يغمزه بعينه اليسرى:
- اقرأها جيداً، وفكر بالأمر بهدوء..
أخذ الدكتور محمود الورقة ليضعها مسرعاً في جيبه، وهو يتلفت حوله بين المتطوعين، الذين يساعدون الطبيبين في عملية الاستلام والتسليم.
في طريق الرجوع قرأ الورقة مرات عدة، وفي الأيام التالية فكر كثيراً بمضمونها، حك ذقنه محتاراً، سرعان ما راقت له الفكرة التي شرحها له الدكتور سليمان على الورقة.
في الأيام التي فصلت بين هذا اللقاء واللقاء التالي بينهما، صار الدكتور محمود يتوهم دخول زميله الدكتور سليمان عليه، ليقف فجأة أمامه، ويشرح بصوته الكلمات ذاتها على تلك الورقة:
- يا عزيزي، الحرب مستمرة منذ سنوات، والآن لدينا فرصة لتحسين أوضاعنا، أنت وأنا، ما رأيك أن نقوم بتهريب بعض الأشياء الثمينة والمجوهرات والعملات الموجودة داخل الجثث التي نسلمها لبعضنا كلّ أسبوع؟ نستفيد ونقدم الفائدة للآخرين، إن وافقت، بإمكاننا، أنت وأنا أن نشيع في مناطقنا، أنه لدينا معارف من المقاتلين، ويمكننا إيصال بعض الأمانات إلى الطرف الآخر مقابل أجر معين.. ما رأيك؟
"موافق" صار الدكتور محمود يكرر هذه الكلمة في سرّه كلما فتح ورقة زميله، قبل أن ينطقها أمامه بصوت خافت ومرتعش، عندما التقى به بعد أسبوع بين خرائب منطقة السوق.
في الأيام التالية أشاع كلّ طبيبٍ منهما بين معارفه في منطقته، أنه يستطيع إيصال الأمانات الثمينة إلى الطرف الآخر، وكان هذا الخبر بالنسبة للكثيرين شيئاً جيداً، فأغلب الناس عندما تبادلوا الهجرات، تركوا خلفهم بعض الأشياء الثمينة عند معارفهم، كما أن بعض أهل المدينة من الطرفين أصبحوا بحاجة للعملات الأجنبية، وآخرون لديهم نية أن يساعدوا جيرانهم السابقين قبل عمليات الفرز والتهجير، سراً، وبعيداً عن أعين المقاتلين من طائفتهم، أو من مسلحي الطائفة الأخرى.. مَن سمع هذا الخبر خمن أن لهذا الطبيب، وذاك الطبيب، تواصلاً وعلاقات جيدة مع المقاتلين تمكنه من إيصال الأمانات لهم، مقابل مكاسب مادية يتقاسمها مع المقاتلين.
وفعلاً، سرعان ما توجه بعض الناس، على نحو متفرق، إلى الطبيبين، في أوقات متقاربة، وأعطوهما بعض الأشياء الثمينة، ودفعوا لهما نقوداً بهدف إيصالها إلى عناوين محددة في الطرف الآخر، دون أن يعرفوا ما هي بالضبط الطريقة التي سيتبعانها في التوصيل.
ذات يوم استلم الدكتور سليمان من زميله الدكتور محمود خمس جثث. همس الثاني في إذن الأول:
- في جثة الشاب الأشقر عملات أجنبية، وفي جثة الرجل البدين قطع ذهبية، غلفتُهما جيداً مع العنوانين، وخيطتُ الجراح عليهما.
عندما رجع الدكتور عباس إلى مركزه الطبي، فتح الجراح العميقة لهاتين الجثتين وأخرج منهما الأمانات، قبل أن يمارس عمله المعتاد في تنظيف الجثث وأرشفتها وتسجيلها وتكفينها، في صباح اليوم التالي سلم الجثث لأهلها، ومساءً أوصل الأمانتين إلى العنوانين المقصودين.
الأشياء الغريبة بدأتْ مع الدكتور محمود في ذات المساء الذي أعد فيه طبقاً من حساء العدس، وهو ما سوف يتذكره دائماً، متحسراً على ليالٍ بعيدة لم تقلق نومَه فيها الأشياءُ الغريبة.
كادت ملعقة الحساء أن تلامس شفتيه، لكن، قبل الرشفة الأولى، علا في المكان صدى خبطات سريعة على الباب، أعاد الدكتور محمود ملعقته إلى صحن الحساء ومشى مستغرباً ليعرف من هذا الطارق، من بعيد كان صوت القذائف يعلو شيئاً فشيئاً، مثل ظلِ أسود اللون، يتمدد على الجدار، ويستطيل ببطء.
قال في سره ممتعضاً: لا يوجد أسوأ من الزوار في الأوقات المتأخرة..
سرعان ما بلع كلماته، وهو يرى من العين الساحرة عمته العجوز التي تسكن قريباً من هنا، لم يشاهدها منذ أشهر، خصوصاً أنها في سنوات الحرب بدأت تعاني من اضطرابات في عقلها.
فتح لها الباب، ودعاها للدخول بعد أن قبل يدها وعانقها بحرارة، وبمجرد أن جلست أمامه أجهشت ببكاءٍ مرير، وهي تلوّح بورقة بين أصابعها، شرحت له بكلماتها المختنقة في حلقها:
- أرجوك يا بن أخي، سمعتُ أن لديك معارف يستطيعون إيصال الأمانات إلى الطرف الآخر، لقد كتبتُ رسالة إلى زوجي، من سنوات لم أشاهده، منذ أن اضطر إلى اللجوء إلى مناطق طائفته غصباً عنه، بعد مقتل كلّ أولادنا.. كتبتُ له هذه الرسالة، اشتقتُ إليه، تذكرتُ أننا كنا
نكتبُ لبعضنا عندما كنا طلاباً في الجامعة، شعرتُ في وحدتي بالحاجة لأن أرجع وأكتب له.. أرجوك، أوصل رسالتي هذه له، وبالمقابل خذ إسوَرتي الذهبية، تقاسم ثمنها مع معارفك الذين يوصلون الأمانات.
التقط يدها ليمنعها من خلع إسورتها، وهو يشيح بوجهه جانباً، مصغياً إلى نشيج دموعها بعد أن صمتت، تنهد وأخذ منها الرسالة، هزّ رأسه ثمّ وعدها أن يوصلها لزوجها العجوز، في الطرف الآخر، وهو يربت بحنان على كتفها، قبل أن يساعدها على النهوض ويمشي معها ببطءٍ إلى الباب.
عندما عاد إلى طاولته لم ينشغل بصحن الحساء، فتح رسالة عمته ليقرأها وهو يزفر ويتنهد كلّ بضع كلمات، متألماً على حال عمته وزوجها، كلمات رسالتها كانت مثالاً واضحاً على بؤس اضطراب عقلها.
- جثة المرأة فيها بعض العملات، مغلفة مع عنوانها، جثة الشاب ذو الشعر الطويل، فيها ورقة، إنها رسالة، غلفتها مع عنوانها، لا تستغرب، إنها للعجوز عمتي، رجتني أن أوصلها للعجوز زوجها في منطقتك، أرجوك، لا تستغرب، تحدث في الحرب أشياء مجنونة، الحرب ذاتها شيء مجنون، حالُها يوجع القلب، لديها اضطرابات في عقلها، قُتل أولادها وهُجِّرَ زوجُها، لنحقق لها أمنيتها هذه، بيت زوجها العجوز غير بعيد عن مركزك، سلمه إياها..
ارتبك الدكتور سليمان كثيراً، وهو يسمع هذه الكلمات من زميله الدكتور محمود، وخلفهما بعض المتطوعين يرتبون الجثث على النقالات. كان في إحدى الليالي السابقة، وهو يراقب عن كثب الحرب من شرفته، قد أيقن أن هذه الحرب مجنونة، لكنه لم يتخيل أبداً، أن جنون الحرب سوف يجعل من الجثث سعاة بريد، لنقل الرسائل بين حارات الحرب في هذه المدينة المنكوبة، حتى الخيال يعجز عن اختراع مثل هذا الجنون، الجثة الآن هي ساعي بريد، والرسالة داخلها! كأن للخيال حدوداً في الغرابة، أما في الحرب فلا حدود للغرابة.
ضاعت الكلمات وتداخلت الحروف على شفتيّ الطبيبين، وهما يشاركان بأيديهما المرتجفة بقية المتطوعين في إغلاق سحابات الأغلفة البلاستيكية السوداء على أجساد الجثث الدامية، ليأخذ كلٌ منهما الجثث التي تخص طائفته، ويمضي بها إلى مركزه.
الغرابة لن تتوقف هنا، الغرابة التي تشرب الآن الحرب، وكأنها خمرها، سوف تتمايل مخمورة بفظاعة بين أقدار طبيبين، وتتخذ شكل مسلسلٍ داكن يتألف من حلقات لا تصدق، مسلسل لا يشاهده من سكان المدينة سوى هذين الطبيبين.
عندما رجع الدكتور سليمان إلى مركزه، وبعد أن ساعده المتطوعون في نقل الجثث إلى الداخل، ومضوا إلى بيوتهم، انهمك بفتح جثة المرأة ليخرج منها العملات، التي كانت مغلفة جيداً مع عنوان صاحبها تحت الجرح العميق، ثمّ انتقل إلى جثة الشاب ذي الشعر الطويل، وهو ينوي فتح جرحه ليخرج منه تلك الرسالة التي كتبتها عمة زميله، العجوز المجنونة.
ارتبك في البداية، حالُ جثة الشاب كان غريباً، وكأن نبضاً بطيئاً خافتاً مثل ضوء شمعة تكاد تنطفئ ما يزال فيها، فحص الجثة على عجل ليكتشف، وأنفاسُه تتسارع في صدره، أن هذا الشاب ما يزال على قيد الحياة. وفوراً أجرى الدكتور سليمان له بعض الصدمات الكهربائية، ثمّ قام بتوصيل الأنابيب والأجهزة إلى أماكن متفرقة من جسده الهزيل، بعد ساعات من عمله المضني في تضميد الجراح، أيقن أن هذا الشاب سوف يستعيد وعيه حتى الصباح.
على شرفته أشعل الدكتور سليمان سيجارة وعبَّ منها بعمق، زفر طويلاً، كان مستغرباً للغاية، لم يفهم، هل المقاتلون في الطرف الآخر، وزميله الدكتور محمود، لم ينتبهوا إلى أن هذا الشاب لم يفارق الحياة بعد؟ أم أنه فعلاً قد فارق الحياة ورجع إليها مجدداً. الحرب مجنونة، إنها الوقت المناسب لحدوث الأشياء المجنونة.. عاد ليتأمل الشاب، انتبه لتحسن نبضات قلبه وأنفاسه، تأمل صدره، هناك في أعماق هذا الصدر، توجد رسالة مجنونة كتبتها عجوز مجنونة، لم يستطع الدكتور سليمان إخراجها، ولن يستطيع، حفاظاً على حياة الشاب.
لم ينم جيداً تلك الليلة، أرقت نومه الكوابيس، في الصباح سلّم الجثث لذويها، واتصل بعائلة الشاب. بعد وصول عائلته بساعات قليلة استعاد الشاب وعيه قليلاً، لم يفهم أحد منهم كيف سلّم المقاتلون مصاباً دون ثمن أو مقابل، خمنوا أن القدر كان إلى صفهم، شكروا الله بأصوات مختلفة، وبعد يومين نقلوا الجريح إلى البيت وقد تحسنت صحته، لوح له الدكتور سليمان مودعاً على باب مركزه الطبي، خيّل له أن الرسالة هي التي تقف أمامه، ثمّ تمضي مبتعدة عنه، دون أن يستطيع إيصالها لصاحبها، فلوح لها مودعاً إياها، إلى أن اختفتْ الرسالة عن ناظريه.
بعد يوم واحد، الزوج العجوز جاء إلى الدكتور سليمان، كان القصف شديداً، عرفه على نفسه بعينين دامعتين، أخبره بصوت دافئ يثقله الحنين، أنه سمع من المعارف عن قدرته على إيصال الأمانات، ثمّ ترجّاه بصوت أتعبته أهوال الحرب، أن يوصل له رسالة كان قد كتبها إلى الطرف الآخر، حيث زوجته العجوز التي لم يشاهدها منذ سنوات، عرض عليه مبلغاً متواضعاً من المال.. رفض الدكتور سليمان هذا المبلغ وأخذ من العجوز الشاحب رسالته، وقلبه ينفطر عليه ووعده بإيصالها، لم يخبره عن رسالة زوجته التي ظلت مدفونة في جسد شاب إلى الأبد، دفن هذا السر في أعماق قلبه.
بعد أن مضى العجوز دسّ الدكتور سليمان الرسالة في جرح إحدى الجثث، ثمَّ خاطه، وفي صباح اليوم التالي، بين أنقاض سوق المدينة أخذ زميله الدكتور محمود جانباً ليحدثه بكلمات سريعة عن جثة الشاب ذي الشعر الطويل، وقد رجع للحياة بشكلٍ يضع العقل بالكف، تأكد من زميله أن صاحب الجثة كان ميتاً، بينما الألوان الداكنة تحبو تباعاً مع الكلمات المرتعشة على ملامح الدكتور محمود، الذي أقسم لزميله أن صاحب الجثة كان فعلاً ميتاً ومنذ أيام، فهما من بعضهما أن هذا الشاب قد عاد إلى الحياة بشكل لا يصدق، والرسالة بقيت في داخله، دون أن يعرف بها. ثمّ أخبره الدكتور سليمان أن دائرة المصادفات الغريبة قد اكتملت البارحة، عندما زاره العجوز زوج عمته، ومعه - هو الآخر- رسالة، ورجاه أن يرسلها كأمانة للطرف الآخر من المدينة، وهي موجودة الآن في جثة تلك الصبية السمراء، بين بقية الجثث.
مال جسده وكاد أن يقع أرضاً مغمياً عليه فأمسك به الدكتور سليمان، شعر الدكتور محمود بالاختناق، وقد داخ من هول هذه المصادفات التي لا يحتملها عقلٌ بشري، لا يعرف كيف وصل إلى مركزه مع هذه الجثث، لم يكن الدكتور محمود في هذا العالم، شعر أنه في عالم آخر، عالم مجنون.
لم يعد يسمع الكلمات، كلمات الدكتور سليمان عندما ودعه، كلمات المتطوعين في السيارة، أيضاً كلمات المتطوعين ذاتهم في المركز وهم ينقلون الجثث المغلفة، ليمددوها على الأسرة قبل أن يمضوا، لم يستطع أن يسمع أيّ كلمة من تلك الكلمات في الساعات الماضية، كانت شفاه الجميع تتحرك أمامه، لكنه لم يعد يسمع أو يفهم ولا حرف.
عندما بقي لوحده أسرع إلى الجثث، وفتح أغلفتها، جثةً جثة، متأكداً من موتها، حتى وصل إلى جثة الصبية التي خاط جرحها زميلُه الدكتور سليمان، بعد أن حشر رسالة العجوز زوج عمته داخله، عاينها مرتاباً، سقط قلبه من صدره عندما تأكد أنها ما تزال على قيد الحياة، لكن جذوة الحياة في جسدها تكاد تنطفئ، أسرع إلى أدواته الطبية وشرع بمعالجتها لساعات طويلة، حتى اطمأن على استقرار وضعها، بينما رسالة العجوز زوج عمته، ظلت داخل هذه الصبية، استطاع أن ينقذ الصبية لكنه لم يستطع إنقاذ الرسالة، بعد أيام قليلة خرجت الصبية السمراء من المركز، وهي تتكئ على أفراد أسرتها، لتمضي مبتعدة عن الدكتور محمود.. وثمّة رسالةٌ داخلها لا تعلم بأمرها.
في الأسابيع التالية، تكررت هذه الحالة الغريبة مرات عدة، لم يجد الطبيبان أي تفسير علمي لها، فسراها بين أدخنة سجائرهما بأنها من جنون الحرب.
ذات يوم، وأثناء تسليم الجثث، الطبيبان كلاهما رفعا رأسيهما إلى السماء، شعرا بأنها وحدها، السماء فقط، مَنْ يعرف بسرهما، سر الرسائل المدفونة في الجثث، الرسائل التي لا تصل إلى عناوينها، لكن عوضاً عن ذلك، ثمَّة جثث ترجع إلى الحياة مجدداً، هي الجثث نفسها التي دفنت داخلها تلك الرسائل، أيّ جنون هذا؟ لن يصدقهما أحد إن تحدثا للآخرين بسرهما.
في الوقت ذاته، هنا، في غرفة شاحبة، امرأة عجوز تعاني من اضطرابات في عقلها، ظلّت تكتب الرسائل دون يأس إلى زوجها في شمال المدينة، ولم تصلها أيّ رسالة منه.
هناك، ذلك العجوز المتعب جداً، في غرفته المتواضعة، ظلّ يكتب الرسائل دون يأس إلى زوجته في جنوب المدينة، دون أن تصله أيّ رسالة منها.
أما أولئك الذين عادت الحياة إلى أجسادهم مجدداً بعد أن غادرتها قليلاً، رجعوا إلى حياتهم الطبيعية، دون أن يشعر أي منهم أن رسالة ما توجد في جسده، تحت جرح كبير خيط بعناية. وبدلاً من أن تحضن القبور جثثهم، حضنتْ أجسادهم تلك الرسائل التعيسة، وكأن أجسادهم قبور للرسائل.
مع مرور الزمن، ازداد عدد الذين رجعوا إلى الحياة، من قتلى الحرب بين الطائفتين، بسبب
تلك الرسائل، كما أكد الطبيبان لنفسيهما.. في لقاءاتهما الموحشة بين أنقاض السوق.
بعد ساعات من العمل الطبي المجهد، اطمأن الدكتور سليمان على وضع هذا الجريح، صار يتنفس بشكلٍ جيد، وخفقاته صارتْ شبه طبيعية، كان منذ ساعات قليلة جثة هامدة، مثل بقية الجثث التي استلمها اليوم، وفيها جرحٌ عميق، داخله وضع زميله الدكتور محمود رسالة، وبعد التبادل في سوق المدينة، اكتشف، كالعادة، أن الحياة رجعت إليها بشكل خجول، قبل أن يعمل عليها، فينقذها ويفشل بإنقاذ الرسالة كما في كلّ مرّة.
مشى الدكتور سليمان، وهو متعب للغاية، مبتعداً عن الجريح، وخرج إلى شرفته، تأمل الناس وهم يمشون في الشارع وعلى الأرصفة، كانوا يمشون باطمئنان، فاليوم يصادف أحد يومي العطلة الأسبوعية عن الحرب، أشعل سيجارته وعبَّ منها، بينما الشمس تهبط من بعيد ببطء في طريقها إلى الغروب، وقد لونت السماء بلون الشفق الدامي.
كان مساءً هادئاً، رفع رأسه الدكتور سليمان لينفث دخان سيجارته عالياً، وقد أثقلت روحَه تلك الأسرارُ التي ما خطر على باله يوماً، أن يصادفها في حياته، وكأنها فيلمٌ لحكاية غريبة.. فيلمٌ كتبه وأخرجه قدرٌ مشؤوم.
تأمل السماء مطولاً، كان متأكداً أنها تشاهد كلّ الأشياء التي تحدث تحتها. لكنها لا تحكي للبشر هذه الحكايات، التي تحدث في حياتهم، لأن البشر إن سمعوا بها، سوف تمس عقولهم لوثة الجنون، لا محال.
- لن يصدقوا كلامي إن أخبرتهم سرّ الرسائل المدفونة في الجثث، وأن الجثث التي بها رسائل عادت إلى الحياة فقط من بين كل القتلى، إن الأشياء التي لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر، لن أستطيع أن أحكيها لهم..
قال وهو يحاور نفسه، مبتعداً بعينيه عن سماء الغروب الدامي.
بدأ الدكتور سليمان يغني بشفتيه أغنية يحبها كثيراً، بصوت خفيض، لم يسبق له أن دندن كلمات هذه الأغنية خلال سنوات الحرب، كان قد نسيها، لكنه تذكرها الآن.
من على شرفته، راقبهم بعينين حزينتين، وهو يغني متعباً، شعر في هذه اللحظة تماماً، أن أولئك الناس في الشارع وعلى الأرصفة، لا يعرفون أن بعضهم عاد إلى الحياة بأعجوبة، يعيشون معنا وحولنا، في هذه الأمكنة، تحت السماء ذاتها، لديهم جرحٌ عميق، من مخلفات الحرب.
لكن، لا الجرحى، ولا بقية الناس، يعرفون أن داخل هذا الجريح، أو تلك الجريحة، توجد رسالة.

(إسطنبول: 30/4/2019)