Print
مصطفى تاج الدين الموسى

لعبة الولد الوحيد

19 أبريل 2019
قص
الكتب التي أوصلتْ أبي إلى السجن، هي ذاتها التي أوصلتني إلى قبو البيت. هكذا فهمت أمي مصيرنا، أبي وأنا، وهي تمسح الغبار ــ شاردة الذهن ــ عن رفوف المكتبة، في يوم العطلة الأسبوعية، خلال نهار ربيعي معتدل.
خُيل لأمي أن ثمة أيادٍ تمتد من بين الكتب المرصوفة على الرفوف، لتمسح عن خدها دموعها الصامتة. وفي الوقت ذاته، وخلف نافذة قريبة منها، استمر ذلك اليوم الربيعي في اعتداله، بلا مبالاة ودون اهتمام منه لتلك المرأة التعيسة الواقفة بجوار تلك النافذة، تتبادل مع الكتب مسحَ ما قد علق عليهما، هي والكتب، من غبار ودموع.
بصراحة، في تلك اللحظة بالذات، لستُ متأكداً إذا كان للكتب، نفس الخيالات التي عند أمي.
أحب اللعب وحيداً في حديقة بيتنا، بين أشجار جدي. أحياناً أتعرض لإزعاجٍ من بنات الجيران، أمهاتهن في غرفة الجلوس مع أمي، وبناتهن يلعبن هنا معاً بين الأشجار، يحاولن دعوتي لألعب معهن، أرفض بصمت، يكررن المحاولات وأكرر رفضي الصامت، ضقت ذرعاً بهن وقد حاصرنني بين الأشجار، وحتى أتخلص منهن قررت إرعابهن، ليبتعدن عني مرة واحدة.. وإلى الأبد.
انحنيتُ أمامهن لألتقط صرصاراً كان يتمشى على التراب جانب شجرة الأكّي دنيا، رفعته بأصابعي ولوحت به أمام وجوههن، وهن يبتعدن خائفات عني، ابتسمتُ بخبث لتلك الفكرة التي ارتجلها عقلي في مخيلتي، وأنا أقرّب الصرصار إلى فمي، شهقات خوفهن اتسعت على وجوههن، التي استباحتها الألوان الداكنة عندما فتحتُ شفتيّ على آخرهما، مزيج من خوف وذهول حفر عميقاً في أعينهن، رميتُ الصرصار في فمي، فصرخن بفزع من هول الرعب، ثمّ ابتلعته مستمتعاً، تماماً كما أفعل عادةً بقطعة الشوكولا.
ابتعلتُ الصرصار بهدوء، في ابتلاع كامل، مرّة واحدة.. وإلى الأبد.
ركضن من أمامي وهن يتعثرن ببعض، وقد علا صراخهن، ليدخلن البيت بضجيج عالٍ.. شعرتُ بالسعادة، وأخيراً تخلصتُ من هذه الكائنات المزعجة، التفتُ بعد قليل لأرى أمي وخلفها الجارات على الشرفة الواطئة لغرفة الجلوس، التي تطل على حديقة بيتنا، ينظرن إليّ معاً بشكل غريب، وكأنهن لم يصدقن ما أخبرتهن به الطفلات.
داعبتُ بطني أمامهن، لأبدو كمن تناول وجبة شهية تواً، وتجشأتُ، ليتكاثف الشعور بالقرف داخلهن تجاهي، ريح هبت عليّ من جهة الجارات، فعبثت بخصلات غرة شعري، مسحت بكفي عليها لأعيد ترتيبها متجاهلاً قرفهن الكثيف والصامت. نظرتُ بتحدٍ في عيني أمي، ثمّ استدرتُ لابتعد بين أشجار البيت، منتشياً بانتصاري، بينما أمي تراقب شبح طفلها، يتلاشى ببطءٍ بين الأشجار التي زرعها والدها منذ عقود، ليختفي بينها مع غروب الشمس وكأنه شبح قد سقط في حياتها قادماً من عالم غامض.
"الولد الذي ابتلع الصرصار" هذه العبارة سوف تحتل مكان اسمي بالنسبة لجاراتنا في الحارة، عندما يتحدثن عني، ولكن الأهم هو أنه لن تقترب مني أي طفلة من طفلاتهن حتى بعد مرور سنوات، أما الصرصار الذي ابتلعته، للأسف.. سوف يعيش داخلي طويلاً، وسوف يمتد عمره في أعماقي، إلى أضعاف أعمار الصراصير التي تعيش في الطبيعة، خارج جسدي.. وكأن
الحياة داخل جسدي منحته فرصة للخلود، لم تحظَ بها صراصير الحدائق.
لم يكن البيت الذي نعيش فيه، وقد بناه جدي منذ سبعين عاماً تقريباً، مبنياً على الطراز المعماري "الفيكتوري"، أو "القوطي"، ولم يعمره جدي  في مرحلة ما بعد الحداثة، ولم يتم افتتاحه أثناء افتتاح قناة السويس، كما كنتُ أدعي بفخرٍ أمام زملائي من طلاب إعدادية "النهضة" في حارتنا، شمال المدينة، ولا أعرف كيف تسللت هذه العبارات الشائكة بالنسبة للمراهقين أمثالي إلى لغتي، أغلب الظن أن عقلي كنسها بشكل عشوائي، عن غير قصد من تلك الكتب التي تركها أبي على رفوف مكتبته، قبل أن يُعتقل عندما كنتُ رضيعاً، لتمضي السنوات دون أن نعرف شيئاً عن مصيره.
كان بيتُنا مبنياً بشكلٍ عادي مثل أيّ بيت، لا يزيد عن بقية البيوت، إلا بحديقة أوسع من حدائق تلك البيوت في حارتنا، لكن رأسي كان صندوقاً للكلمات الغريبة، لهذا جررتُ "الطراز المعماري الفيكتوري" من أذنه وألصقته بيتنا، وعندما ادعى ميمون أن بيت أهله في نهاية شارعنا، يرجع بناؤه إلى حقبة الاستعمار الأجنبي، كذبته أمام الآخرين وأخبرته في ساحة المدرسة "بيتكم مبني على الطراز الفطومي" وذلك نسبة لفطوم، الشحاذة المعروفة في حارتنا، وبقية الحارات المجاورة، صاحبة الثياب الرثة، قبل أن يدمي أنفي بلكمة فجرها غيظه من كلماتي.
على الرغم من قسوة اللكمة، إلا أنني حافظتُ على موقفي، وصرتُ مع مرور الأيام والكتب أزيد من اختراع الخرافات والأساطير حول بيتنا، بيتنا الذي صار فيما بعد خرافة، خرافة خاصة بي فقط، لا أحد سوف يحكيها للآخرين غيري، وكأنني رسوله، وقد بعثني بعد أن زال عن الشارع، كي لا يزول عن ذاكرة معارفنا.
الصرصار سوف يعيش داخلي طويلاً، وسوف يغير أماكن إقامته في جسدي كل بضع سنوات، في مرحلة الدراسة الابتدائية كان يتجول وينام في رئتي اليسرى، لكن في مرحلة الدراسة الإعدادية، وعندما انتهيتُ في ذلك المساء من ممارسة العادة السرية في الحمام، وبعد أن انتشيتُ، شعرتُ به يمشى داخلي ليصعد إلى صدري، وفي صدري أقام لسنوات أخرى، في المرحلة الثانوية، شعرتُ به ذات ليلة ماطرة، يمشي داخلي حتى جوف كتفي ليستقر فيه، إلى أن دخلتُ الجامعة فصعد إلى رأسي، تجول به إلى أن عثر على زاوية مناسبة له، كنس عنها تلك المعلومات التي علقت داخل جمجمتي من الكتب، حتى صارت مناسبة له، فعاش فيها سنوات طويلة.
كنتُ الوحيد من بين أخوتي الذي يتجرأ ويقترب من مكتبة أبي، لألهو بكتبها ساعات طويلة، وعندما تنتبه لي أمي، تراقبني بخوف من بعيد. أمي منذ طفولتنا تخاف علينا من كل شيء، خصوصاً الكتب، وكأن هذه الكتب أشباحٌ شريرة، متنكرة بهيئة أوراق وأغلفة، ولطالما حاصرتنا بقبضتها الحديدية. قرأتُ آنذاك بعض الكتب، عن عمليات فدائية تقوم فيها ميلشيات ثورية، في هذا العالم، بهدف تحقيق تطلعاتها إلى الحرية. تأثرتُ بها وصرتُ في خيالي واحداً من أبطالها، شرعتُ بتنفيذ عمليات فدائية ضد أمي. مرّة أرش الملح بكرم حاتمي في طنجرة الطبخ، وأهرب قبل أن تشاهدني، مرّة ثانية أدسّ لها في جيب معطفها مجموعة حشرات، كنتُ قد قتلتها في الحديقة، ثم جمعتُ جثثها بصبر، مرّة أخرى أتسلل إلى الشرفة ليلاً لأسرق الغسيل عن الحبال، أمسحه بتراب الحديقة على عجل، ثمّ أعيد تعليقه، ليبدو صباحاً وكان عاصفة من الأوساخ قد هبتْ عليه، وليس آخرها قطع سلك التلفون لتنقطع عنه الحرارة، أو العبث بهوائي التلفاز لتشويش شاشته، لكن أخطرها كان ذلك النوع من المفرقعات، الذي يتكون من مفرقعة صغيرة، على يسارها خيط، وعلى يمينها خيط آخر، وهي في الوسط بين الخيطين، وبمجرد أن تشد الخيطين على جهتين متعاكستين تنفجر، يُفضل ــ بحسب خبرتي الفدائية ــ تعليقها على أبواب الغرف، أو أبواب الخزائن، أو داخل أي درج، وذلك بتثبيت الخيطين على طرفي الباب أو الدرج، وبمجرد فتحهما  تنفجر، مما يسبب لفاتحي الأبواب والأدراج رعباً كثيفاً في ثانية واحدة.
استمرتْ عملياتي الفدائية مع مرور الأيام بين غرف بيتنا، باتت أمي مع تكرر عملياتي شبه اليومية، أمام كارثة حقيقية، تكاد تُفقدها عقلها، على الرغم من قوة شخصيتها، وأعصابها الباردة، كانت إثر كل عملية فدائية تقترب مني، وهي تبتلع غضبها بمشقة، لتسألني متصنعة اللامبالاة: هل أنت من فعل ذلك؟
أجيبها بكلمات لطالما أرقت نومها في لياليها: هل لديك دليل على أنني من فعل ذلك؟
صحيح أنني لم أعترف، لكنني لم أكن أنكر، كانت تشعر بعد كلماتي تلك، أنني أتحدث معها بشكل قانوني، وكأننا في المحكمة.
في تلك الليلة كنت أعبث بوسادتي وأتبادل القبلات معها، متخيلاً أنها ابنة جارتنا الشهية في عتمة غرفتي، فجأةً.. تحسست أصابعي شيئاً قاسياً، خلته للوهلة الأولى حلمة نهد ابنة جيراننا، سرعان ما انتبهتُ فمزقتُ الوسادة لأعثر على ورقة مطوية بشكل غريب، فتحتها لأشاهد عليها مجموعة عبارات غامضة، ورسومات غير مفهومة، استنتجتُ أن أمي قد لجأت إلى أحد
المشايخ، وشكت له أحوالي، فكتب لها هذا "الحجاب" الذي يناشد فيه كل أنواع الجان أن يتدخلوا لينقذوني من سلوكياتي الغامضة. أخذتُ الورقة وذهبتُ إليها، كانت في المطبخ تدخن سيجارة بجانب نافذته، وتنظر إلى نهاية شارعنا في صمت الليل، وكأنها تنتظر عودة أبي.
قلتُ لها من خلفها: عثرتُ على هذه الورقة في وسادتي، هل أنت من وضعها؟
لم تلتفتْ إلي، انتبهتُ لها. كانت تعب من سيجارتها بيأس. أجابتني بملل وهي ما تزال تتأمل الشارع: هل لديك دليل على أني مَن فعل هذا؟
عدوى التشوهات الداخلية انتقلتْ مني إليها، في بيتٍ لا أب فيه، خذلها زوجها ثم خذلها ابنها في هذا العالم، والآن يخذلها الجان في العالم الآخر. لا شيء لها سوى الخذلان في كل العوالم، هكذا فهمت أمي تلك الليلة، وهي تدخن بصمت خلف نافذة المطبخ.
بعد أيام أرغمتْ أمي طالبات المعهد اللواتي كن يستأجرن غرفة القبو أسفل بيتنا على إخلائه، وبعدما أخلينه اشترتْ أثاثاً يكفي ولداً غريب الأطوار، وجلبته إلى القبو، ثمّ طلبتْ مني أن أنتقل إليه، لأترك غرفة إخوتي في الأعلى لهم. أرادت أن تبعدني عنهم، حتى لا تنتقل إليهن عدوى التشوهات الداخلية الغريبة. كنتُ سعيداً، شعرتُ أن العمليات الفدائية التي قمتُ بها خلال الأشهر السابقة، قد أدت إلى نشوء الدولة الخاصة بي، نزلتُ إلى القبو، مع ثيابي وبعض الكتب لأعيش فيه سنوات دراستي الإعدادية والثانوية، وكان بابه يصعد إلى جهة أخرى من حديقتنا، مخالفة لجهة باب البيت في الأعلى.. هذا الاستقلال أدى لانتهاء عملياتي الفدائية.
دونما أصدقاء عشتُ في هذا القبو، أقرأ في الكتب كثيراً، أدرس أحياناً، وألهو في جهاز المذياع قليلاً.
كانت جارتنا الأرملة أم محمود تزورنا دائماً، تصطحب معها ابنها محمود، ومحمود مصاب بـ "متلازمة داون"، أو ما نسميه في حارتنا "المنغولي" وكان لديه بعض التشوهات الخلقية في وجهه، مما يجعله أشبه بوحش، أولاد الحارة يخافون منه ولا يقتربون أو يلعبون معه أبداً.
لا أحد يلعب معه، إنهم يخافون منه، وأنا لا ألعب مع أحد، لا أحبهم مطلقاً.. ثمّة شيءٌ مشترك بيني وبين محمود المنغولي.
في سبيل مكافحة الملل يخترع الإنسان عدة ألعاب، يمارسها في فراغه، يحتال بها على الوحدة التي تحتل حياته، فتبدو اللعبة كأنها حبل مشنقة يتدلى منها جسد الفراغ.
اخترعت عدة ألعاب، لأتسلى فيها، تطور الأمر فابتكرتُ لها قوانين خاصة بها، واخترعتُ جمهوراً، بعضه من الجميلات، يتناثر على حيطان القبو عند بداية كل لعبة، مع صخبه وهتافاته.
صار صديقي محمود المنغولي يتسلل إلى القبو من خلال الدرج الخلفي للبيت، كلما جاء مع أمه لزيارة أمي، ظنتْ أمه في البداية أنني سأخاف منه، كما هو حال بقية الأولاد معه، سرعان ما تبخرتْ ظنونها عندما انتبهتْ إلى أن ابنها المضطرب عقلياً، يمضي ساعات طويلة معي في الأسفل، بينما تثرثر هي مع أمي وبقية الجارات في الأعلى.
مع توالي زياراته لي في المساءات، صرتُ بالنسبة للأولاد وللجارات، "الولد الذي ابتلع صرصاراً"، وأيضاً "الولد صديق الوحش".
شرحتُ له قوانين الألعاب التي اخترعتها، وهو يهز رأسه مبتسماً ابتسامة واسعة كلها فراغ، ثم عرفته على جمهور المشجعين على الحيطان، وانحنينا معاً، هو وأنا أمام صخب هتافاتهم.
علقتُ سلة المهملات على النافذة العالية التي تحاذي أرض الحديقة، التقطتُ ليمونة خضراء قاسية من تلك التي أقطفها من شجرة الليمون في حديقتنا، ومشيتُ حتى باب القبو، لأرمي الليمونة إلى خلفي، دون أن أستدير إلى سلة المهملات، فإن سقطت الليمونة في السلة كانت هدفاً.. صرنا هو وأنا نتبارز، خلال هذه اللعبة، بعدد محدد من الرميات، ثم نعيدها دون ملل.
الوغد، أنزل فيَّ هزائم نكراء، أدهشني جداً وأزعجني أيضاً.. اللعبة وقوانينها من اختراعي، نلعبها على أرضي وبين جمهوري، ويهزمني فيها هذا البدين الذي يقهقه ببلاهة بين حيطان القبو!
حتى أولئك المشجعين على الحيطان، مع توالي المباريات وتزايد انتصاراته، صاروا يشجعونه ضدي، بلا خجل أو حياءٍ، ويعانقونه بسعادة وكأنه نجمهم الرياضي المفضل، كلما فاز عليّ، ويهتفون باسمه عالياً.
علمت صديقي المنغولي تدخين السجائر، وتعلمتُ منه البلاهة، مشينا أحياناً هو وأنا في شوارع حارتنا، نتحدث بلغة غير مفهومة، لكننا كنا نشعر بها ونفهمها جيداً، بينما الجارات والأولاد يراقبوننا من فوق الأرصفة والشرفات باستغراب.
خرج أبي من السجن ورجع إلى البيت، مع مرور السنوات اكتشفنا أن أبي الذي كان في الزنزانة، أبي الذي كان في خيالنا، أبي الذي كان في الحكايات المهموسة لجاراتنا، أبي الذي كان في الدموع الصامتة لأمي، هو أجمل بكثير من أبي الذي يجلس الآن بيننا لكنه ليس معنا، عرفته ذات يوم على صديقي محمود المنغولي، فتبادلا ابتسامتين فارغتين.
كنتُ أفكر كل ليلة، بعد كل هزيمة نكراء أتعرض لها على يد الأبله، وبعد ذهابه مع أمه لبيته، وهو يلوح لي على الدرج مع ابتسامته الفارغة، وبعد أن يتبخر الجمهور عن الحيطان، أفكر أن أولئك الذين سجنوا في الزنزانات لسنوات عديدة، لو أنهم يبقون في زنزاناتهم إلى الأبد، لكي يبقوا في خيالنا أجمل مما هم عليه.. قررتُ مرة ما يلي: إذا سجنت مستقبلاً، كما هو الحال مع كل من يقرأ الكتب في هذه البلاد، وأفرجوا عني بعد سنوات عديدة، فلن أوافق على الخروج من الزنزانة، ليستمر أولادي والجيران بتأليف الحكايات الجميلة عني.
ضاع القبو مني بأن غادرْنا حارتَنا إلى حارة أخرى، سرعان ما ضاعت المدينة ذاتها مني عندما غادرتها إلى العاصمة لأتابع دراستي الجامعية، وبمجرد أن عبرتُ باب الجامعة أول مرة في حياتي، بمترين تقريباً، شعرتُ به، ذلك الصرصار الذي كان في داخل كتفي، مشى متجاوزاً رقبتي ببطء ليدخل رأسي، تجول قليلاً فيه حتى راقت له زاوية فجلس فيها بعد أن نظفها من بعض الأفكار.
جاءتْ الحرب وأنا في السنة الدراسية الجامعية الأخيرة، كانت الحرب مثل كرة ثلج تتدحرج على المنحدر، وحجمها يزداد شيئاً فشيئاً.. وقبل أن ترتطم بي تخرجتُ وغادرتُ العاصمة إلى الشمال، سرعان ما عبرتُ الحدود مع أفواج النازحين، وفي تلك اللحظة التي عبرتُ فيها الحدود، نزل ذلك الصرصار ببطءٍ من تلك الزاوية في رأسي، ومشى داخل جسدي حتى كبدي ليدخله بكسل. 
ألح ابن خالي عليّ كثيراً، حتى نزور مخيماً قريباً للاجئين، يقطن فيه الكثير من الأقارب والمعارف والجيران، بهدف الاطمئنان عليهم.. وافقت على مضض.
في صباح اليوم التالي جاء إلى غرفتي الصغيرة التي أستأجرها هنا، لنمضي معاً إلى المخيم، قضينا ساعات طويلة من النهار في التنقل بين الخيام، زُرنا الكثيرين، شربنا مع بعضهم الشاي، والقهوة مع بعضهم الآخر، وأصغينا لحكاياتهم الكئيبة بقلوب تنفطر ألماً.
شعرتُ به وأنا أتجول ببطءٍ مثل سلحفاة بين الخيام، خيمة وراء خيمة تسلل بهدوءٍ من كبدي،
ومشى الصرصار داخل جسدي حتى قلبي، ثم دخله.
علا صراخ عجوز من بعيد تنادي باسمي متبوعاً باسم أمي، مشيتُ إليها مستغرباً وأنا أمعن نظري فيها، تذكرتها، سرعان ما ابتسمت، تغير شكلها كثيراً، إنها جارتنا في حارتنا القديمة، لقد هرمت. سألتني عن أمي، حضنتني وهي تبكي، وحملتني سلاماً حاراً لأمي أمام خيمتها، وهي تهزني من كتفيّ، أردتُ أن أودعها ناوياً الذهاب، عندما خرج فجأة ابنها البدين من خيمتها، ذلك الوحش القديم، صديق القبو، ركض أليّ محمود المنغولي ليعانقني بحرارة وهو يقهقه، عانقني مشتاقاً لي، وكأنه قد انتظرني سنوات.
قالت لي أمه متعجبة: محمود تذكرك! يا إلهي؟!.. من النادر أن يتذكر أحداً..
جرني من يدي إلى خلف الخيمة، وهو يشرح لي شيئاً ما بطريقة غير مفهومة، ثمّ أشار بيده إلى شجرة قريبة، فانتبهتُ لتلك السلة التي علقها سابقاً على ساق الشجرة، ناولني ليمونة خضراء وهو يبتسم ببلاهة.
انتبه الآخرون إلينا، مشى عدد جيد من النازحين من بين خيامهم نحونا، وتجمعوا حولنا. كان يقفز حولي ويدعوني أن ألعب معه بحماس، أخذتُ منه الليمونة الخضراء وابتعدتُ عن السلة بعد أن أدرت ظهري لها، رميت الليمونة الخضراء إلى خلفي، ضحك النازحون من حولنا وصاروا يشجعوننا بحرارة ويلوحون لنا، يشبهون كثيراً ذلك الجمهور الذي اخترعته قديماً على حيطان القبو، لكنهم بثياب متواضعة.
لعبتُ معه تلك اللعبة التي اخترعتها في أيام مراهقتي، في سنوات الوحدة والفراغ بالقبو. رمية لي ثم رمية له.. وهكذا، لعبنا وضحكنا معاً، هو وأنا والناس الذين اخترعتْهم الحرب من حولنا.
عندما انتهت المباراة أسرع وقفز نحوي ليعانقني بجسده الضخم، تسبقه ضحكاته البلهاء، فسقطنا معاً أرضاً، وأجساد الآخرين تتلوى حولنا من شدة الضحك.
وأنا مستلقٍ على الأرض، نظرتُ في عينيه البريئتين، شعرتُ بالصرصار الذي دخل قلبي منذ قليل، وهو يكاد يختنق، وينطح جدران قلبي، اكتشف أنه قد دخل مكاناً ضيقاً ومعتماً، لا هواء فيه.
شدني محمود المنغولي على الأرض، ليضمني إلى جسده سعيداً، والآخرون يقتربون منا.
همستُ من فوق كتفه في أذنه، على الرغم من صخب الآخرين، دون أن أتأكد إن كان قد فهم كلماتي:
ــ أعتذر منك يا صاحبي القديم، لم أكن أنوي فعل هذا الشيء، للأسف، هذه أول مرّة أهزمك في اللعبة التي اخترعتها منذ زمن.
الآن، وبعد ابتلاعٍ استمر لسنوات طويلة، تمدد الصرصار مختنقاً في عتمة قلبي، جثة هامدة.

*قاص من سورية (إسطنبول: 8/4/2019)