Print
محمد خلفوف

الوقائع الغريبة لاختفاء عباس بن فرناس

13 أبريل 2019
قص
بداية الحكاية:
عندما استيقظ أهل الدار لم يجدوا السيد عباس بن فرناس!! كان فراشه خاليا منه. بحثوا عنه ولكن بلا أثر.. كان قد اختفى تماما!
ولولت الزوجة وبكى العيال أباهم، ثم كفوا وذهبوا إلى المدرسة، وأعدت الزوجة براد شاي لتعرف كيف تفكر على رسلها في حل للمشكلة.

***

تساءل الناس: أين عباس؟!
وحضر المقدم والبوليس، وبعض رجال الشرطة العلمية، وفرقة مدربة من الكلاب البوليسية الموثوق في حاستها الشمية.

***

شهادة المحقق ع. ع:
لحسن الحظ أن مكتب المحقق ع. ع قريب من الحي، وهو ما أوكل له التحقيق في قضية اختفاء السيد عباس بن فرناس.
((إنها حقا لقضية عجيبة! لم أشهد لها مثيلا... فغرابتها من غرابة السيد عباس بن فرناس نفسه. الذي لم أجد عنه خبرا أو ذكرا في كتب الأخبار والأسفار. لا في تحفة ابن بطوطة، أو خطط المقريزي، أو طبقات ابن قتيبة...!!! لا في كتب القدماء، ولا في كتب المحدثين!! وهناك من العلماء والمؤرخين من يشك في وجوده. ووجدت رجلاً من أهل العراق يقول إنه من مردة سيدنا سليمان!! حتى شهادة الشهود من أهل حيه تؤكد حسن سيرته وسلوكه: فلا هو بالماجن، ولا هو بالنمام أو المغتاب، لا يرتاد المقاهي، ولم يشهد يوماً في حان...
ولما رجعت إلى سيرته تبيّن لي خلوّها من أية سوابق عاطفية، تدل على عدم وجود عشيقة يمكن اللجوء إليها!!
إنها فعلا لقضية عجيبة..عجب هذه الدنيا وأهلها...)).

ولما بلغت الحيرة مبلغها من المحقق ع. ع، وتبين له الفشل والمحال، انتحر بطلقة من مسدس في الرأس!!

***

واستمر البحث أياما يسيرة ثم توقف.. وأغلقت القضية...

***

الحكاية كما يرويها السيد عباس بن فرناس:
ولما اشتدت غربتي، بين أهلي وإخوتي، جمعت رزمتي، ووليت وجهي شطر الأندلس. سرت على امتداد أيام وليال، من ظهور الحمير والبغال، إلى جوف السيارات والشاحنات... وفي رحلتي رأيت ما رأيت...
بلغت طنجيس ليلا.. ونزلت عند رجل يسمى محمد شكري بك. وكان رجل أدب وكتب وطرب.. يسكر حتى ينسى اسمه، ويبكي حتى يتذكر ماضيه...
عرفت من الإخوة في باب سبتة أن دخول الأندلس صعب المنال، وأن جنود وعساكر الإفرنجة يزحفون بكل مقترب. وكان بي شوق إلى تلكم الديار، لكثرة ما سمعت عنها من أخبار، في كتب التراجم والأسفار...ولما تذكرت أن مهنة الوالد نجار، حملت القلم والبركار، وعزمت على صنع آلة للوصول إلى الأندلس...
مكثت في عزلتي بحي الرمان، بعيدا عن الجيران. أعمل على المبتغى، لا أقوم الليل، وأشرب القهوة لمغالبة النعاس والنوم. أتذكر كلام السيد حمدان الفقيه رحمه الله، كان يقول لي دائما، بعد خلو المسجد من الصبية والمصلين:
((أنت ولد مبروك يا عباس، سيكون لك شأن بين الناس، لأنك ولد مؤذب ومهذب.. لا تسرق البيض وتحسن بشيخك...)).
ثم يعالج دكة السروال، ويلوذ بسبحته...
لما انتهيت من أمري تأملت هذا الجسد الذي صنعت يداي، كنت من الشاكرين..
وصليت ركعتين شكرا لله...
ولما قررت الخروج من عزلتي نزلت إلى طنجيس للترويح، وهناك قابلت مضيفي محمد شكري بك. تعانقنا وتساءلنا عن الأحوال والأهوال.. وكان معه رجل يدعى زفزاف: لحيته تطول، وصمته يطول. طويل كالعمود، ناحل كمهند مقدود...وبلغني من شكري بك أن له كتبا عديدة في صنوف الأدب والفنون.. وكان في ذلك من البارعين...

أخذني صاحبي إلى مبغى تكثر فيه الغجريات والأندلسيات...وقال شكري:
الفرْج من أمامك، والاست من ورائك.. وليس لك سوى النصر العزيز... ولا مفر...
وكان قد مضى بي عهد لم أعاشر فيه زوجتي، وكانت قد اشتدت رغبتي، فانتفضت فحولتي: فوطئت الأندلسية... وبلغنا في النكاح حتى أدركنا الصباح.. وسمعنا النباح.
بلغت سبتة فجرا، وكان معي شيء من الزاد والمال، وكتاب في الأدب أهداه لي صديق شكري.. وربضت عند الشط مراقبا جنود الحدود، وأضواءُ الأبراج تجول في الظلام. ولما بلغت ساعة الحسم قويت عزيمتي، وركبت آلتي، ونطقت شهادتي. دار محرك الطائرة بلا هدير، ومشت مسافة نصف متر.. ثم أخذت ترتفع عن الأرض، حتى تجاوزت السور المرتفع ذا الأسلاك الشائكة... وعندما طارت في الأجواء رأيت البحر من عل، يلتمع في هدوء. فأحسست بنشوة بالغة، نشوة النصر.. ورأيت في البعيد أضواء الأندلس مونامور.. مضيئة، مغرية...
قال القناص لزميله من خلال برج المراقبة:
- هل ترى تلك الذبابة هناك؟!
- تلك التي لا تصدر أزيزا؟!
- نعم.. كم تراهنني على إصابتها؟
- بيرتان...
- اجعلهما أربعاً؟!
- لك ذلك...

ولم تخطئ الرصاصة طريقها إلى الذبابة...
ومن خلال نافذة إحدى الحانات القريبة قالت شقراء لصاحبها:
- انظر الذباب يتساقط بشدة في الضفة الأخرى!!
- أوه.. لا عليكِ.. اشربي.. اشربي...
حاول عباس مغادرة الآلة، ولكن عبثا، لأن الحزام كان محكما جيداً إلى خصره... وحتى إذا تمكن من الخروج، فهو للأسف لا يعرف العوم، لأن مدينته بلا بحر، ووالداه كانا يمنعانه من الذهاب إلى الواد... فسبّ والديه في داخله، وشعر نحوهما بحقد شديد... وخاف من سمك القرش المفترس، لكنه تذكر أنه لا يعرف سوى السردين، وأنها ستكون فرصة مناسبة للتعرف على السيد قرش... واستسلم للأمر الواقع على رأسه.. وأخد يستمتع بلحظات الحياة الأخيرة...