Print
عمران عز الدين

روع وورع

4 أبريل 2019
قص
دخل المساعد بلهموط الدايخ، صباح الخميس، مكتبه الجديد، بعينين شبه مغمضتين، ثمّ ألقى، وهو يتثاءب، ببدنه المترهل، على الكرسيّ الحديديّ، على أملِ أن يغفوَ لساعةٍ من الزمن، يستعيد فيها بعضاً من نشاطه الّذي أهدرَ في حفلة البارحة، بمناسبة تكليفه بإدارة أمور قرية البهائم؛ نتيجة الفوضى الّتي تسبب بها المساعد الّذي سبقه، لكنّه فوجئ بمظروفٍ على الطاولة، ففتحه على وجه السرعة، وقرأه:
ـ "حاول ـ قدر الإمكان ـ أنْ تهدئَ من روع أهالي قرية البهائم في هذا الظرف العصيب".
فاستدعى ـ على الفورِ ـ الحارسَ، واستفسر منه عمن أوصلَ المظروف إلى المخفر، فردَّ الحارس كمن يلقي خطاباً:
ـ سيدي، ما إن فتحْتُ باب المخفر الرئيسّ صباحاً حتّى فوجئت بسيارة بيجو (404) مدنية، مركونة بقربه، انتابتني الشكوك، وطغى على كلّ الاحتمالات احتمال أنْ تكونَ السيارة مفخّخة، وفي غمرة شكوكي التمحيصيّة، ترجلَ منها رجلٌ لم يكن يرتدي أيّ زيٍّ عسكريٍّ، لا هو بالقصير ولا هو بالطويل، لا هو بالنحيف ولا هو بالبدين، لا هو بالأسمر ولا هو بالأشقر، لا هو بالـ...
فقاطعه المساعد مزمجراً:
ـ لك عم تقرا فال يعني؟! اختصر يا قرد.
ـ سلّمني المظروف مندوب من الأمن العسكريّ، سيّدي.
أعاد المساعد قراءة ما جاء في المظروفِ عشرات المرّات، بهمة ونشاط فريدين، إلا أنَّ كلمةَ "روع" الّتي خُتِمَت بها الرسالة استعصى عليه فهمها؛ فأشعرته بالعجز التام، لكنَّه، بعد أنْ ضربَ أخماس الحيرة بأسداسها، وأسداس الحلول بأسباعها، اهتدى إلى الحل، فاستدعى الحارس مرّة أخرى، وطلب منه أنْ يحضرَ إلى المخفرِ ـ على وجه السرعة ـ أستاذ القرية فهيم الخايب الّذي كان قد تجاذبَ معه ليلة البارحة ما تيسر من الويسكي والأحاديث في الحفل.
بعد نِصفِ ساعةٍ مَثُلَ فهيم الخايب، بلحيته النحاسيّة المتهاوشة، غير المشذبة، بين يديّ المساعد، فرحب به الأخير ترحيباً جمّاً، لم يشهده مخفر قرية البهائم منذ نِصفِ قرنٍ:
ـ أهلاً ـ يا أستاذ ـ شرفتنا. بشرفي البعثيّ أنت مثالٌ حيٌ للمواطن الصالح والمتعاون.
ـ بارك الله بكم، سيّـدي.
فاستدعى المساعد، للمرّة الثالثة، الحارس، وأمره بأنْ يحضرَ للأستاذ فنجاناً من القهوة، فهمس الحارس على الفور في أذنه:
ـ المساعد اللي كان قبلك هون قشّط كلّ شيء بالمخفر، الله وكيلك، البن والشاي والسكر.
نجا المساعد بلهموط الدايخ بقدرةٍ إلهيّةٍ من هذا المأزق غير المتوقع ما إنْ أعلنَ الأستاذ فهيم الخايب أنَّهُ صائمٌ، حامداً ربه وشاكره، فاستغرب المساعد هذا الصيام الّذي ليس في رمضان، مُرحباً به مرّة أخرى:
ـ أهلين ـ والله ـ أستاذ فهيم. بشرفي نورت. وأردف مستفسراً:
ـ هل هذه هي المرّة الأولى الّتي تُستدعى فيها إلى هذا المخفر؟
ـ لا، طبعاً.
ـ ولماذا كنتَ تُستدعى؟
ـ كلّ من تعاقبَ قبلك، من المساعدين، على هذا المخفر كانوا يفترون عليّ، ويتهمونني ظلماً وعدواناً بتدبيج التقارير عنهم، وإرسالها ـ من ثم ـ إلى الجهات المختصّة.
ـ لم تكن تفعل ذلك طبعاً؟
ـ طبعاً.
ـ بصدق، لم تخذلني فراستي الوطنيّة يوماً، وقد لاحظت من النظرة الأولى، عند تعارفنا، أنك وطنيٌّ غيورٌ.
لم ينبس الأستاذ ببنت شفة، لكنّه ارتابَ في أمرِ هذا الاحتفاء المُبالغ به، وبدأ الخوف يتسربُ إلى قلبه وحواسه، فتمتم ببعضٍ من الأدعيةِ، وما تيسر من السور، وختمها بـ: "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً...". مرّر أنامله بين لحيته، ثمّ استفسر من المساعد:
ـ سيّدي، هل من الممكن أنْ تخبرَني لماذا أنا هنا بالضبط؟
سلّم المساعد الرسالة إليه، وطلبَ منه أن يقرأَ ما جاء فيها بصوتٍ عالٍ، فامتثل الأستاذ فهيم للأمر، وقرأها  ـ كما طلب منه ـ بصوتٍ عالٍ، ثمّ أعادها إليه، فردَّ المساعد الرسالة إليه مرّة أخرى، وسأله:
ـ هل فهمتَ ما جاء فيها؟
ـ نعم، وأردف:
ـ أظن ـ والله أعلم ـ أنْ ليس فيها ما يستعصي على الفهم.
ـ حدقْ في الرسالة جيّداً أستاذ فهيم.
ما إنْ ألقى الأستاذ فهيم نظرة فاحصة أخرى على الرسالة؛ حتّى انفكَت عقدة لسانه:
ـ سيّدي، ثمّة خطأٌ إملائيٌّ في هذه الرسالة، أظن أنها "ورع" بدلاً من "روع"، فهذه الأخيرة، لم يسبق لي أنْ سَمِعْتُ بها، أو قرأتها في أيّ كتابٍ.
تهللت أسارير المساعد، فأثنى بصوتٍ عالٍ على الأستاذ فهيم:
ـ بشرفي، إنك عبقري.
ـ هذه أمور بسيطة، وتحدث بسبب العجلة، سيّدي المساعد.
ـ طيب، أستاذ فهيم. ما معنى ورع؟
ـ كُلفت منذ سنتين، من القصر الجمهوريّ، بتدريس مادة التربية الإسلاميّة لطلاب الصف الأول الابتدائيّ، بعد أنْ اعتُقِلَ الأستاذ ـ سيئ الذكر ـ معتدل الدين سماح الّذي أثبتت التحريات أنَّهُ من أشدّ الداعمين للتظاهرات الحاقدة الرامية إلى زعزعة النظام، ونشر الإرهاب، و..
فقاطعه المساعد الّذي أوشك صبره على النفاد:
ـ أعلم كلّ هذه التفاصيل الّتي جِئتَ على ذكرها، أستاذ فهيم.
ـ أعلم أنّك تعلم، سيّدي المساعد، ولكن هذا التمهيد لأشرحَ لك معنى "ورع".
ـ طيب، شو معناها؟ باختصار رجاءً.
ـ المتشدّد دينياً.
ـ دخيل رب اللي خلقك، هلأ وضحت الشيفرة، وأردف ممتناً:
ـ تستطيع أنْ تنصرفَ الآن.
قبل أنْ ينصرفَ الأستاذ فهيم، أوقفه المساعد متسائلاً:
ـ لم تقل لي لماذا أنت صائمٌ اليوم؟
فردَّ عليه الأستاذ فهيم، وهو يمسد ذقنه:
ـ سيّدي، إنّني أصوم يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، على مدار العام.
قهقه المساعد بلهموط الدايخ، حتّى دمعَت عيناه، واستفسر منه:
ـ وهل تصلي أيضاً؟
ـ الفرض بفرضه، ولله الحمد.
ـ وماذا عن الويسكي؟ أليس حراماً؟
ابتسم وهو يقول:
ـ ساعة لك، وساعة لربك.
ما إنْ انصرفَ الأستاذ فهيم؛ حتّى أعادَ المساعد ـ من جديدٍ ـ قراءة الرسالة على ضوء حل الشيفرة الّتي أكدت له أنَّ اعتقالَ المتشدّدين دينيّاً في هذه القرية، بل في سائر المدن والقرى، سيجنب البلد الوضع العصيّب، ومن ثم؛ عودة الأمور إلى سيرتها الأولى.
وعلى الفور؛ قرّر أنْ يشكلَ كَميناً مُحكماً؛ كي يتوجَهَ ظهر غد الجمعة إلى مسجد القرية؛ لاعتقالِ من سيؤمه في أثناء الخطبة.
وقد سارت الأمور كما يحبّ ويرضى، فاختار بعض العناصر، وشرح لهم خطة الهجوم، وكلف كلّ واحدٍ منهم على حدة بمهمته، مؤكداً لهم أنَّ تنظيمَ "ورع" خطر جِدّاً، لافتاً انتباههم إلى لزوم تنفيذ أوامره بدقةٍ شديدةٍ، وتوخي الحيطة والحذر.
في صباح اليوم التالي، كان منزل المساعد بلهموط الدايخ نهباً لقذائفَ ومدافعَ من مختلفِ الأشكال والأنواع، دكته دكاً، وقد تبنى تنظيم (التُقاة) الّذي يتزعمه ـ بحسب ما أُشيع بعدئذ ـ الأمير معتدل الدين سماح في شريطٍ إخباريٍّ متلفزٍ العملية؛ ما جعل كلّ من أستاذ القرية فهيم الخايب ـ الّذي كان قد قَصَّ لحيته ـ وحارس مكتب المساعد بلهموط الدايخ، يقهقهان على أطلاله.

***

*قاص من سورية.