Print
إياس غالب الرشيد

مَن الذي سقط في الخندق؟

23 مارس 2019
قص
- كان اسمه أحمد على ما أعتقد.
- يا أخي استغفر ربك؛ اسمه نزار.
- يا عبد الله، يا عبد الله. أنت تصر على إثارة عصبيتي، الرجل الذي سقط في المجاري يومها اسمُه أحمد، أنا متأكد، وما زالت آثار الخدش ظاهرة على جبينه، متى تترك هذه العادة الرديئة في طلب ذكر التفاصيل، كم مرة قلت لك لا تسأل عن التفاصيل؛ لأنك، بذلك، تُدخلني في ارتباك فأنسى، ولا داعي للأسئلة لأنني لا أملك إلا قصة واحدة، هذه القصة التي أرويها لكم دائماً، لماذا الفذلكة والسؤال عن التفاصيل؟
- اسمعني يا خليل. عندي اقتراح. نكتب القصة على ورقة ونجلدها بالبلاستيك، كي لا تبلى مع الزمن، وفي كل مناسبة أقرأها لكم، كي لا نضيع في التفاصيل، وأقترح أن نشكل لجنة من الذين كانوا أبطال هذه القصة، كي نتأكد من كل تفصيل، وبعد ذلك يصير عندنا نسخة واحدة لهذه القصة، لأن عملية الخوض والجدال في التفاصيل صارت مُتعبة.
- يا عزيزي عبد الله. أنتم تصعبون السهل، وتُعَقّدون التافه، يعني هذا الاجتماع على كأس شاي كل ستة أشهر يحتاج كل هذا التعقيد؟ إنني متنازل عن حقي في الحديث في هذا الجلسة.
- يا خليل. غدوتَ حادَّ المزاج ومتعباً.. لن نسمح بوجودك كصنم في شلتنا، ثم إنَّك تحفظُ أهمَّ قصة صارت معنا في تاريخنا، وأنت أفضل من يرويها، ونحن نريد أن تنتقل القصة إلى الأجيال القادمة مرويةً كابراً عن كابر، حتى يعرف أحفادنا بعد سنين طويلة أننا لم نكن مجردَ أرقام تافهة في الحياة، أو تفاصيل لا معنى لها، مثل الجلدة الناتئة من حذاء صُنع في ورشة أحذية وطنية.
- طيب يا عبد الله طيب، كما تريد. اسكت أرجوك. دعني أتكلم.
في الحقيقة صار عندي قصتان، القصةُ الأساسية التي لم يحدث في حياتي غيرها، وقصة أصدقائي الذين يطالبونني في كل مناسبة بروايتها، والدخول في التفاصيل، فأضيع. يا أخي، ألم تسمع أن الشيطانَ يعيش في التفاصيل... أمس قرأت على جدار الفرقة الحزبية في بلدتنا أن الشيطان يعيش في الكهوف والجبال والحمامات العامة والخاصة، وفي الفرق الحزبية، أقسمُ بالله أصبتُ بالهَلَع، كيف يكتبون بهذا الشكل عن الحزب الذي يحكم البلاد، يعني الرفيق أبو عصمان أمين الفرقة الحزبية، هذا الرجل الطيب المسكين الذي يحضر الاجتماعات بصمتٍ، ويغادر بصمتٍ، ويعيش في البلدة بصمتٍ، وأنجب أولادَه بصمتٍ، هل هذا الرجلُ الطيب شيطان؟ يا إلهي ما أبشع مَنْ كتبَ هذا الشعار. هذا أمرٌ، والأمرُ الآخر: أليس أولادُك أولى بالمال الذي اشتريت به علبة الدهان لتكتب (الشيطان يعيش في الفرقة الحزبية)؟ أنا الآنَ بوصفي مواطناً عادياً جداً يتسكعُ آخرَ الليل ليدخنَ سيجارةً في الهواء الطلق، وينتظر فرن الخبز حتى يفتح أبوابه كي أحصل على دورٍ قبل الازدحام، ماذا استفدت من هذا الشعار؟ ألا تعلم أيها الشقي أنك بهذا الفعل عرضتَ حياتي أنا أولاً ومِن ثَمَّ حياة القرية للخطر؟ افرضْ أن دوريةً للمخابرات كانت تمرُّ من هنا، وشاهدت الكتابة، يا إلهي هذا أمرٌ مرعب، من سيقنع هؤلاء أنني لست متورطاً في الكتابة ضد الحزب؟ والله لن أصل إلى مقر المفرزة، وسأموت تحت التحقيق. لا أريد أن أموت تحته، لأنني لست متأكداً حقيقةً من أنني أفكر بهذه الكلمة أو أنطقها؛ فأنا وحدي في هذا الليل، وأنا أسمع صوت نفسي، وربما أتخيل أن صوتي عال. يا إلهي، ماذا لو كنت أنطقها فعلاً وجاءت دوريةُ المخابرات وسمعتها؟ الأفضلُ ألا يفكر الإنسان، أو على الأقل يصطحب معه شخصاً آخرَ ينبهه في حال تكلَّمَ والتبس عليه الأمرُ أنه في حالة التفكير.
إذا أردنا الإنصاف يا أصدقائي؛ فالفرقة الحزبية لم تكن شراً مطلقاً. كان فيها بعض النوافذ المضيئة، القصة الوحيدة التي أعرفها في حياتي هي قصتي مع الفرقة الحزبية.
- في آواخر التسعينيات، قبل أن يهلك حافظ الأسد بقليل، تغير المزاج العام في البلاد، صار هناك منتدياتٌ أدبية، خارج نطاق الحزب والشبيبة واتحاد الكتاب والمراكز الثقافية، وثمَّة مصادفةٌ غريبةٌ جداً جرَّتني لحضور إحدى هذه المحاضرات، حيث كنت أشتغل حارساً، وقد ضقت ذرعاً من النظر إلى البلوك والإسمنت والأخشاب أمامي؛ فتركت المشروع، ومضيت أمشط شوارع العاصمة، حيث التقيت بصديقي "وسيم" الذي دعاني لحضور ندوة في أحد المنازل في حي جوبر الدمشقي، ذهبنا، وكان الأمر ممتعاً؛ فالمحاضر يقدم قراءة حول الصحافة في سورية بعد الاستقلال، لكنني كنت مشغولاً بمراقبة ماذا سيقدم أصحاب المنتدى من طعام أو شراب أثناء المحاضرة. كان الأمرُ رائعاً. شاي في البداية، وشاي في المنتصف، وشاي في النهاية، أستغفر الله في مرات لاحقة قدموا عصير كريفوت، وبعد عدة جلسات قررت أن يكون عندي منتدىً أيضاً؛ فالموضوع بسيط؛ مكانٌ وشاي، المكان موجود والشاي موجود، ونحتاج بضعة أشخاص مستعدين للحضور، وفي الأوساط التي أعيش فيها ما أكثرهم.
بعد شهر ونصف الشهر من حضور هذه الندوات عرضت على أصدقائي الفكرة، وافقوا مباشرة، ثم عقدنا أول جلسة في بيتنا، وفي مصادفة غير مدروسة، تسرب أحد جيراننا من الناشطين في الفرق الحزبية، وحضر ما قمنا به، وبعد أن غادر الأصدقاء دعاني إلى خلوة، وقال:
- ما تفعله مخالفٌ للقانون، هل عندك ترخيصٌ؟ هل أبلغت الجهات المختصة؟ هل أبلغت رفاقنا في الحزب؟ كيف تَجْمَعُ الناس في بيتك وتتحدث عن الشعر والقصة، دون أن تأخذ موافقة من أحد؟
خلال ثوانٍ قليلة، خارت قواي، وشعرت أن زوار الفجر صاروا قاب قوسين مني أو أدنى، وخيل إليّ أن هذا الرفيقَ مكلفٌ بالقبض علينا، ومجيئه لم يكن مصادفة، لذلك انهرت أمامه، وطلبت منه حلاً.
قال الرفيق الطيب: بسيطة، غداً تُراجع أحدَ الفروع الأمنية مع أصدقائك، وتعرض عليهم الفكرة، وهم سيرشدونك.
لم نتردد أنا وأصدقائي في ذلك، كنا كمن يزور الكاهن ليعترف بذنبه؛ فإذا شاء أدخله جهنم، أو أدخله الجنة، أو عفا عنه وكتم السر ريثما يأتي موعدُ الحساب.
كان الضابطُ في فرع الأمن هيِّناً ليِّناً، واقترح علينا مراجعةَ فرعِ الحزب؛ لأن هذه المسألة من اختصاصهم، وتكفَّل هو بالاتصال بالرفاق وأوصاهم بنا خيراً.
انطلقنا، وسعادةٌ غامرة تحفُّنا، ما هذا؟! لقد تغيرت البلاد. نحن ننتقل من فرع أمن إلى فرع حزب بمنتهى السلاسة، في زمن حافظ الأسد.. ربااااه ماذا يحدث!
دخلنا فرع الحزب الذي أحالنا إلى المربع الأول، وهو الفرقة الحزبية؛ ذلك المكان الذي كتب عليه ذلك اللعين: الشيطان يعيش في الفرق الحزبية.
هذا أمرٌ رائع، يعني: فَتْحُ منتدىً أدبي بهذه البساطة سيقرره الرفيق أبو عصمان. مضينا إلى منزل الرفيق أبو عصمان، وإذ بخندق عظيم يشق الشارع من أوله إلى آخره ويحوِّلُ الحارة إلى مكانين منفصلين، لقد كانت المحافظة تقوم باستبدال أنابيب المجاري المركزية؛ لذلك كان الخندق عظيماً، وارتفع التراب عالياً، فصار لزاماً علينا القفز فوق هذا الخندق العظيم حتى نصل إلى ضفة منزل الرفيق أبو عصمان.
في الحقيقة: فكرتُ في الموضوع، ولكن هذا الأمر صعب، لأن مسافة الخندق أكثر من مترين، والخندق عميق، وخشيت لو غامرت وقفزت أن أسقط في الخندق وتدق عنقي. ماذا سيقول الناس عني عندما يكتبون التاريخ؟ أنا أقول لكم ماذا سيقولون: لقد مات بعد أن وقع في خندق المجاري، مع أن الحقيقة - فيما لو متُّ مثلاً- أنني كنت أحاول فتح منتدى ثقافي، ولكن الناس تأخذ الشكل السطحي للمسألة، وأنا أعرف شعبنا المفتري، لن يقولوا: قفز من فوق الخندق الذي حفروه لتمديد المجاري قبل تمديدها، وقبل سير المياه المالحة فيه، بل سيقولون: سقط في المستودع المركزي للصرف الصحي حينما كان يحاول التحرش ببنت المختار، أو سقط في الصرف الصحي بعد أن سرق كيس تبن من أمام بايكة أبو حسن، وقد لاحظ  شباب البلدة الشجعان ذلك ثم طاردوه، ولأنه لص سقط في المجاري؛ فأراد الله سبحانه وتعالى فضحه في الدنيا والآخرة.  يا إلهي ما أبشع شعبنا، يؤلفون تاريخاً عنك، وأنت تحاول أن تؤسس لهم منتدىً ثقافياً، لذلك عدلتُ عن فكرة القفز، وقررت أن أنادي الرفيق أبو عصمان بصوت عالٍ، لعله يسمع ويخرج، وهذا ما كان. نزلت من تلة التراب التي على ضفة الخندق، ورجعت عدة خطوات، حتى أستطيع تبيان نافذة منزل الرفيق أبو عصمان، وناديت بأقصى طاقتي: أبو عصصمممان أبو عصمممان أبو عصصصصمممان.
لم تطل إجابةُ أبو عصمان، فتح النافذة، وقال: مرحباً شباب مرحباً.. مرحباً. كنت أود أن أقول لكم تفضلوا، ولكن أنتم تشاهدون بأم عينكم؛ فالمحافظة حفرت الشارع كاملاً، وطلبوا منا أن نحفر التمديدات الفرعية التي تخص بيوتنا، كي تلتقي المجارير الرئيسية مع مجارير منازلنا وتلتحم في بوتقة واحدة. ما شاء الله. ما شاء الله، الخطة الخمسية السادسة تسير على قدم
وساق.
- كان الرفيق أبو عصمان يرفع صوته كي نسمعه كمن يستغيث؛ فتجمع الناس حولنا، لذلك كان لا بد من الإسراع في حسم الموضوع.
- رفيق أبو عصمان. نريد ترخيصاً منك لإنشاء منتدى ثقافي، وهذا الترخيص يتضمن السماح لنا باستخدام مقر الفرقة في نشاطاتنا.
- ماذا تريدون؟ ارفع صوتك لا أسمعك.
- رفيق أبو عصمان. نريد ترخيصاً منك لإنشاء منتدى ثقافي، ويتضمن السماح لنا باستخدام مقرِّ الفرقة في نشاطاتنا.
- نشاط شو؟؟
- نشاط ثقافي رفيق. نشاط ثقافي رفيق.
- ثقافي شو يا زلمة؟ أي ثقافة؟! البلد مليانة ثقافة. أعد لو سمحت.
- رفيق أبو عصمان. نريد ترخيصاً منك لإنشاء منتدى ثقافي، ويتضمن السماح لنا باستخدام مقر الفرقة في نشاطاتنا، التي ستكون قصائد وقصصاً.
- ههههه. فهمت عليكم فهمت عليكم.. هذا أمرٌ رائع، والله أنا دائماً كنت أقول أنتم نخبة شباب البلدة. على كل حال أنا موافق، وسأساعدكم. جهزوا لنا كم قصيدة وكم قصة، وكم كلمة حماسية، وشوية شعارات، بعضها وطني والآخر قومي، أنتم تعرفون حزبنا حزب قومي، وأسرعوا في ذلك؛ لأن الأسبوع القادم يصادف ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد.
ما إن انتهى الرفيق أبو عصمان من آخر عبارة، حتى انطلق العكروت (ياسر عكوز) قائلاً: بالروح بالدم نفديك يا حافظ. فبدأ الناس يهتفون، ثم رفعوني على الأكتاف، وابتعدنا عن الخندق، وبدأ الهتاف يعلو، ثم بدأ الشبان يقفزون من فوق الخندق ليلتحقوا بالمسيرة، وكانت مسيرةً رائعة، شابها أمرٌ بسيط فقط، فقد زلت قدم نزار - أو أحمد- وسقط في الخندق، ولكن الحمد لله مرَّت بسلام، حيث  تحلى بشجاعة متناهية وصرخ للجميع، أكملوا المسيرة الوطنية، سأنتظركم في خندق المجاري.
يا الله ما أبشع الذاكرة الهشة، مَن الذي سقط في خندق المجاري يومها أحمد أم نزار؟ لذلك يجب توثيق الحوادث المفصلية بدقة متناهية وتجليد الوثيقة ببلاستيك حتى لا تُبلى مع تغيّر الزمن.